تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة الثالثة والثلاثون بعد المائة الأولى
تدبر الآية (219) من سورة البقرة
********
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
قلنا من قبل أن التدرج في التشريع من خصائص التّشريع في الإسلام ، بل هو من أسباب نزول القرآن متفرقًا وعدم نزوله جملة واحدة
فكان هناك تدرج في تشريع الصلاة والصيام والزكاة والجهاد والمواريث وغير ذلك
بينما لم يكن هناك تدرج في الأمر بالحج، لأن العرب كانت تحج وتعتمر، كذلك نزل تحريم أكل لحم الخنزير مباشرة دون تدرج، أن العرب لكم تكن تأكل لحك الخنزير
ومن الأمور التى تدرجت فيها الشريعة الاسلامية هي تحريم شرب الخمر، لأن شرب الخمر كان منتشرًا جدًا عند العرب، ولذلك فلابد أن يكون الأمر قد وصل ببعضهم الى حد –ما نطلق عليه الان- الادمان، وعلاج ادمان الخمر –كما يقول الأطباء- ليس أمرًا سهلًا، حتى قال العلماء: ما حرم على العرب شيئًا أشد من الخمر
التدرج في التشريع من خصائص التّشريع في الإسلام
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ولذلك جاء تحريم شرب الخمر على أربعة آيات:
الآية الأولى في سورة النحل، وهي سورة مكية، يقول تعالى (وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً( فقوله تعالي (سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً( بمفهوم المخالفة أن السكر ليس َرِزْقاً حسنًا
فلما نزلت هذه الآية قال بعض الصحابة للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منهم "عمر بن الخطاب" و"سعد بن أبي وقاص" و"معاذ بن جبل":
- يا رسول الله ، أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال
فنزلت هذه الآية الكريمة التى معنا، اجابة على سؤال الصحابة، وهي قول الله تعالى (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا)
فلما نزلت هذه الآية، امتنع بعض الصحابة عن شرب الخمر، بينما استمر في شربها البعض الآخر
ثم نزل قول الله تعالى في سورة النساء ) يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى ) فكان المؤذن إذا أقام الصلاة، نادى "لا يقربن الصلاة سكران" وكان هذا الحكم يقلل جدًا وقت الشرب، فيكون في الليل فقط، أو يجعل من يشرب لا يصل الى حد السكر
وكان عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَدْعُو اللهَ أَنْ يُبَيِّنَ لِلْأُمَّةِ فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا ويقول "اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا"
حتى نزل أخيرًا قول الله تعالى في سورة المائدة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "حُرِّمت الخمر"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
اذن كان هناك أربعة مراحل
المرحلة الأولى: قوله تعالى ان الخمر (سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً( فبدأ الله تعالى ان أخبرنا أن الخمر ليس رِزْقاً حَسَناً، فاذا لم يكن رِزْقاً حَسَناً فالأولى أن تمتنع عنه
المرحلة الثانية: أخبر تعالى أن الخمر فيه إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَالاثم أَكْبَرُ مِنْ النَفْعِ، يعنى فيه أضرار ومنافع لكن الأضرار أكثر من المنافع، واذا كانت الأضرار أكثر من المنافع، فالواجب أن تبتعد عنه
ثم المرحلة الثالثة: النهي عن الصلاة حال السكر، وكانت هذه هي بداية الأمر بالإبتعاد عن الخمر، ولكن لأوقات معينة وهي اوقات الصلاة، أو عدم الاسراف في الشراب والوصول الى درجة السكر
ثم المرحلة الرابعة والأخيرة: وهي النهي عن شرب الخمر، فقال تعالى (فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "حُرِّمت الخمر"
وانتهت الآيات بقوله تعالى (فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) فقال الصحابة "اللَّهُمَّ قَدِ انْتَهَيْنَا"
وكان ذلك بعد غزوة الأحزاب في السنة الخامسة من الهجرة
وامتثل جميع الصحابة لأمر الله تعالى، فأراقوا ما عندهم من خمر في الطرقات، حتى باتت المدينة كأنها في يوم مطير، وكان هناك نفر من الصحابة يشربون الخمر، فجاء رجل وقال لهم "حرمت الخمر" فأسالوا ما معهم في الحال، بل ان البعض حطم الأواني التى كانت توضع فيها الخمر، كناية عن شدة امتثالهم وطاعتهم لله تعالى
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) والسؤال –كما ذكرنا- كان من الصحابة لمعرفة الحكم الشرعي من حيث الحل والتحريم
قال القرطبي : والخمر مأخوذة من خمر أي ستر، وكل شيء غطى شيئاً فقد خمره، ومنه خمار المرأة لأنه يستر وجهها أو شعرها، ومنه قول الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (خمروا آنيتكم) أي غطوا أنيتكم، وكانت العرب تقول "الخمَر" بفتح الميم على الشجر الملتف، لأنه يغطي ما تحته ويستره، وكانت تقول "الخَامِرُ" وهو الذي يَكْتُمُ شَهَادَتَهُ، ويقولون "دخل في خمار الناس" أي وسط الناس حتى ستروه واختفي بينهم
ولذلك سميت الخمر خمرًا لأنها تستر العقل وتغطيه، اذن الاسم نفسه منفر من هذا الشيء، لأنك تشرب شيئًا يغطي عقلك ويستره
والخمر معروفة، وهي كل شراب مسكر، مهما كانت المادة المصنوعة منها، وهي لا تشمل فقط هذه المشروبات الكحولية، ولكن تشمل كذلك كل أنواع المخدرات، لأنها تذهب العقل
يقول الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "كل شراب أسكر فهو حرام، ما أسكر كثيرة فقليله حرام" فكل شراب أو مادة لها أي تأثير على العقل فهي حرام، والقليل منه حرام مثل الكثير
الخمر تشمل كل أنواع المخدرات
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(الْمَيْسِرِ) هو القِمار، بكسر القاف، وهو كل شيء فيه رهان بمال، وهو مشتق من اليسر أي السهولة ، لأن المال يجئ للكاسب من غير جهد
وأصله أن العرب كانوا يشترون البعير، ويقترعون بينهم، فمن خرج اسمه يأخذ نصيبه من اللحم، ولا يكون عليه من الثمن شيء، ومن بقي اسمه آخرًا يدفع ثمن البعير كله ولا يكون له من اللحم شيئًا
الميسر هو كل شيء فيه رهان بمال
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(قُلْ فِيهِمَا) يعنى قل لهم يا محمد (فِيهِمَا) أي في تعاطيهما (إِثْمٌ كَبِيرٌ) وقرأت (إِثْمٌ كَثِيرٌ ) بالثاء، وقوله تعالى (إِثْمٌ كَبِيرٌ)
وليس المقصود بالإثم هنا هو الذنب، لأن لو كان المقصود بالإثم هو الذنب، أي: ذنب كَبِيرٌ، لحرمت الخمر بهذه الآية، ولكن المقصود بقوله تعالى (إِثْمٌ كَبِيرٌ) أي ضرر كبير، واستخدام الله تعالى كلمة (إِثْمٌ) للتعبير عن الضرر، اشارة الى أن هناك اتجاه لتحريم الخمر والميسر، كان الله تعالى يمهد لهذا الأمر
ولذلك لما نزلت هذه الاية الكريمة قال الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إن ربكم يُقدِّم في تحريم الخمر
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وهذه الأضرار التى أشارت اليها الآية الكريمة: أضرار صحية، ومجتمعية، واقتصادية
اذا تحدثنا عن الأضرار الصحية فهناك قائمة طويلة جدًا من الأمراض التى يسببها شرب الخمر، ومنها أمراض سرطانية خطيرة جدًا تؤدي الى الوفاة، وقد نشرت مجلة طبية بريطانية سنة 1987، أن أكثر من مائتي ألف شخص يموتون في بريطانيا سنوياً بسبب الخمور، يعنى أكثر من 500 شخص في اليوم
وفي دراسة أمريكية أن الكحول هو المسبب الأول للوفيات التى يمكن تفاديها في الولايات المتحدة
وهذه الوفيات اما بسبب الأمراض التى يسببها شرب الخمر، أو الناتجة عن حوادث السيارات، وفي دراسة أمريكية أن 64% من حوادث السير المؤدية الى الوفاة بسبب تعاطي الخمور
اذا تحدثنا عن الأضرار المجتمعية: كلما زاد عدد شاربي الخمور في العالم، زادت معدلات الجرائم
في دراسة أمريكية وجدوا أن ادمان الخمور هو السبب في نصف حالات الانتحار، وهو السبب في 34% من جرائم الاغتصاب
يقول طبيب ألماني "اقْفِلُوا لِي نِصْفَ الْحَانَاتِ أَضْمَنْ لَكُمُ الِاسْتِغْنَاءَ عَنْ نِصْفِ الْمُسْتَشْفَيَاتِ وَالسُّجُونِ"
اذا تحدثنا عن الأضرار الاقتصادية، فهناك مئات الملايين من الدولارات تنفق على علاج المدمنين.
وهناك خسائر بمئات الملايين من الدولارات بسبب الاهمال والتغيب عن العمل
(قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ولذلك قالوا أن الخمر هي ام الخبائث، لأن شرب الخمر يجر الى غيره من الآثام
روى النسائي عن عثمان رضي الله عنه قال: اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث , إنه كان رجل ممن كان قبلكم تَعَبَّد، فأحبته امرأة غوية, فأرسلت إليه جاريتها فقالت له: إنا ندعوك للشهادة, فانطلق مع جاريتها فطفقت كلما دخل بابا أغلقته دونه, حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام واناء خمر, فقالت: إني والله ما دعوتك للشهادة , ولكن دعوتك لتقع علي, أو تشرب من هذه الخمر كأسا, أو تقتل هذا الغلام ، قال: فاسقيني من هذه الخمر كأس, فسقته كأسًا ، فقال : زيدوني, فلم يزل كذلك حتى وقع عليها, وخاف من افتضاح أمره فقتل الغلام
عن عليّ رضي الله عنه: لو وقعت قطرة في بئر فبنيت مكانها منارة لم أؤذن عليها ولو وقعت في بحر ثم جف ونبت فيه الكلأ لم أرعه.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
أما الميسر فمضاره كثيرة منها: اضاعة الوقت فيما لا يفيد، ووقوع العداوة والبغضاء بين الناس، لأن الذي يلعب القمار فانه يعطي أمواله لغيره دون مقابل، كما قال تعالى في سورة المائدة (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيطَانُ أَن يُوقِعَ بَينَكُمً الْعَدَاوَةَ والْبَغْضَاءَ فِي الْخمر والْمَيسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ) وهناك الكثير من حوادث القتل البشعة التى كان سببها لعب القمار
ولذلك نجد في جميع أماكن شرب الخمر ولعب القمار الآن حراسًا أقوياء، ويطلق عليهم Bodyguard
يقول الْإِمَامُ "محمد عبده" في تفسيره "المنار" "مِنْ مَضَرَّاتِ الْمَيْسِرِ: إِفْسَادُ التَّرْبِيَةِ بِتَعْوِيدِ النَّفْسِ الْكَسَلَ، وَانْتِظَارَ الرِّزْقِ مِنَ الْأَسْبَابِ الْوَهْمِيَّةِ، وَإِضْعَافِ الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، بِتَرْكِ الْأَعْمَالِ الْمُفِيدَةِ فِي طُرُقِ الْكَسْبِ الطَّبِيعِيَّةِ، وَإِهْمَالِ الْمُقَامِرِينَ لِلزِّرَاعَةِ وَالصِّنَاعَةِ وَالتِّجَارَةِ الَّتِي هِيَ أَرْكَانُ الْعُمْرَانِ.
وَمِنْهَا تَخْرِيبُ الْبُيُوتِ فَجْأَةً بِالِانْتِقَالِ مِنَ الْغِنَى إِلَى الْفَقْرِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَكَمْ مِنْ عَشِيرَةٍ كَبِيرَةٍ نَشَأَتْ فِي الْغِنَى وَالْعِزِّ، وَانْحَصَرَتْ ثَرْوَتُهَا فِي رَجُلٍ أَضَاعَهَا عَلَيْهَا فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَصْبَحَتْ غَنِيَّةً وَأَمْسَتْ فَقِيرَةً لَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى أَنْ تَعِيشَ عَلَى مَا تَعَوَّدَتْ مِنَ السَّعَةِ وَلَا مَا دُونَ ذَلِكَ.
وذكر الإمام قصة رَجُلًا حكيمًا رَأَى مِنْ وَلَدِهِ مَيْلًا إِلَى الْمُقَامَرَةِ، لأن له أصدقاء من المقامرين، فَلَمَّا حَانَتْ وَفَاتُهُ وَخَافَ أَنْ يُضَيِّعَ وَلَدُهُ مَا يَرِثُهُ عَنْهُ، وَعَلِمَ أَنَّ النَّهْيَ لَا يَكُونُ إِلَّا إِغْرَاءً، قَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ أُوصِيكَ إِذَا شِئْتَ أَنْ تُقَامِرَ بِأَنْ تَبْحَثَ عَنْ أَقْدَمِ مُقَامِرٍ فِي الْبَلَدِ وَتَلْعَبُ مَعَهُ، فلما مات الرجل وورث الولد أباه أخذ الْوَلَدُ يَبْحَثُ وَيَسْأَلُ عن أقدم مقامر في بلدته، حَتَّى انْتَهَى بِهِ الْبَحْثُ إِلَى شَيْخٍ فقير رَثِّ الثِّيَابِ، يتسول الناس، فأدرك نصيحة أبيه واستوعبها وعاد الى رشده ولم يقامر في حياته أبدًا
الحراس في صالات الخمر والميسر لمنع المشاجرات
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) هذه المنافع هي عائدات بيع الخمور، والمكاسب التى تتحقق في القِمَار، وهي منافع لفئة قليلة فعائدات بيع الخمور تكون فقط للمصانع والتجار مثلها مثل أي صناعة
وفي مصر منذ أكثر من مائة سنة كان الْخَمَّارَ الرُّومِيَّ الْفَقِيرَ يأتي ويَفْتَحُ حَانَةً صَغِيرَةً فِي إِحْدَى الْقُرَى أو النجوع، ثم لَا تَزَالُ هذه الحانة تَتَّسِعُ حَتَّى تَبْتَلِعَ الْقَرْيَةَ كُلَّهَا، وتَكُونُ أَمْوَالُهَا وَغَلَّاتُهَا وَقُطْنُهَا وَتِجَارَتُهَا فِي يَدِ الْخَوَاجَةِ صَاحِبِ الْحَانَةِ
كذلك مكاسب القِمَار فتكون لأصحاب صالات القِمَار، ولا ينتفع بها أبدًا من يلعب القِمَار، لأن من يلعب القِمَار حتى وان حقق مكسبًا في أحد المرات فانه سيعود ويلعب القِمَار بهذا المكسب الذي حققه ويخسره
وليس للخمر والميسر أي منافع أخري غير ذلك، فالبعض يعتقد أنه بشرب الخمر ينسي همومه، ولذلك يقولون (اشرب وانسي) وهذا غير صحيح، فالمخمور لا ينسي همومه، بل ربما تستغرقه الهموم أكثر
اذن قوله تعالى (وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) أي منافع مادية لفئة محدودة جدًا من الناس، ولذلك قال الله تعالى بعدها:
(وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) أي ان المضار العديدة التى تسببها تعطي الخمر والميسر، أكثر بكثير جدًا من المنافع الدنيوية التي تعود إلى هذه الفئة المحدودة جدًا من الناس
ولذلك نجد في دول أُورُبَّا وَأَمْرِيكَا أُلِّفَتْ جَمْعِيَّاتٌ لمحاربة شرب الخمور، وبعض الدول الغربية كانت تجرم شرب الخمر، ليس بسبب دينى ولكن لادراكها لمخاطر شرب الخمر
ومن هذه الدول: الولايات المتحدة، وكندا واستراليا، والنرويج وفنلندا، بل كان تجريم تصنيع ونقل وبيع الخمور جزء من الدستور الأمريكي منذ سنة 1920 حتى 1933
المسيحية واليهودية تحرم الخمر، وهناك آية في التوارة، تمنع مجرد الجلوس مع الشاربين، تقول الآية (لاَ تَكُنْ بَيْنَ شِرِّيبِي الْخَمْرِ، بَيْنَ الْمُتْلِفِينَ أَجْسَادَهُمْ)
مكاسب تعاطي الخمور والميسر لفئة قليلة محدودة من الناس
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ)
بعد أن أجاب الله تعالى عن سؤال عن حكم تعاطي الخمر والميسر، أجاب عن سؤال آخر عَنِ الْإِنْفَاقِ، والجمع بين الاجابتن فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ، هو الْمُقَارَنَةُ بَيْنَ حَالِ فَرِيقَيْنِ مِنَ النَّاسِ: فَرِيقٌ يُنْفِقُ الْمَالَ الكثير فِي سَبِيلِ الْإِثْمِ، وفيما يضره، وفريق آخر يُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ
كأنه تعالى يضع اللون الأبيض بجانب اللون الأسود، حتى يتبين لك شدة شواد اللون الأسود، وشدة بياض اللون الأبيض
وهذا السؤال (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ) كان سؤالًا من الصحابة، لأن الصحابة أمروا بالإنفاق في سبيل الله، ولم تكن قد حددت أنصبة الزكاة، فكان السؤال من الصحابة للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن مقدار ما ينفقوه،
يقول تعالى (قُلِ الْعَفْوَ) أي الزيادة في الأموال، أو ما فضل عن الحاجة
لأن أصل العفو في اللغة الزيادة، يقول تعالى: ( ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة حتى عَفَوْاْ ) أي زاد عددهم
لأن بعض الصحابة كان ينفق ماله كله حتى لا يجد ما يأكله أو ما يطعم به أهل بيته
فوجه تعالى الى التصدق بما زاد عن الحاجة، ولا يشق على الانسان بذله
وقد ذكرنا من قبل الحديث الذي رواه أبو هريرة قال: "جاء رجل إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال يارسول الله عندي دينار قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أنفقه على نفسك قال: عندي آخر، قال: أنفقه على ولدك، قال: عندي آخر، قال: أنفقه على أهلك قال: عندي آخر قال: أنفقه على خادمك قال: عندي آخر، قال:أنت أعلم .
أخرج مسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إبدأ بنفسك فتصدق عليها ، فإن فضل شيء فلأهلك ، فإن فضل عن أهلك شيء فلذى قرابتك ، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا "
إلى غير ذلك من الأحاديث التي وردت في هذا المعنى .
فكان الرجل بعد نزول هذه الآية يأخذ من ماله ما يكفيه لعام، وينفق باقيه، حتى نزلت آية الزكاة في سورة التوبة، وحددت أنصبة الزكاة، فنسخت هذه الآية
ولكن يبقي المعنى أن تبدأ بالنفقة على نفسك وعلى أهل بيتك، فان فضل شيء فتكون الصدقة
(وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ
هنا توجيه من الله تعالى الى التفكر، لأن الله تعالى قال (وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ) فكأنه تعالى يقول تفكروا في مضار الخمر والميسر، وتفكروا في منافعهما، واذا أمعنت التفكير في هذا الأمر، فسيكون الاختيار هو ترك الخمر والميسر، حتي قبل تحريمهما
كذلك قوله تعالى (فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ) أي لتتفكَّروا في أمر الدُّنيا والآخرة فتعرفوا فضل الآخرة على الدُّنيا
ونجد أن قوله تعالى (فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ) جاء في الآية التالية، مع أنها استكمال لمعنى الآية التى معنا، فكان الطبيعي أن تأتي في هذه الآية
كأن الله تعالى يعطيك فرصة للتفكير في الأمر، فأنت تقرأ (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) ثم تقف، وتقرأ (فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ)
حتى في مصحف المدينة المطبوع الآن في كل دول العالم، نجد أن قوله تعالى (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) في صفحة، وقوله تعالى (فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ) في صفحة أخري
وقوله (وَالْآَخِرَةِ) اشارة الى أن هناك اتجاه لتحريم الخمر والميسر، كان الله تعالى يمهد لهذا الأمر
(كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
أخيرًا لماذا ربطت الآية الكريمة بين الخمر والميسر
كنت عندما أتدبر هذه الآية الكريمة أقول أن الخمر يرتبط بالميسر فالذي يلعب القمار يشرب الخمر غالبًا
حتى قرأت بحثُا عجيبًا في هذا الأمر، حيث ثبت علميًا أن الخمر والميسر لهما نفس التأثير على الدماغ ولو أن الميسر أثره أبطأ ولكنه مدمر على مر الزمن.
هناك مركز في المخ يفرز مادة اسمها "الدوبامين" وعندما يشرب الانسان الخمر أو يتعاطي المخدرات أو يلعب القمار فإن الدماغ يفرز عشر أضعاف هذه المادة، وهذا يؤدي إلى إرهاق خلايا الدماغ وتدمير جزء منها وتطوير السلوك العدواني تجاه الآخرين...
أمر آخر يربط بين الخمر والميسر، أن الخمر يصل شاربه بمرور الوقت الى الادمان، وكذلك الميسر يصل بصاحبه الى الادمان، لأن الذي يلعب الميسر كُلَّمَا رَبِحَ طَمِعَ فِي الزِّيَادَةِ، وَكُلَّمَا خَسِرَ أراد أن يعوض الْخَسَارَةِ فلا يتوقف عن اللعب
الخمر والميسر لهما نفس التأثير على الدماغ
|