Untitled Document

عدد المشاهدات : 4391

الحلقة (104) من تدبر القُرْآن العَظِيم: تدبر الآية (177) من سورة البقرة (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّ

 تدبر القُرْآن العَظِيم

الحلقة الرابعة بعد المائة
تدبر الآية (177) من سورة البقرة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ 
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
 

تحدثت آيات سابقة عن الأمر بتحويل القبلة من بيت المقدس الى الكعبة، وقلنا أن أغلب المسلمين امتثلوا لأمر الله تعالى بتحويل القبلة
وبرغم من أن الله تعالى ذكر من قبل أن تحويل القبلة ليس أمرًا سهلًا، فقال تعالى (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ) 
بالرغم من أن تحويل القبلة ليس امرًا سهلًا، ومع ذلك يقول تعالى في هذه الآية الكريمة أن امتثال المسلم لأمر الله تعالى في تحويل القبلة ليس هو كل شيء
لأن هذا الامتثال لأمر الله تعالى بتحويل القبلة هو دليل على الإيمان القلبي، والإيمان القلبي لابد أن يصدقه العمل، ولذلك في كل موضع من القرآن العظيم، يقول تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا) لابد ان يأتي بعدها (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) فالإيمان وحده لا قيمة له بدون عمل الصالحات، كما أن عمل الصالحات بدون ايمان لا قيمة له
ولذلك يقول تعالى في هذه الآية (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) وقرأت (لَيْسَ الْبِرُّ) بضم الراء
 يعنى ليس البر مجرد امتثالكم لأمر الله تعالى في توجيه القبلة، بل لابد أن يصدق هذا أمور أخري 
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(لَيْسَ الْبِرَّ) ما هو الْبِرَّ ؟
ذهب المفسرون الى أن (الْبِرَّ) هو الخير الواسع الكثير
وكلمة (الْبِرَّ) مُشْتَقٌّة مِنَ (الْبَرِّ) بِفَتْحِ الباء، وهو اليابسة، فهناك بحر وبر، وكانوا يعتقدون قديمًا أن البر أوسع كثيرًا من البحر، لذلك فكلمة البر في اللغة تدل على الاتساع
و(الْبَرُّ) من أسماء الله الحسنى، يقول تعالى (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) 
ولذلك ذهب المفسرون الى ان (الْبِرَّ) هو الخير الواسع الكثير، وهو اسم جامع لكل معاني الخير
ونقول أن البر هو "التقوي" لأن الله تعالى ذكر ذلك في آخر الآية الكريمة فقال (أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) اذن فالآية نفسها هي التى فسرت لنا ما هو الْبِرَّ
والوصول الى هذه الدرجة وهي درجة التقوي هي هدف كل مسلم، لأن التقوي هي التى تدخل الجنة، يقول تعالى (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا)
وقد فسر لنا الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أيضًا معنى (الْبِرَّ) روي أن أَبِي ذَرٍّ سأل رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا الإِيمَانُ؟ فَتَلا عَلَيْهِ هذه الآية: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ..... إِلَى آخِرِ الآيَةِ 
اذن فال الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فسر لنا معنى (الْبِرَّ) بأنه الإيمان
اذن فما هو (الْبِرَّ)  ؟ هل هو كما ذهب المفسورن: الخير الواسع الكثير، والإسم الجامع لكل معاني الخير ؟ أم هو الإيمان ؟ أن هو التقوي
نقول أن المعنى واحد: لأن الخير الواسع الكثير يؤدي الى الايمان والى التقوي
فالبر هو الخير الواسع الكثير، وهو اسم جامع لكل معاني الخير، وهو الإيمان وهو التقوي 
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ)
هذه الأية التى أطلق عليها بعض العلماء "آية البر" من أجمع الآيات للتكليفات الدينية، ويذكر الله تعالى فيها ستة عشر تكليفًا ايمانيًا
يقول تعالى (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ) 
الإيمان لغة هو التصديق، فالمعنى أي صدق بوجود الله وحده لا شريك له
وهنا بدأ تعالى بالأمور العقدية لأنها هي الأساس للأمور الحركية
 

(وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ) أي وصدق باليوم الْآَخِرِ وهو يوم القيامة، أي بالبعث بعد الموت، والحساب والثواب والعقاب، والجنة والنار، وقلنا من قبل أنه الله تعالى سماه (الْيَوْمِ الْآَخِرِ) لأنه آخر يوم ولا يوم بعده
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَالْمَلَائِكَةِ) وصدق بوجود الملائكة، لأن الْإِيمَانَ بِالْمَلَائِكَةِ أَصْلٌ لِلْإِيمَانِ بِالْوَحْيِ، فتؤمن بأن الملائكة عالم غيبي، وأنهم أجسام خلقها الله تعالى من نور، وأن لهم عقل، وأنهم لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ 
وهنا قَدَّمَ ذِكْرَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى ذِكْرِ الْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ، لأنهم هم الَّذِينَ يُؤْتُونَ النَّبِيِّينَ الْكِتَابَ 
الملائكة عالم غيبي، وهم أجسام خلقها الله تعالى من نور، ولهم عقل
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَالْكِتَابِ) الْكِتَابِ اسم جنس يشمل جميع الكتب المنزلة من السماء على أنبياء الله، ختى ختمت بأشرف هذه الكتب وهو "القرآن العظيم"  
فأنت تؤمن بالقرآن العظيم، وتؤمن بأن الله تعالى أنزل هذه الكتب على أنبيائه 
والكتاب" وهو اسم جنس يشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء حتى ختمت بأشرفها وهو القرآن المهيمن على ما قبله من الكتب الذي انتهى إليه كل خير واشتمل على كل سعادة في الدنيا والآخرة ونسخ به كل ما سواه من الكتب قبله وآمن بأنبياء الله كلهم صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَالنَّبِيِّينَ) وصدق بجميع الأنبياء، من أولهم إلى خاتمهم محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلا يكفر ببعض ويؤمن ببعض، كما فعلت بعض الأمم
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وكل هذه الأمور الخمسة أمور ايمانية عقدية، ثم تنتقل الآية من الحديث عن الأمور العقدية الى الأمور الحركية، لتبين أن البر مكون من أمور عقدية هي أساس الأمور الحركية، وهي أساس الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ 
ومكون من أمور حركية، ومن أعمال صالحة هي المقصود من كل تدين
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
فيقول تعالى:
 (وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ) وَآَتَى يعنى وأعطى
وكلمة (الْمَالَ) وكلمة (مالى) أصلها أصبح لى
ولذلك فالمال ليس هو النقود أو الفلوس أو المصاري، ولكن المال لغة هو كل ما يملكه الإنسان من متاع أو عقار أو حيوان أو سيارة أو أي شيء
ولكنه انصرف الى النقود لأننا بالنقود نأتي بكل شيء
اذن فقوله تعالى (وَآتَى الْمَالَ) يَعْنِي: وَأعْطَى الْمَالَ.
(عَلَى حُبِّهِ) يَعْنِي: عَلَى حُبِّ هذا الْمَالَ.
فالمعنى: أعْطَى الْمَالَ عَلَى حُبِّ هذا الْمَالَ.
وقلنا أن المال ليس النقود فقط، بل كل ما يملكه الإنسان فهو مال
فالمعنى لا تعطي الصدقة من الأشياء التى أنت مستغنى عنها، أو أشياء لا تريدها في بيتك، ولكن من الأشياء التى تحبها، ومن الأشياء التى أنت متعلق بها
 

(وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ)
أنا أشرف برئاسة جمعية خيرية، أغلب الناس تتبرع بالأشياء التى هي مستغنية عنها، وبالملابس التى لا ترتديها، ولا نقول أن نمتنع عن ذلك، ولكن لن تصل بذلك الى درجة البر، اذا أردت درجة البر فتصدق بأحب متاعك عندك
ولذلك يقول تعالى في موضع آخر (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) روي أنه لَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ ( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ
و"بَيْرُحَاءَ" كان بستانًا من النخيل في مواجهة المسجد النبوي، وكان فيه بئر عذب المياه اسمه "بئر حاء" وكان الرسول -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يحب أن يشرب من ماء هذا البئر ولذلك سمي البستان "بَيْرُحَاءَ"
وموقع هذا البستان الآن داخل المسجد النبوي بعد التوسعة بين باب الملك فهد 22 وباب 21
كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا أعجبه شيء من ماله تصدق به
روي أن عمر بن عبد العزيز  كان يشتري السكر، فيتصدق به فقيل له: لو اشتريت لهم بثمنه طعاما كان أنفع لهم من هذا، فيقول: إني أعرف الذي تقولون: ولكني سمعت الله، يقول : لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ـ وإن ابن عمر يحب السكر. 
"بَيْرُحَاءَ" كان بستانًا من النخيل في مواجهة المسجد النبوي
موقع "بَيْرُحَاءَ" داخل المسجد النبوي
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
اذن فحين نتدبر قوله تعالى (وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ) المال اما متاع واما نقد
أما المتاع فالبر أن تتصدق بأحب متاعك اليك 
كان الرسول -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عنده كساء أسود فوهيه الى احد الصحابة، فقالت له أم سلمة يومًا بأبي أنت وأمي ما فعل ذلك الكساء الأسود، فقال: كسوته، فقالت: ما رأيت شيئاً قط كان أحسن من بياضك على سواده
وقد ذكرنا قصة " أَبُو طَلْحَةَ" و"عبد الله بن عمر"
أما اذا كان المال نقدًا وهو الأغلب الآن، فالمال كله واحد، وليس هناك مال أحب اليك من آخر 
ولذلك فدرجة الْبِرَّ هنا، هو أن تعطي المال وأنت في حاجة الى المال
فكلما اقترب الانسان من الفقر، كلما زاد احتياجه للمال أكثر، وكلما كان حبه للمال أكثر
كما قال تعالى في موضع آخر (يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)
(يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(ذَوِي الْقُرْبَى) يَعْنِي: الأقارب.
وقد ذكروا أن القرابة ما جمع بينك وبينهم الجد الرابع
والأقارب هم أولى الناس بالصدقة، لحديث رسول الله -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-  "الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم اثنتان؛ صدقة وصلة"
وقلنا من قبل لو عملنا بهذا التوجيه القرآني فقط، لما كان هناك فقيرًا واحدًا في الأمة
قلنا هات كل واحد واصنع له دائرة من أقاربه، ستجد كل فقير لابد أن يدخل في دائرة رجل آخر غنى من قرابته، حتى لو كانت هناك عائلة أغلبها فقراء، ففي مقابلها هناك عائلة أغلبها أغنياء، فهؤلاء الأغنياء سيخرجون عن دائرتهم ليستعبوا الفقراء في الدوائر الأخري
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَالْيَتَامَى) واليتيم هو الذي مات أبوه قبل البلوغ، فأما من ماتت أمه فليس بيتيم، ومن يبلغ تزول عنه صفة اليتم، وهذه أحد مواضع كثيرة وصى فيها القرآن العظيم باليتيم
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
 (وَالْمَسَاكِينَ) المسكين هو الذي أسكنه الفقر، وأسكنه من السكون وهو عدم الحركة، ومن السكون وهو السكوت، لأنه لفقره لا يتكلم لأنه يري نفسه ليس على المستوي أن يتكلم، أو أن كلامه غير مسموع فيسكت
قلنا من قبل أن كلمة الفقير والمسكين اذا اجتمعا، كما في قوله تعالى (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) صار لكل واحد منهما معنى غير الآخر: الفقير هو الي ليس عنده أي شيء، والمسكين هو الذي عنده ولكن لا يكفيه
ولكن اذا افترقا، يعنى ذكرت كلمة "مسكين" وحدها، أو ذكرت كلمة "فقير" وحدها فالمعنى واحد
اذن فالمسكين هنا هو الفقير، الذي أسكنه الفقر 
وقد عرف الرسول -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمِسْكِينُ فقال: لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِالطَّوَّافِ وَلا بِالَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ، وَاللُّقْمَتَانِ وَلا التَّمْرَةُ وَلا التَّمْرَتَانِ وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ، الْمُتَعَفِّفُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ النَّاسَ شَيْئًا، وَلا يُفْطَنُ بِهِ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ.
اذن ليس المسكين هو المتسول محترف التسول، أذكر في محاضرة لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ 2001 وكان يشرح هذا الحديث، يقول أن سلطات مكافحة التسول في دمشق قبضت على ألف وخمسمائة متسول وحققوا معهم فكانت النتيجة أن خمسة منهم فقط فقراء، والباقون تتراوح ثرواتهم ما بين خمسمائة ألف الى أربعين مليون ليرة!!  (أي حوالى من 10000 الى 800000 دولار أمريكي) 
وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ، الْمُتَعَفِّفُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ النَّاسَ شَيْئًا
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
 (وَابْنَ السَّبِيلِ) السبيل هو الطريق، وقد أطلق على المسافر "ابْنَ السَّبِيلِ" لأنه يلازم الطريق في سفره، كما يقال لطائر الماء ابن الماء
فابْنَ السَّبِيلِ هو المسافر الذي يمر على بلدك الذي أنت مقيم فيه وقد فرغت نفقته فيعطي ما يوصله الى بلده
ونحذر هنا من محترفي التسول الذين يدعون أنهم من بلد آخر وفقد ماله، ويحتاج الى مبلغ كذا حتى يستطيع العودة الى بلده
واذا كان قد قل الآن موضوع (ابْنَ السَّبِيلِ) نقول أن بعض المفسرين قالوا أن (ابْنَ السَّبِيلِ) يقصد به أيضًا الضيف، وقال البعض أن (ابْنَ السَّبِيلِ) هو الذي يريد سفرا في طاعة فيعطى ما يكفيه في ذهابه وإيابه
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
 (وَالسَّائِلِينَ) السائل هو الَّذِي يَسْأَلُ
يقول الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لِلسَّائِلِ حَقٌّ وَلَوْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ.
والبعض يعتقد أن في هذا تعارض بين ذلك وبين حديث المسكين "لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِالطَّوَّافِ وَلا بِالَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ، وَاللُّقْمَتَانِ....."
نقول ليس هناك تعارض، ففي الحديث الثاني بوصيك الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأن تتحري الصدقة وأن تبذل الجهد في البحث عن هؤلاء المتعففون الذين من شدة تعففهم تحسبهم أغنياء
ومع ذلك فقد تلجأ الحاجة البعض الى طلب الصدقة والى أن يمد بده، فهؤلاء لهم حق عليك، ومع ذلك فليس معنى ذلك أن تعطي محترف التسول
وَالسُّؤَالُ مُحَرَّمٌ شَرْعًا إِلَّا لِضَرُورَةٍ يَجِبُ عَلَى السَّائِلِ أَلَّا يَتَعَدَّاهَا
" لِلسَّائِلِ حَقٌّ وَلَوْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
 (وَفِي الرِّقَابِ) هم العبيد الذين يعتقون، او المكاتبون، والمكاتب هو عبد يتفق مع سيده على أن يعتقه في مقابل مبلغ خمسون ألف دينار مثلًا، فيعمل هذا العبد حتى يحصل هذا المبلغ، فيأتي أحدهم ويسدد هذا المبلغ أو جزء منه عوضًا عنه
(وَفِي الرِّقَابِ) هم العبيد الذين يعتقون
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
كل هذا الْإِيتَاءُ وهذا الانفاق لهذه المصارف الستة التى ذكرها الله تعالى في هذه الآية، هو من الصدقة، وهو غَيْرُ إِيتَاءِ الزَّكَاةِ، لأن الله تعالى ذكر في نفس الآية من أعمال البر فقال (وَآَتَى الزَّكَاةَ) فلو كان المقصود بقوله تعالى (وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ) الزكاة، لكان قوله (وَآَتَى الزَّكَاةَ) تكرارًا لا معنى له 
ودليل آخر أن هذه الآية ذكرت (ذَوِي الْقُرْبَى) وذكرت (الْيَتَامَى) وهم ليسوا من مصارف الزكاة 
روي أن فاطمة بنت قيس أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أفي المال حق سوى الزكاة؟ قالت فتلا علي "وآتى المال على حبه".
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
 (وَأَقَامَ الصَّلَاةَ) أقام الشيء يعني جعله قائماً مستقيماً، فالمعنى أنه أَدَّاهَا عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ، بركوعها وسجودها وطمأنيتها وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي 
 (وَآَتَى الزَّكَاةَ) الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ 
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
 (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا) 
وَهَذَا انْتِقَالٌ مِنَ الْبِرِّ فِي الْأَعْمَالِ إِلَى الْبِرِّ فِي الْأَخْلَاقِ 
فيقول تعالى (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا) أي في العقود التى بينهم وبين الناس
فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَلْتَزِمَ الْوَفَاءَ بِمَا يَتَعَاقَدُ عَلَيْهِ مَعَ النَّاسِ
ومع الأسف المحاكم مكتظة بالقضايا بسبب عدم الوفاء، وأغلب هذه القضايا بَيْنَ الْأَقَارِبِ
يقول الإمام محمد عبده (مَا فَقَدَتْ أُمَّةٌ الْوَفَاءَ إِلَّا وَحَلَّ بِهَا الْعِقَابُ الْإِلَهِيُّ)
(وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا) 
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
 (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ)  
 (الْبَأْسَاءِ) مِنَ الْبُؤْسِ وهو شدة الفقر (وَالضَّرَّاءِ) مَا يَضُرُّ الْإِنْسَانَ، من مرض أو فقد مال أو فقد أهل أو غير ذلك المرض أو أي مصيبة أخري (وَحِينَ الْبَأْسِ)  أي في القتال
والترتيب فيها للانتقال من الأسهل إلى الأشد.
 

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
 (أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)
استخدم تعالى الإشارة بالبعيد لما هو قريب لأجل علو مرتبتهم.
أي هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صدقوا في إيمانهم
لأن معنى الصدق أن يطابق قولك فعلك
فأنت اذا قلت سأمر عليك غدًا الساعة الخامسة، وذهبت بالفعل في الساعة الخامسة فأنت صادق لأن فعلك طابق قولك
فهؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات صدقوا في ايمانهم، لأنهم تكلموا بكلام الإيمان فقالوا (لا اله الا الله محمد رسول الله) ثم حققوا هذا الكلام بالعمل
وهذه شهادة من الله عز وجل؛ وهي أعلى شهادة، بالصدق وبالتقوي