تَفْسِيرُ ٱلْقُرْآنِ ٱلْعَظِيمِ ٱلْحَلْقَةُ ٱلْأُولَىٰ فصل: فَضْلِ تَفْسِيرِ وتدبر القُرْآنِ العَظِيمِ

تَفْسِيرُ ٱلْقُرْآنِ ٱلْعَظِيمِ
ٱلْحَلْقَةُ ٱلْأُولَىٰ
فصل: فَضْلِ تَفْسِيرِ وتدبر القُرْآنِ العَظِيمِ

        

الحمد لله رب العالمين الذي أنزل الكتاب وعلمه،

الحمد لله رب العالمين القائل في كتابه العظيم:

﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾،
وأصلى وأسلم على رسوله الكريم، القائل

"خيركم من تعلم القرآن وعلمه"

أما بعد،،

فإِنَّ السَّبَبَ وَالغايَةَ مِن نُزُولِ القُرآنِ العَظيمِ هُوَ العَمَلُ بِهِ،

وَلَا يُمكِنُ العَمَلُ بِهِ إِلَّا بَعدَ فَهمِهِ،

وَلَا يُمكِنُ فَهمُهُ إِلَّا بِتَدَبُّرِهِ وتَعَلُّمِ تَفْسِيرِهِ.

        

 

📖 حثّ القرآن على التدبّر

لقد أكَّد القرآن الكريم في مواضع كثيرة على أهمية التدبّر والتفكّر في آياته، مُبيِّنًا أن الغايةَ من نزوله هي الفَهمُ والتأمُّل، ثم العمل بما جاء فيه من أوامر ونواهٍ.

 

🔹 قال تعالى في سورة ص:
﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾،
فبيَّن سبحانه أن الغاية من إنزال هذا الكتاب المبارك هي تدبّر الآيات واستخراج العِبَر منها، لينتفع بها أصحاب العقول السليمة.

 

🔹 وقال تعالى في سورة النساء:
﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾.

وقال سبحانه في سورة محمد:
﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾.
فهاتان الآيتان فيهما الحثُّ على تدبّر القرآن العظيم، والإنكارُ على من يُعرِض عنه ذلك.

وفي قوله: ﴿أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ إشارةٌ إلى أن ترك التدبّر علامةٌ على قسوة القلب وابتعاده عن الهداية.

 

🔹 وفي سورة الحشر يقول تعالى:
﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾،
فإذا كان الجبلُ الصّلب، مع شدّته وقساوته، لو خُوطب بالقرآن لتصدَّع وخشع، فكيف بقلوب بني آدم التي خُلِقت لتفقه وتلين؟! ولا يكون ذلك بالتدبّر والفهم والتأثر الصادق بكلام الله.

 

🔹 ويقول تعالى في سورة الحديد

(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ)

يُعاتِب الله -سبحانه وتعالى- المؤمنين في هذه الآية الكريمة ويُذكِّرهم بوجوب خشوع قلوبهم عند سماع القرآن وذكر الله، حتى لا يلحقوا بمن سبقهم من أهل الكتاب حين قست قلوبهم لطول الغفلة وترك التدبُّر.

 

فالقرآن الكريم ليس مجرد تلاوة جوفاء بألسنتنا، بل رسالة عظيمة جليلة تحتاج إلى تدبّرٍ عميقٍ يُحيي القلوب، ويزيد الإيمان، ويقود للعمل الصالح.

        

التَّرْتِيلُ مِفْتَاحُ التَّدَبُّر

قال تعالى: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾، أي بتَمهُّلٍ وتأنٍّ.

يقول ابن كثير: حتى يكون عونًا على فَهم القرآن وتدبُّره.

 

وأتعجّب حين أجلس في حلقةٍ قرآنيّةٍ في أحد المساجد "مقرأة"، فأجد الاهتمام مُنصبًّا فقط على قواعد التّجويد، مع أنّ هذه القواعد إنما وُضِعَت

لتُساعِد على تدبُّر القرآن وفَهم معانيه.

 

يقول الإمام أبو حامد الغزالي في ذلك:
"
سُنَّ ترتيلُ القراءةِ في الظاهر، حتى يتمكَّن القارئُ مِن التدبُّر في الباطن."

        

الترتيل أداة لفهم القرآن وتدبّره

يقول تعالى: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾، أي بتمهُّلٍ وتأنٍّ.
يقول ابن كثير: حتى يكون عونًا على فهم القرآن وتدبّره.

وأتعجب حين أجلس في حلقة قرآنية في أحد المساجد "مقرأة" فأجد الأهتمام منصبًا فقط على  قواعد التجويد، مع أنَّ هذه القواعد إنما وُضِعَت لتُساعِدَ على تدبّر القرآن وفَهم معانيه.

يقول الإمام أبو حامد الغزالي:
"
سُنَّ ترتيلُ القراءةِ في الظاهر، حتى يتمكّن القارئُ مِن التدبّر في الباطن."

        

نَصٌّ مِنَ التَّوْرَاةِ فِي تَعْظِيمِ التَّدَبُّرِ:

وقِيلَ وَرَدَ فِي التَّوْرَاةِ:

"يَا عَبْدِي، أَمَا تَسْتَحِي مِنِّي؟ يَأْتِيكَ كِتَابٌ مِنْ بَعْضِ إِخْوَانِكَ، وَأَنْتَ فِي الطَّرِيقِ تَمْشِي، فَتَعْدِلُ عَنِ الطَّرِيقِ، وَتَقْعُدُ لِأَجْلِهِ، وَتَقْرَؤُهُ، وَتَتَدَبَّرُهُ حَرْفًا حَرْفًا، حَتَّى لَا يَفُوتَكَ شَيْءٌ مِنْهُ. وَهَذَا كِتَابِي أَنْزَلْتُهُ إِلَيْكَ، انْظُرْ كَمْ فَصَّلْتُ لَكَ فِيهِ مِنَ الْقَوْلِ، وَكَمْ كَرَّرْتُ عَلَيْكَ فِيهِ لِتَتَأَمَّلَ طُولَهُ وَعَرْضَهُ، ثُمَّ أَنْتَ مُعْرِضٌ عَنْهُ! أَفَكُنْتُ أَهْوَنَ عَلَيْكَ مِنْ بَعْضِ إِخْوَانِكَ؟

يَا عَبْدِي، يَقْعُدُ إِلَيْكَ بَعْضُ إِخْوَانِكَ، فَتُقْبِلُ عَلَيْهِ بِكُلِّ وَجْهِكَ، وَتُصْغِي إِلَى حَدِيثِهِ بِكُلِّ قَلْبِكَ، فَإِنْ تَكَلَّمَ مُتَكَلِّمٌ، أَوْ شَغَلَكَ شَاغِلٌ عَنْ حَدِيثِهِ، أَوْمَأْتَ إِلَيْهِ أَنْ كُفَّ. وَهَا أَنَا ذَا مُقْبِلٌ عَلَيْكَ وَمُحَدِّثٌ لَكَ، وَأَنْتَ مُعْرِضٌ بِقَلْبِكَ عَنِّي! أَفَجَعَلْتَنِي أَهْوَنَ عِنْدَكَ مِنْ بَعْضِ إِخْوَانِكَ؟".

 

           

تَدَبُّرُ الرَّسولِ لِلْقُرْآنِ

انْظُرْ إلى تدبّر الرسول للقرآن العظيم!

روي مسلم عن حديث حذيفة رضي الله عنه أنّه قال:
"
صليت مع النبي ذات ليلة، فافتتح البقرة فقرأها، ثم آل عمران فقرأها، ثم النساء فقرأها، يقرأ مسترسلاً – أي بدون سرعة –، فإذا مرّ بآيةٍ فيها تسبيح سبح، وإذا مرّ بسؤال سأل، وإذا مرّ بتعوذ تعوذ."

 

وتقول السيدة عائشة رضي الله عنها:
"
قام الرسول يصلي من الليل، فلم يزل يبكي حتى بلّ حجره، ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بلّت الأرض، حتى أذن بلال للصلاة."

 

وعن أبي ذر رضي الله عنه قال:
"
قام النبي بآيةٍ حتى أصبح يرددها، وهي: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾."

 

🔹 فهذه الأمثلة تُبيّن التدبّر العميق للرسول في القرآن، وكيف كان يستشعر معانيه ويخشع لها قلبه.

        

تَدَبُّرُ الصَّحَابَةِ لِلْقُرْآنِ

عن عثمان وابن مسعود وأبي رضي الله عنهم:
"
كان الرسول يعلم الصحابة عشر آيات، فلا يجاوزها إلى عشرٍ أخرى حتى يتعلّموا ما فيها من العلم والعمل."

ويقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
"
لا خير في قراءة لا تدبّر فيها."

        

موقف تدبّر عباد بن بشر في غزوة ذات الرقاع

في السنة السابعة من الهجرة، أثناء عودة جيش المسلمين من غزوة "ذات الرقاع"، نزل الجيش في أحد المنازل للراحة والنوم.

وعين الرسول ﷺ رجلين للحراسة، وهما: عباد بن بشر من الأنصار، وعمار بن ياسر من المهاجرين، فقسما الليل بينهما.

كانت نوبة عباد بن بشر، فقام يصلي بالليل، بينما نام إلى جواره عمار بن ياسر.

فجاء أحد المشركين من غطفان ورماه بسهم فأصاب عباد في كتفه. فنزع "عباد" السهم وأكمل صلاته.

ثم رماه بسهم آخر فنزعه وأكمل صلاته.

ثم رماه بسهم ثالث فنزعه وأكمل الركوع والسجود والتسليم، ثم أيقظ عمار بن ياسر، ففرّ الرجل المشرك عندما رأى عمار.

فلما وجد عمار السهام الثلاثة والدماء في كل مكان، قال لعباد:
"
أفلا أنبأتني عندما رميت؟"
فأجاب عباد:
"
كنت في سورة أقرؤها، فلم أحب أن أقطعها!"

وفي رواية ابن إسحاق، قال عباد:
"
ووالله، لولا أن أضيّع ثغرًا أمرني رسول الله ﷺ بحفظه، لقطعت نفسي قبل أن أقطع قراءتي."

يعني لولا خوفه من أن يضيّع ما أمره به الرسول ﷺ من الحراسة، لفضل الموت على أن يقطع قراءته.

درس من موقف عباد بن بشر

هذا الخشوع الشديد في الصلاة لا يكون إلا بتدبّر القرآن العظيم وفهم معانيه.
أما السورة التي كان يقرؤها عباد، فهي سورة "الكهف". فانظر كم مرة قرأت سورة الكهف، وقارن بين قراءتك لها وقراءة عباد بن بشر وانفعاله بها وحبه لقراءتها.

ملاحظة: كان عمر عباد بن بشر حين حدث هذا الموقف واحدًا وأربعين سنة، وهو من الأنصار، وأحد الذين اشتركوا في بدر، وعاش بعد هذا الموقف، ومات شهيدًا بعد ذلك في معركة اليمامة سنة 11 هـ.

        

يقول القاسم بن محمد، وهو ابن أخ السيدة عائشة:
"
كنت إذا غدوت بدأت ببيت عائشة أسلم عليها، فغدوت يومًا فإذا هي تصلي الضحى وتقرأ: (فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ)، وترددها وتبكي. فانتظرت حتى مللت، فذهبت إلى السوق لحاجتي، ثم رجعت فإذا هي قائمة كما هي، تردد هذه الآية وتبكي!"

        

 

خشوع السلف وتدبّرهم للقرآن

كذلك كان كثير من الصحابة والتابعين يقومون الليل كله بآية واحدة، فيكررونها ويتدبرونها.

قام أبو حنيفة –رحمه الله- الليل كله يردد آية واحدة وهي قوله تعالى:
﴿بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ﴾.

وبعض السلف كان يقوم أربع أو خمس ليالٍ في آية واحدة، ويقول:
"
لولا أني أقطع الفكر فيها ما جاوزتها إلى غيرها."

 

ويقول أحد الصالحين:
"
لي في كل جمعة ختمة، وفي كل شهر ختمة، وفي كل سنة ختمة، ولي ختمة منذ ثلاثين سنة ما فرغت منها بعد."

وذلك بحسب درجة التدبر

 

عن رجل من ولد "عبد الرحمن بن أبي ليلي" قال دخلت علىَّ امرأة وأنا أقرأ سورة "هود" قالت لى: "يا عبد الرحمن هكذا تقرأ سورة هود، والله اني فيها منذ ستة أشهر"

وكان أحمد بن أبي الحواري رضي الله عنه إذا قُرّئ عنده القرآن يصيح ويصعق.

بل إن "زرارة بن أوفي" أحد التابعين، كان يؤمهم في صلاة الصبح، فلما قرأ: ﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ﴾ سقط ميتًا.

ويقول الحسن البصري رحمه الله:
"
إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم، فكانوا يتدبّرونها بالليل، وينفذونها بالنهار."

 

ويقول علي بن الحسين رضي الله عنه:
"
آيات القرآن خزائن، فكلما فتحت خزينة ينبغي لك أن تنظر ما فيها."

        

إن أقوال السلف وقصصهم في تدبّر القرآن كثيرة لا حصر لها.
والخلاصة أن تدبّر القرآن هو طريق السعادة في الدنيا والآخرة، وطريق النجاة من عذاب الله يوم القيامة، وهو الطريق إلى الجنة.

يقول أحد العلماء: "إن تدبّر القرآن فريضة على الأمة."