Untitled Document

عدد المشاهدات : 1416

الحلقة (194) من "تدبر القُرْآن العَظِيم" تدبر الآيات تدبر الآيات من (45) الى (48) من سورة "آلَ عِمْرَانَ" قول الله تعالى (إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيه

 تدبر القُرْآن العَظِيم

الحلقة  الرابعة والتسعون بعد المائة الأولى
تدبر الآيات من (45) الى (48) من سورة "آلَ عِمْرَانَ"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) 
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
تقص علينا الآيات التالية قصة ولادة عيسي –عليه السلام- فيقول تعالى 
(إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ) والمقصود بالملائكة هو جبريل –عليه السلام- لأن الله تعالى قال في سورة مريم (فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا)
ولكن ذكر بالجمع فقال تعالى (الْمَلَائِكَةُ) اما أن ذلك لتعظيم جبريل –عليه السلام- أو أن الذي خاطب السيدة مريم هو جبريل ومعه جمع من الملائكة.
(يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ) ‏وَالتَّبْشِيُر‏ هو الاخبار بِمَا يَسُرُّ، وهو من تغير بشرة الوجه عند استقبال خبر حسن.
وقد بدأ جبريل حديثه للسيدة مريم بقوله (يُبَشِّرُكِ) حتى يمهد لها الخبر الذي سيلقيه عليها وترتج له نفسها أنها ستحمل من غير زوج. 
فحين يبدا كلامه بقوله (يُبَشِّرُكِ) تعلم أن وراء هذا البلاء خير وأمر حسن وأمر بسر.
(بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) يعنى إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بمولود لن يحصل بواسطة الزوج، وانما يكون وجوده بِكَلِمَةٍ مِنْ الله، وهي كلمة كن فيكون.
(اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ)  
العَلَم الذي يدل على الشخص في لغة العرب له ثلاث حالات: اسم وهو ما يطلق على المسمى أولاً
واللقب والذي يشير الى  رفعة صاحبه أو ضِعَتِه
ثم الكُنْية وهو ما كان فيه أب أو أم 
فقوله تعالى (الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) يحمل هذه الحالات الثلاثة: فالمسيح لقب، وعيسي اسم، وابن مريم كُنْية.
وقد لقب عيسي بالمسيح، لمسحه وسياحته في الأرض للدعوة الى الله فلم يكن له مكان واحد، أو لأنه كان يمسح المريض فيشفي، أو لأن الله مسحه من الذنوب.
وأما عيسي فهو اسمه –عليه السلام- وهو من البياض والصفاء والنقاء، فكانت العرب تقول: ناقة عيساء أي ناقة بيضاء، وبعيراً عيسى.
وأما (ابْنُ مَرْيَمَ) فهي كنيته –عليه السلام- 
اذن ذكر الله تعالى للمسيح لقبًا وهو المسيح، واسمًا وهو عيسي، وكنيه وهو ابن مريم.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم ذكر تعالى أربعة صفات لعيسي –عليه السلام- فقال تعالى 
(وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ) أي ذو وجاهة ومكانة وقدر فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ.
كما قال تعالى في شأن موسى (وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا) أي ذو مكانة وقدر عند الله تعالى.
وهو مشتق من الوجه للإنسان، لأن الوجه هو أشرف أعضاء الانسان.
وهذا معنى هام جدًا، لأن الوجاهة فِي الدُّنْيَا والتى نعرفها هي وجاهة أصحاب المناصب، وهذا غير متحقق في أمر عيسي –عليه السلام- فقد كان –عليه السلام- فقيرًا، وليس له عصبة، ومطارد من اليهود، ومن الدولة الرومانية، وهذه اشارة الى أن الوجاهة الحقيقة في الدنيا ليست هي وجاهة أصحاب المناصب، ولكن الوجاهة الحقيقية هي أن يكون له مكانة في القلوب وأثر في النفوس، وهذا –ولا شك- متحقق في أمر عيسي –عليه السلام- ولذلك قال تعالى (وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ)
والوجاهة في الآخرة أن يكون ذا مكانة عالية يوم القيامة، ومن وجاهته في الْآَخِرَةِ مخاطبة الله تعالى له يوم القيامة، فيقول تعالي (أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّه) فيقول عيسي –عليه السلام- (سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ  إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) الى آخر هذه المناقشة التى ذكرها تعالى في أواخر سورة المائدة.
(وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) أي مقربًا من الله تعالى، فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)
الصفة الثالثة لعيسي –عليه السلام- أنه سيكلم الناس (فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا) 
والمهد هو المكان الذي ينام فيه الطفل الرضيع، وهو مأخوذ من التمهيد، يعنى المكان الذي يمهد ويهيء لنوم الطفل. 
والمعنى أنه سيكلم الناس وهو طفل رضيع، وهذا الذي حدث بعد أن حملته أمه السيدة مريم الى قومها، فاتهمها قومها بالزنا، وقالوا (يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) فتكلم ليبريء أمه، (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)) 
يقول تعالى (فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا) والكهولة هل المرحلة بين الشباب والشيخوخة، وهي بعد سن الثلاثين، وهو مأخوذ من القوة، كانت العرب تقول "اكْتَهَلَ البيت" إذ طال وقوي، وكانوا يقولون "اكْتَهَلَ النَّباتُ "إذا قَوِيَ وتَمَّ .
فاذا كان كلام عيسي –عليه السلام- وهو في المهد معجزة، أجراها الله تعالى لعيسي –عليه السلام- ليبرأ أمه السيدة مريم البتول، وايضًا لتكون شاهدة على صدق نبوته، فما دلالة قوله تعالى (وَكَهْلًا) اذا كان كل الناس يتحدثون وهم في مرحلة الكهولة ؟
نقول أن قوله تعالى (وَكَهْلًا) فيه اشارتان:
الاشارة الأولى: اشارة الى أن عيسي –عليه السلام- بشر يَتَغَيَّرُ بِمُرُورِ الْأَزْمِنَةِ عَلَيْهِ، وان مثله مثل جميع بنى آدم، يكون طفلًا ثم صبيًا ثم شابًا ثم كهلًا، ولو كان إِلَاهًا لما جاز عليه ذلك.  
الاشارة الثانية: اشارة الى نزوله في آخر الزمان، لأن كلامه وهو طفل معجزة، فلابد أن يكون كلامه في كهولته معجزة كذلك، وهذا لا يكون الا اذا تكلم بعد رفعه نزوله من السماء الى الأرض. 
(وَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي من الأنبياء الصالحين.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)
قالت السيدة مريم على سبيل العجب والاستغراب (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ)
وهي هنا اما أنها توجهت بالخطاب الى الله تعالى، أو أنها تخاطب المَلَك فتقول (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ) يعنى يا سيدي أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ، لأن الرب تأتي بمعنى السيد. 
وقولها عليها السلام (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) كناية عن الجماع، كما قال تعالى في سورة النساء (أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ) أو أنه ليس كناية وانما على الحقيقة أنه لم يلمسها رجل طوال حياتها ولو عن طريق الخطأ، وهذا من شدة عفتها وطهرها.
البعض يتساءل: كيف استنتجت السيدة مريم أن هذا المولود سيأتي من غير اب ؟ فجبريل –عليه السلام- بشرها بهذا المولود ولم يقل لها أنه سيأتي من غير اب، فلماذا لم يأت ببالها أنه يبشرها بمولود سيأتي بطريقة طبيعية، يعنى أنها ستتزوج ثم تأتي بهذا المولود ؟
قال العلماء: اما أن جبريل –عليه السلام- قد أخبرها أن هذا المولود سيأتي من غير أب، ولكن القرآن لم يذكر هذا، لأن القرآن قائم على الإختصار.
واما أنها فهمت أنه سيأتي من غير أب، من قول جبريل (بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) يعنى سيأتي بكلمة الله وهي كلمة كن فيكون، وهذا يعنى أنه لن يحصل بواسطة الأب، ثم من قول جبريل (اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) والمفروض أن ينسب الطفل الى أبيه، فلما نسبه اليها علمت أنه سيأتي من غير أب 
(قَالَ كَذَلِكِ) يعنى نعم فهمك صحيح، وأنك ستنجبين طفلًا دون ان يمسك بشر، ولذلك يقف البعض بعد (كَذَلِكِ)
(كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) 
وهنا قال تعالى (يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) وفي قصة زكريا قال تعالى (قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) لأن في قصة زكريا كان هناك أب وأم فناسب ذلك أن يقول تعالى (يَفْعَلُ) لأن لفظ الفعل يستعمل فيما يجري عليه قانون الأسباب، أما في قصة المسيح، فليس هناك أب فناسبه أن يقول (يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) ونحن نقول: خلق السماوات والأرض، ولا نقول: فعل السماوات والأرض.
(إِذَا قَضَى أَمْرًا) يعنى اذا أراد أَمْرًا
(فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وكلام عيسي في المهد معجزة عظيمة لنبي الله عيسي -عليه السلام- ومع ذلك فان هذه المعجزة ليست مذكورة في اي انجيل من أناجيل النصاري، فهي من الأمور التى اخفاها النصاري، والسبب أن أول كلمة نطق بها عيسي –هليه السلام- أن أعلن عبوديته لله تعالى، يقول تعالى في سورة مريم (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30)) وهذا الكلام ينقض القضية التى وضعوا فيها عيسي –عليه السلام- وهي أنهم جعلوه الأهًا أو ابن اله.
معجزة تكلم المسيح في المهد ليست مذكورة في اي انجيل من أناجيل النصاري
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48)
(وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ) أي الكتب المنزلة قبل عيسي، وهي صحف ابراهيم، وزبور داود وغيرها من الكتب، ثم ذكر التوراة وحدها، من باب ذكر الخاص بعد  العام لأهمية التوراة بالنسبة لرسالة عيسي، لأن رسالة عيسي جائت مكملة للتوراة. 
 (وَالْحِكْمَةَ) هي السداد في القول والعمل، وقد أعطي الله تعالى الحكمة لجميع أنبياءه.
من حكم عيسي –عليه السلام- كلمته الشهيرة "من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر" وقصة هذه الكلمة أن المسيح –عليه السلام- كان واقفًا في الهيكل يعظ الناس، فدخل عليه بعض أعداءه من كهنة اليهود، ومعهم امرأة أمسكوا بها، وقالوا له أنهم قد أمسكوا هذه المرأة وهي متلبسة بالزنا، وطلبوا منه أن يحكم عليهان وكانوا يقصدون بذلك احراجه، لأن حكم الزانية في الشريعة اليهودية هي الرجم، والقانون الروماني الذي يحكم المنطقة في ذلك الوقت لا يقضى بالرجم، فلو قال أنها ترجم، سيثير حفيظة الدولة الرومانية عليه، واذا لم يقل أنها ترجم، فسيسقط من عيون اتباعه، لأنه حكم بغير شريعة التوراة، ولكن عيسي –عليه السلام- قال في حكمة عظيمة "من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر" فبهتوا جميعًا، وخرجوا من الهيكل واحدًا تلو الآخر، حتى بقيت المرأة وحدها، فاتفت اليها المسيح وقال لها:  إذهَبـي ولا تُخطِئي بَعدَ الآنَ
(وَالتَّوْرَاةَ) أي علمًا بأسرار التوراة، لأن عيسي –عليه السلام- أرسل الى بنى اسرائيل، وجاء ليكمل التوراة، ويكمل ما أنقصه اليهود من التوراة، فكان لا بد أن يكون عالمًا بالتوراة
(وَالْإِنْجِيلَ) وهو ما أوحي اليه–عليه السلام-