تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة الثانية والثلاثون بعد المائة الأولى
تدبر الآيتين (217) و(218) من سورة البقرة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
هذه الآية الكريمة لها سبب نزول، وهي أن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد الهجرة من مكة الى المدينة كان يرسل، ما يطلق عليه الآن "دوريات استطلاعية" حول المدينة
وفي شهر رجب من السنة الثانية من الهجرة، أي بعد سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا من هجرة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من مكة الى المدينة، وقَبْلَ غَزْوَةِ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ، أراد الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يرسل "دورية استطلاعية" جديدة، ولكن هذه الدورية الاستطلاعية ليست حول المدينة، ولكن قريبًا جدًا من مكة
فطلب الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من "عبد الله بن جحش" بعد صلاة العشاء أن يأتيه بعد صلاة الصبح في اليوم التالى ومعه سلاحه
و"عبد الله بن جحش" هو ابن عمة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو أخ "زينب بنت جحش" التى سيتزوجها الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد ذلك
وبعد أن صلى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الصبح في اليوم التالى، وجد "عبد الله بن جحش" واقفًا عند بابه ومعه سلاحه
أَمَّر الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "عبد الله بن جحش" على سرية قوامها ثمانية أفراد، منهم "سعد بن أبي وقاص" وأمرهم أن يتجهوا في سيرهم نحو مكة، ودفع كتابًا الى "عبد الله بن جحش"، وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين، ثم لا يستكره أحدًا من أصحابه
وبالفعل سار "عبد الله بن جحش" مع سريته يومين، ثم فتح الكتاب وقرأه فاذا فيه: "إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة، فترصد بها قريش، وتعلم لنا من أخبارها"
و"نخلة" هو مكان تعرفه العرب، يقع بين مكة والطائف وهو قريب جدًا من مك
وكانت هذه الطريقة التى اتبعها الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طريقة فريدة لم يتبعها من قبل، ولم يستخدمها بعد ذلك، والسبب هو شدة خطورة المهمة، لأن "نخلة" كما ذكرنا قريبة جدًا من مكة، وبعدية جدًا عن المدينة –حوالى 480 كم- فاذا تم اكتشاف أمرهم –وهذا أمر وارد- فانه من السهل القبض عليهم وبالتالى قتلهم فورًا
ولذلك كان هذا المسلك الفريد لأن التكليف اذا كان في المدينة فقد يتردد البعض، ولكن اذا جاء التكليف بعد أن ساروا يومين، يعنى خُمْس الطريق تقريبًا، فانهم يكونون أقرب الى الاستجابة، بل على العكس تكون العودة الى المدينة بعد ذلك أصعب على نفوسهم من استكمال الطريق
قرأ "عبد الله بن جحش" الكتاب على أصحابه، ثم قال لهم:
"من أحبَّ الشهادة فلينهض، ومن كره الموت فليرجع، وأما أنا فناهض"
فنهضوا جميعًا معه، واتجهوا إلى منطقة "نخلة" كما أمر الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وفي الطريق ضل بعير لسعد بن أبي وقاص وعقبة بن غَزْوان، كانا يتعاقبانه، فذهبا يتتبعانه، وبقي سبعة استمروا في مسيرهم الي "بطن نخلة"
عندما وَصَلوا الى منطقة نخلة، وجدوا قافلة لقريش في طريقها من الطائف الى مكة، تحمل زبيب وجلود وتجارة، وكانت القافلة مكونة من أربعة رجال فقط، لأن قريش لم تكن تتصور أن يصل المسلمون الى هذه النقطة البعيدة جدًا عن المدينة
وتردد الصحابة في مهاجمة القافلة لأن هذه الليلة الى اكتشفوا فيها هذه القافلة هي آخر ليلة في شهر رجب، وهو شهر حرام كانت العرب والمسلمون أيضًا يحرمون فيه القتال، وكان معروفًا أن الرجل يري قاتل أبيه في الشهر الحرام فلايستطيع أن يقربه حتى ينقضى الشهر، وقد يري قاتل أبيه داخل الحرم فلا يقربه حتى يخرج من الحرم
ونحن نعرف أن عدد شهور السنة الهجرية أثنى عشر شهراً، وقد جعل الله تعالى فيها أربعة أشهر حرم: شهر واحد فرد وهو رجب، وثلاثة سرد، هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم.
وقد أطلق عليها أشهر حرم لأن القتال محرم فيها.
اذن هذه الليلة التى اكتشفوا فيها القافلة كانت هي آخر ليلة من "رجب" وفي نفس الوقت لا يستطيعون تتبع القافلة حتى انقضاء هذه الليلة، ودخول الليلة الأولى من شعبان، لأن تلك القافلة على بعد ليلة واحدة من حرم مكة، فاذا لم يقوموا بمهاجمتها الآن فستدخل الحرم وتفلت منهم
وجدوا قافلة لقريش في طريقها من الطائف الى مكة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ومع ذلك فقد رغب الصحابة جدًا في مهاجمة القافلة لأكثر من سبب:
أولًا: أنها ستكون الضربة الأولى لقريش، لأن كل الغزوات والسرايا السابقة لم تسفر عن أي غنائم
ثانيًا: أن هذه الضربة في عقر دار قريش، وهي تحمل جرأة لا تَخْفى على أحد، وسيكون لها أثر سلبي كبير في نفوس المشركين، وفي نفس الوقت دعاية عظيمة للمسلمين، ترفع من هيبة المسلمين في الجزيرة، وترفع من الروح المعنوية للمسلمين، سواء في المدينة أو لضعفاء المسلمين في مكة
ثالثًا: حراسة القافلة ضعيفة جدًا، لا تتكون الا من أربعة رجال، بينما عدد المسلمين تسعة، تخلف منهم الاثنين الذين اضلا بعيرهما الذين كانا يتعاقبانه فذهبا يتتبعانه، اذن عدد المسلمين سبعة في مقابل أربعة، ومعهم عنصر المفاجأة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
تشاور الصحابة وكان القرار هو مهاجمة القافلة، وبالفعل تمت مهاجمة القافلة، ألقوا عليهم السهام أولًا، فقتل أحد المشركين وكان اسمه "عمرو بن الحضرمي" وفر واحد، وهو "نوفل بن عَبْد اللَّه" وهذا مات في غزوة الخندق، عندما حاول ان يقتحم الخندق، فسقط هو فرسه في الخندق ومات، ووقع الاثنين الآخرين الأسر، وغنم المسلمون القافلة بأكملها، وعادوا بها وبالأسيرين إلى المدينة المنورة
وكان هذا هو أول قتيل قتله المسلمون في الإسلام، وكان هاذان الأسيران هما أول أسيرين في الإسلام، وكانت هذه هي أول غنائم ذات قيمة في الإسلام.
تشاور الصحابة وكان القرار هو مهاجمة القافلة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
رواستغلت قريش هذه الحادثة أسوأ استغلال في الدعاية ضد المسلمين، وتشويه صورة المسلمين في كل الجزيرة العربية، وقالت أن محمد ينتهك الشهر الحرام، ويستحل القتل في الشهر الحرام، واخذوا يعيرون ضعفاء المسلمين الذين في مكة
وأما الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقد أنكر على الصحابة هذا التصرف، وقال لهم "مَا أَمَرْتُكُمْ بِقِتَالٍ فِي الشَّهْرِ" وأوقف التصرف في القافلة والأسيرين، حتى يأتيه وحي يرشده الى القرار
أما الصحابة أصحاب تلك السرية فقد أسقط في أيديهم، وشعروا أنهم قد أخطئوا خطئًا كبيرًا، وأخذ بقية الصحابة يلومونهم
وهكذا كان الجو العام في الجزيرة كلها يحمل هذه الفرقة الإسلامية كل الخطأ في هذا التصرف، وتتفق على ذلك آراء أهل مكة والمدينة، بل ورأي الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نفسه، ولكن نزل القرآن العظيم ليمثل مفاجأة للجميع أنه أقر ما قام به اصحاب السرية، فقال تعالى ((يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ))
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ) وهذا السؤال من الصحابة لمعرفة الحكم، وأيضًا سؤال من أهل مكة، لأنهم أرسلوا وفدًا منهم الى المدينة للحديث في أمر الأسيرين، وسألوا الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هل يجوز القتال في الأشهر الحرم، وبالطبع كان السؤال منهم "سؤال استنكاري" وكان السؤال من الصحابة سؤال لمعرفة الحكم
اذن قوله تعالى (يَسْأَلُونَكَ) يعنى يسألونك يا محمد (عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ) يعنى هل يجوز القتال في الأشهر الحرم
(قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) يعنى قُلْ لهم اجابة عن سؤالهم (قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) يعنى القتال في الأشهر الحرم ذنب كَبِيرٌ وَجُرْمٌ عَظِيمٌ .
(وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ)
يعنى نعم القتال في الأشهر الحرم ذنب كَبِيرٌ، ولكن ما قامت به، وتقوم به قريش من جرائم، أكبر من القتال في الشهر الحرام الذي فعله بعض المؤمنون
وأخذ القرآن يعدد على المشركين جرائمهم التي كل جريمة منها أكبر من القتال في الشهر الحرام
فقال تعالى (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) وهو منع الناس من الدخول في دين الله باضطهادهم وتعذيبهم، ومنع المسلمين المستضعفين من الهجرة الى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذلك (أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) من القتال في الشهر الحرام.
(وَكُفْرٌ بِهِ) أي كُفْرٌهم بالله تعالى (أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) من القتال في الشهر الحرام.
(وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) أي صدهم ومنهم المسلمين عن دخول المسجد الحرام والصلاة فيه والطواف والعمرة والحج (أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) من القتال في الشهر الحرام.
(وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ) يعنى واضطهادهم المسلمين حتى اضطروهم الى الخروج من مكة وهم أهلها، وهي بلدهم (أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) من القتال في الشهر الحرام.
ثم يقول تعالى (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) وجاء بها وحدها، كأن هذه هي أعظم الجرائم، وهي فتنة الناس عن دينهم، بالتضييق عليهم وتعذيبهم حتى يردوهم الى الكفر بعد الإيمان، أو بالدعاية الكاذبة التى لا يتوقفون عن نشرها في انحاء الجزيرة
(أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) كل جريمة من هذه الجرائم التى ارتكبتها وترتكبها قريش، هي أَكْبَرُ عند الله تعالى مما قامت به هذه السرية من الصحابة من قتل أحد المشركين في الشهر الحرام
فلا ترتكبوا يا أهل مكة ما هو أكبر من القتال في الشهر الحرام، ثم تنتقدوا جدًا هذا القتال الذي وقع في الشهر الحرام
فتنة الناس عن دينهم أَكْبَرُ عند الله مِنَ الْقَتْلِ
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
لقد كانت هذه الآيات هامة جدًا في ذلك الوقت حتى يوضح الله تعالى للمسملين أنه لا يمكن التعامل بمثالية مع عدو يتعامل بخسة، وأن هذه المرحلة التى هم مقبلون عليها تحتاج الى التعامل بواقعية، والى التعامل بالمثل، والى مقابلة القوة بالقوة
ولذلك عندما أرسلت قريش في فداء الأسيرين، لم يقبل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الفداء حتى يعود كل من "سعد بن أبي وقاص" و"عتبة بن غزوان" الذين كانا قد انفصلا عن السرية وذهبا يبحثان عن بعيرهما الذي فقداه في الطريق، وذلك مخافة أن تكون قريش قد ألقت القبض عليهما وقتلوهما
وكان قرار الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو قتل هذين الأسيرين اذا قامت قريش بقتل "سعد بن أبي وقاص" و"عتبة بن غزوان"
ثم عاد الصحابيان بعد ذلك، فقبل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الفداء، ودفع الغنيمة الى أفراد السرية
ولكن أحد الأسيرين، وهو "الحكم بن كيسان" كان قد أسلم في فترة أسره بالمدينة، فرفض أن يعود الى مكة، وأقام بالمدينة، حتى قتل شهيدًا بعد ذلك –رضى الله عنه- في يوم بئر معونة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا)
هنا يعود الله تعالى إِلَى خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ الذي أمرهم في الآية السابقة بالقتال فقال تعالى في الآية السابقة (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) فيعلمهم الله تعالى أَنَّ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ لَا هَمَّ لَهُمْ إِلَّا مَنْعَ الْإِسْلَامِ مِنَ الْأَرْضِ، ولذلك فَان تَرْكُ قِتَالِهِمْ هُوَ الَّذِي يُبِيدُ الْحَقَّ وَأَهْلَهُ، فيقول تعالى:
(وَلَا يَزَالُونَ) أي: أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ
(يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ) هذا هو هدفهم الوحيد، أن يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ، وألا يكون للإسلام وجود على الأرض
(إِنِ اسْتَطَاعُوا) وهذا استبعاد لاستطاعتهم، كقول الواثق بنفسه وبقوته، ان استطعت فاضربنى
(وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) يذكر الله تعالى حكم المرتد عن دين الاسلام، فيقول: وَمَنْ يرجع عن دينه وهو الاسلام إلى دينهم وهو الشرك
قوله تعالى (مِنْكُمْ) اشعار بأنه من المستبعد أن يتحقق هدف المشركين وهو أن يردوا المسلمين جميعًا عن دينهم، لِأَنَّ مَنْ عَرَفَ الْإِسْلَامَ مَعْرِفَةً صَحِيحَةً لَا يَرْجِعُ عَنْهُ إِلَى الْكُفْرِ أبدًا، وأقصى ما يستطيعونه هو أن ينالوا ضعيف الايمان فيردوه الى دينهم فيكون الله تعالى قد نفي خبثه عن الدين
(فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ) أي يموت على الكفر، بعد ان يرجع عن الاسلام الى الشرك
(فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ) أي بطلت أَعْمَالُهُمْ الصالحة التى عملوها في الاسلام، وكأنها لم تكن
(فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ) قوله تعالى "وَالْآَخِرَةِ" معروف أنه لن يكون له ثواب على أعماله الصالحة يوم القيامة
ولكن قوله تعالى (فِي الدُّنْيَا) يشير الى أن هناك جزاء على الأعمال الصالحة في الدنيا أيضًا، وليست في الآخرة فقط
كما قال تعالى في سورة النحل (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) هذا في الدنيا (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) هذا يوم القيامة
اذن المعنى أنه سيضيع ثواب أعماله الصالحة في الاخرة، وكذلك الجزاء من الله تعالى على هذه الأعمال الصالحة في الدنيا
(وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ) يعنى هؤلاء الملازمين لنار جهنم
(هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) لا يخرجون منها بدًا
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
حكم القتال في الأشهر الحرم، فيها آراء، فقال البعض أن الحكم باقِ، وأكثر أهل العلم أن الحكم نسخ، لأن الرَسُولَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قاتل أهل الطائف في شهر ذي القعدة؛ وهو شهر حرام؛ وأن غزوة تبوك كانت في رجب؛ وهو شهر حرام
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
اختلف كذلك الفقهاء في مسألة الذي يرتد عن الاسلام، ثم يعود للإسلام مرة أخري، هل حبط عمله الذي كان قبل الارتداد عن الاسلام أم لا ؟
فلو كان قد حج مثلًا وهو مسلم ثم ارتد، ثم عاد الى الاسلام، هل تسقط حجته، ويجب عليه أن يحج مرة أخري أم لا ؟
فالأحناف والمالكية يوجبون عليه اعادة الحج، لأن الردة أحبطت عمله، والشافعية يقولون: لا حج عليه، لأن الردة لا تحبط العمل الا اذا مات الشخص كافرًا
ولكل فريق أدلته المبسوطة في كتب الفقه .
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)
هذه الآية لها سبب نزول أن أن "عبد الله بن جحش" قال : يا رسول الله : هب أنه لا عقاب علينا فيما فعلنا ، فهل نطمع منه أجراً وثواباً ؟ فنزلت الآية الكريمة
وقوله تعالى (يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يعنى هم يَرْجُونَ رَحْمَةَ رَحِيمٌ، وطالما أنهم يَرْجُونَ رَحْمَةَ رَحِيمٌ فلابد أن تطولهم وتعمهم هذه الرحمة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وكما قلنا من قبل مرارًا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالآية وان نزلت في "عبد الله بن جحش" وأصحابه، الا أنها عامة لكل مسلم
(إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا) يعنى الَّذِينَ صدقوا بوجود الله وصدقوا ببعثة الرَسُولَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولكن المهم أن يكون ايمانًا يصدقه العمل، فلا يكون ايمانًا باللسان فقط
(وَالَّذِينَ هَاجَرُوا) يعنى هاجروا ما حرم الله تعالى، لأنها وان نزلت في المهاجرين الذين هاجروا من مكة الى المدينة، ولكن لا هجرة بعد الفتح، أي بعد فتح مكة
(وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) واذا لم يتيسر الجهاد فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يكون جهاد النفس، عندما كان الرَسُولَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- راجعًا من غزوة تبوك قال:"رجعنا من الجهاد الأصغر إلي الجهاد الأكبر، قالوا : وما الجهاد الأكبر ؟ قال: مجاهدة العبد هواه"
(أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
وهذه اشارة الى أن رجاء رحمة الله تكون بالعمل وليس بالتمنى
فلا يصح أن يرتكب انسان معصية ويقول (اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ولكن الذين يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ، هم (الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
نختم بهذه القصة القصيرة جدًا عن رحمة الله تعالى:
رجل من بني اسرائيل عبد الله أربعين سنه
ثم انتكس فعصى ربه أربعين عاما
ثم بعد المعصيه أراد أن يتوب فقال وهو يبكي ويدعو :
ربي عبدتك أربعين عاما وعصيتك أربعين عاما
فاذا به يسمع هاتفا يهتف :
عبدي.. عبدتنا فقربناك، وعصيتنا فأمهلناك، وان رجعت الينا قبلناك
*****
لِمُطَالَعَة بَقِيَةِ حَلَقَات "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم"
لِمُشَاهَدَة حَلَقَاتِ "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم" فيديو
*****
|