Untitled Document

عدد المشاهدات : 3019

الحلقة (169) من تدبر القُرْآن العَظِيم، تدبر الآيتين (273) و(274) من سورة البقرة، قول الله تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِ

 تدبر القُرْآن العَظِيم

الحلقة التاسعة والستون بعد المائة الأولى
تدبر الآيتين (273) و(274) من سورة البقرة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
 لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) 
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
تحدثنا في الحلقة السابقة عن قول الله تعالى في الآية 272 (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ- 272)
وقلنا أن سبب نزول هذه الآية أن بعض الصحابة كان لهم أقارب فقراء من المشركين، وكان لبعض الأنصار أنساب فقراء من يهود المدينة، فسالوا الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هل نتصدق عليهم ؟ فكأن الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يحب الصدقة اليهم طمعًا في اسلامهم، فنزلت هذه الآية الكريمة، يقول الله تعالى (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ) يعنى أنت يا محمد لم تكلف بهدايتم، وانما كلفت بابلاغهم.  (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) فالهداية بيد الله تعالى.
اذن نهي الله تعالى في هذه الاية عن منع النفقة على غير المسلم طمعًا في اسلامه.
ومع ذلك يوجه الله تعالى في الآية التالية الى أن الأولى بالإنفاق عليه، ليس هذا المشرك، فيقول تعالى (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ... الخ الآية) يعنى الصدقة تكون لهؤلاء.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يذكر الله تعالى في هذه الاية الكريمة ثلاثة صفات لمن يستحق الزكاة والصدقة والانفاق عليه، فيقول تعالى (لِلْفُقَرَاءِ) 
هذه هي أول صفة، وهي صفة الفقر، والفقر هو أشد الحاجة، وهو الذي ليس عنده شيء، وأصل كلمة الفقر، هو الذي كسرت الحاجة فقار ظهره.
والفقير اشد حاجة من المسكين.
ولذلك في الآية (60) من سورة التوبة عندما ذكر تعالى مصارف الزكاة والصدقات قال تعالى (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ)
فبدأ بالفقراء لأنهم الأكثر حاجة ثم قال المساكين
يقول المفسرون أن المقصود بالفقراء هنا هم فقراء المهاجرين من أهل الصفة، لأن الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عندما أمر بالهجرة الى المدينة، نزل المهاجرون على اخوانهم من أهل المدينة، وكان ربما يقدم المهاجر فيقترع أهل المدينة على من ينزل عنده منهم.
ثم صار الاسلام ينتشر، ويكثر المهاجرون الى المدينة من الفقراء، وربما لا يتيسر لبعضهم مكان يأوي اليه، فكانوا يأوون الى المسجد، ويبيتون في  المسجد، فبنيت لهم "صفة" يعنى "ظلة" لأن المسجد النبوي في بداية أمره لم يكن له سقف، فجعلت ظلة في آخر المسجد من جريد النخل، يأوي اليه ويبيت فيه من ليس له مأوي من فقراء المهاجرين العزاب، وعرفوا هؤلاء بأهل الصفة.
وهذا المكان معروف الى الآن بالمسجد النبوي، ويعرف بدكة الأغوات، لأنه كان مكان مخصص للذين يعملون في خدمة المسجد النبوي، وكان لقب هؤلاء الخدم هو الأغوات
.
وكان أهل الصفة يقلون أحيانًا ويكثرون أحيانًا، لأن بعضهم كان يتيسر له مكان فينتقل اليه، وكان يجيء ناس جديدة، وهكذا، فتارة يكونون عشرة أو عشرين أو خمسين أو سبعين 
وأما جملة من آوي الى الصفة فكانوا نحو اربعمائة من الصحابة، وقيل أكثر من ذلك، وكان منهم أسماء معروفة، مثل: بلال، وصهيب الرومي، خباب بن الأرت، أبو هريرة، أبو ذر الغفاري، سعيد الخدري، حذيفة بن اليمان، عبد الله بن مسعود
ولا شك أن هذه الآية وان كانت قد نزلت في اهل الصفة، ولكنها تتناول كل من دخل تحت صفة الفقر.
 

مكان أهل الصفة الآن في المسجد النبوي
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
واللام في قوله تعالى (لِلْفُقَرَاءِ) متعلق بمحذوف، وتقدير الكلام اجعلوا صدقاتكم وزكاتكم ونفقاتكم لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
ومن فوائد هذا الحذف: تعليم المنفق الأدب في عطائه للفقير، بألا يصرح له بأنه ما يعطيه اياه هو صدقة، حتى لا يشعره بالمذلة والضعف.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
 (الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ)
الصفة الثانية من صفات هؤلاء الذين يستحقون الزكاة والصدقة والانفاق، هم (الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأرض) 
وكلمة (أُحْصِرُوا) يعنى حبسوا ومنعوا .
كما نقول الجيش محاصر، يعنى محبوس في مكان لا يستطيع أن يخرج منه، لأنه اذا خرج فانه سيقتل.
ولذلك قال بعدها (لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأرض) والضرب في الأرض، هو السير في الأرض 
وهذا هو بالضبط هو حال المهاجرين في ذلك الوقت
لأن الجزيرة العربية كلها كانت تحارب المسلمين، فكان اذا خرج أحد الصحابة عن المدينة للتجارة لا يأمن أن يقتل، وكان المهاجرون أهل تجارة لا يجيدون حرفة غيرها، بينما كان غالبية أهل المدينة من المزارعون، وبعضهم كان صاحب حرفة، فكانوا لا يحتاجون الى الخروج من المدينة
فهؤلاء المهاجرون أصابهم الفقر الشديد لأنهم (أُحْصِرُوا) يعنى حبسوا، (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) بسبب هجرتهم الى المدينة فِي سَبِيلِ اللَّهِ تعالى.
كذلك (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) تشمل أحوال أخري كثيرة، فمن هؤلاء من صار عاجزًا بسبب جراحات أصابته في القتال فِي سَبِيلِ اللَّهِ تعالى.
ومنهم من وقف نفسه على الجهاد فِي سَبِيلِ اللَّهِ تعالى.
ومنهم من وقف نفسه على تعلم العلم من رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- 
ومنهم من وقف نفسه على خدمة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فكل هؤلاء (أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ) وان كانت الصورة الأساسية هو أنهم كانوا محصورين ومحبوسين في المدينة خوفًا من القتل ان خرجوا منها للتجارة، وكان هؤلاء المهاجرون غالبيتهم من أهل التجارة. 
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وعبر في الآية الكريمة "بأحصروا" بالبناء للمجهول، للإِشعار بأن فقرهم لم يكن بسبب تكاسلهم وإهمالهم في مباشرة الأسباب ، وإنما كان لأسباب خارجة عن إرادتهم
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
 (يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف)
الصفة الثالثة من صفات هؤلاء الذين هم أولى الناس بالإنفاق والزكاة والصدقة، وهي العفة.
يقول تعالى (يَحْسَبُهُمُ) يعنى يظنهم
(الجاهل) ليس المقصود بالجاهل هما هو ضد العقل، ولكن المقصود الجاهل بحالهم، الذي لا يعرف أنهم فقراء. 
 (أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف) الغنى هو المستكفي والمستغي بما لديه عن الناس
والتعفف هو ترك الشيء والكَفُّ عنه.
فهم من كثرة تعففهم تحسبهم وتظنهم أغنياء وليسوا فقراء
(تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ)  السِّيْمَا هي: العَلاَمَةُ التي يُعْرف بها الشي
وهي –كما قال العلماء- أثر الجهد على وجوههم، أو صفرة ألوانهم من الجوع، أو رثاثة ثيابهم وغير ذلك.
كأن الآية الكريمة تحثك على بذل الجهد في البحث عن هؤلاء الفقراء، وتقول لك لا يغرك تعففهم فتحسبهم أغنياء وانما تفرس في وجوههم وثيابهم وأحوالهم، حتى تعرفهم وتميزهم
(يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
 (لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) هذا أيضًا من تعففهم 
والإلحاف هو الإِلحاح في المسألة بأن لا يفارق -السائل المسئول- إلا بشيء يعطاه .
ومنه اللحاف الذي يتغطى به الإنسان، لأنه يشمل الانسان بالغطاء، وكذلك الذي يلح في المسألة يشمل كل وجوه الطلب.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وهنا سؤال اذا قرأت هذه الآية تفهم لأول وهلة أنهم يسألون ولكنهم يسألون بغير الحاف أو الحاح.
فاذا كانوا يسألون كيف يظنهم الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ ؟ 
واذا كانوا يسألون فأنت لست في حاجة الى أن تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ
هذا السؤال له اجابتين أو تفسيرين:
التفسير الأول: أن هؤلاء من صفتهم أنهم لا يسألون الناس أبدًا، لا بالحاف ولا بغير الحاف، ولكن الله تعالى قال (لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) للتعريض وذم الملحفين
ومثاله إذا حضر عندك رجلان أحدهما قور قليل الكلام، والآخر سفيه كثير الكلام، فاذا أردت أن تمدح الأول وتذم الثاني تقول: فلان رجل عاقل وقور لا يخوض في السفاهات، فأنت عندما قلت "فلان عاقل وقور" لم يكن هناك داعي أن تقول (لا يخوض في السفاهات) ولكنك قلت (لا يخوض في السفاهات) حتى تعرض بالثاني وتذمه   
فقوله تعالى (لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) لا يعنى أن هؤلاء من صفتهم سؤال الناس بغير الحاف، وانما المقصود به التعريض بالملحفين وذمهم
روي مسلم في صحيحه عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "لَا تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِأَحَدِكُمْ حَتَّى يَلْقَى اللهَ، وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ" والمزعة هي نتفة اللحم الصغيرة 
لماذا هذا العقاب ؟ لأن الْعُقُوبَاتِ تكون فِي الْأَعْضَاءِ الَّتِي كَانَتْ بِهَا الْمَعَاصِي، وهذا السائل سال بوجهه، كما نقول: وجهه مكشوف.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
التفسير الثاني: قال البعض أن قوله تعالى (لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) يعنى لَا يَسْأَلُونَ الا عند الحاجة الشديدة، والحاجة الشديدة يعنى أن لايجد ما يأكله
يقول ابن عباس في تفسيره: إذا كان عنده غداءٌ لم يسأل عشاءً، وإذا كان عنده عشاءٌ لم يسأل غداءً.
وهذا جاء به ابن عباس من حديث رسول الله ل رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"من سأل شيئاً وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم‏. قالوا‏:‏ يا رسول الله، وما يغنيه‏؟‏ قال‏: ما يغديه أو يعشيه‏"
ثم اذا سأل فانه لا يلح وانما يسال بلطف أو يعرض في السؤال يعنى يلمح 
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
)وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) تحريض للمؤمن على البذل والسخاء، وترقية نفسه على الشعور بمراقبة الله –سبحانه وتعالى-.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
روي مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ" .
في أحد الدول العربية قاموا بحملة ضد التسول، فظبطوا الف وخمسمائة متسول، فلما حققوا معهم، كان من بين الألف وخمسمائة خمسة فقط فقراء، والباقي أغنياء، وأحدهم كان يملك عدة ملايين، فلما سألوه لماذا تتسول وأنت غنى ؟ قال: هذه قضية مبدأ !
متسول ثري
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
روى مسلم في صحيحه عن عوف بن مالك قال : كنا تسعة عند رسول الله فقال: " ألا تبايعون رسول الله ؟ فقلنا علام نبايعك؟ قال: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، والصلوات الخمس، وتطيعوا، ولا تسألوا الناس . فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فلا يسأل أحداً يناوله إياه
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
من أشهر أهل الصفة "ابو هريرة" لأنه أسلم في السنة السابعة من الهجرة، يعنى بعد سبعة عشر عام من بعثة الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنه كان من أهل اليمن، فلما بلغته دعوة الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جاء الى المدينة وأسلم، أراد أن يعوض ما فاته فلزم الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يتركه أبدًا، ولذلك هو من الذين (أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) يعنى حبس نفسه فِي سَبِيلِ اللَّهِ في طلب العلم.
وكان أبو هريرة يقص كيف كان يعاني من الجوع، وأنه كان يشد الحجر الى بطنه من الجوع، وكان يصل به الأمر الى أن يغشي عليه من شدة الجوع، وكان من عفته لا يذكر أنه قد غشي عليه من الجوع، فكان الصحابة يعتقدون أن به مرض.
يقول أنه يومًا كان جائعًا جوعًا شديدًا فقعد في طريق الناس لعل أحدهم يدعوه الى الطعام، فمر به أبو بكرن فساله أبو هريرة عن آية من كتاب الله، وهو يعلمها، لعل أبو بكر ينتبه الى ما فيه من جوع ويدعوه الى الطعام، فأجابه أبو بكر ولم ينتبه اليه ومضى، ثم مر به عمر، فساله عن آية أخري لعله ينتبه اليه، ولكن عمر أجابه ثم مضى، ثم مر به رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلما رآه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عرف ما به فتبسم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال له: يا أبا هر. قال: لبيك يا رسول الله، فقال له -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الحق بي. دخل الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بيته ومعه أبو هريرة، فوجد لبنًا في قدح، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أين هذا اللبن ؟ فقالوا: أهداه لك فلان من الأنصار. فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يا ابا هر. قلت لبيك يا رسول الله، قال: اذهب الى أهل الصفة فادعهم لى. يقول أبو هريرة: فساءني ذلك، وقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة؟!، كنت أحق أنا أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، يقول: فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا وأخذوا مجالسهم من البيت. قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يا ابو هريرة  خذ فأعطهم . يقول: فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، حتى شربوا جميعًا وانتهيت الى الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأخذ القدح بيده وتبسم وقال: اقعد واشرب، يقول فقعدت فشربت، وأعطيته القدح فقال اشرب، فما زال يقول اشرب حتى قلت: والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكا، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فأرني،  فأعطيته القدح فحمد الله وسمى وشرب الفضلة، والحديث رواه البخاري.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
هذه القصة هي صورة دقيقة لهذه الآية الكريمة
أبو هريرة كان من أهل الصفة فقيرًا لا يملك أي شيء، لا يجد ما يأكله، يشد على بطنه الحجر من الجوع.
وهو من الذين (أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) يعنى حبس نفسه فِي سَبِيلِ اللَّهِ، في حفظ حديث رسول الله.
وهو عفيف (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) كان يغشي عليه من شدة الجوع، ويربط على بطنه الحجر من الجوع، ومع ذلك لا يسال
كان هناك طبيب جراح يقول أنه يعمل بالجراحة منذ عشرين عامًا، يقول لم يمر عليه طوال عمله فقيرًا عنده عزة نفس مثل هذا الفقير: رجل عنده ورشة أحذية، احتاجت ابنته الى عملية جراحية في القلب، وهو لا يملك ثمن العملية، فاتصل الطبيب ببعض المحسنين، وتم تغطية ثمن العملية بالكامل، فاتصل بالرجل وبشره بأنه قد تم جمع مبلغ العملية، وأنه قد تم تحديد موعد للعملية، فقال الرجل: أعتذر ! قال الطبيب: لماذا ؟ قال: أنا عندي شيء أبيعه، اجعل هذا المبلغ لانسان ليس عنده شيء يبيعه، وبالفعل باع الرجل الماكينات التى في ورشته وباع ورشته، وأجري العملية لابنته، وعاد يعمل صانعًا يعمل يومًا بيوم.
يقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "إنّ الله تعالى يحبّ الحَيّيِ الحليم المتعفف، ويبغض البذيّ السئال الملحف"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
هذه الآية هامة جدًا لأنها توجه الى الذي ينبغي أن نتصدق عليه وأن ننفق عليه.
وكما قلنا فان الآية ذكرت ثلاثة صفات:
الصفة الأولى هي صفة الفقر، وقلنا أن الفقير هو الذي لا يملك شيئًا، اذا لم تجد هذه الفقير، فتعطي اشد الناس احتياجًا، وتجتهد حتى تصل الى الأشد والأكثر احتياجًا
الصفة الثانية (أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) يعنى تعطي أهل التدين وأهل الصلاح، لأن الانسان الصالح اذا أعطيته فأنت تعينه على الطاعة، أما أهل المعصية اذا أعطيته فأنت تعينه على المعصية 
وأيضُا قلنا أن (أُحْصِرُوا) مبنى للمجهول، للإِشعار بأن فقرهم لم يكن بسبب تكاسلهم وإهمالهم في مباشرة الأسباب ، وإنما لأسباب خارجة عن إرادتهم. 
فأنت تعطي اما غير قادر على العمل بسبب مرض أو عجز، أو ارملة مشغولة برعاية ابنائها مثلًا، أو تعطي من يعمل ويجتهد ولكن عمله لا يصل به الى حد الكفاف.
اما اذا كان انسان قادر على العمل، ويتعمد الا يعمل فهذا غير مستحق للزكاة أو الصدقة.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْأَلُهُ فَقَالَ أَمَا فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ، قَالَ بَلَى حِلْسٌ نَلْبَسُ بَعْضَهُ وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ وَقَعْبٌ نَشْرَبُ فِيهِ مِنْ الْمَاءِ (الحلس: كساء يوضع على ظهر البعير، والقعب: إناء من فخار) قَالَ ائْتِنِي بِهِمَا قَالَ فَأَتَاهُ بِهِمَا فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ قَالَ رَجُلٌ أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ، قَالَ مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ، قَالَ رَجُلٌ أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ وَأَعْطَاهُمَا الْأَنْصَارِيَّ، وَقَالَ اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا فاعطه إِلَى أَهْلِكَ، وَاشْتَرِ بِالْآخَرِ قَدُومًا فَأْتِنِي بِهِ، فَأَتَاهُ بِهِ فقَالَ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَهُ اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ وَلَا أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا ثَوْبًا وَبِبَعْضِهَا طَعَامًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ الْمَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ 
الصفة الثالثة: (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) العفة، لأن الذي يمد اليك يده، قد مد يده الى ألف شخص قبلك وسيمد يده الى ألف بعدك، فلا تقلق عليه، أما العفيف فلا احد يشعر به
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
.(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)
هذه أربعة عشر آية تتحدث عن النفقة والمنفقين، ويختم الله تعالى الحديث عن النفقة والمنفقين بهذه الآية الكريمة، فيمدحهم الله ويقول (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً) يعنى ينفقون في كل أحوالهم
(فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)
يقول ابن عباس، نزلت هذه الآية في على بن أبي طالب: كان عند علي بن أبي طالب أربعة دراهم لا يملك غيرها، فتصدق بدرهمٍ سرًّا، ودرهمٍ علانيةً، ودرهمٍ ليلًا، ودرهمٍ نهارًا، فنزلت هذه الآية.
لافتة في أحد مطاعم دولة المغرب الشقيقة