تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة الأربعون بعد المائة الأولى
تدبر الآيتين (226) و(227) من سورة البقرة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُو فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
لا تزال الآيات الكريمة تتناول شئون الأسرة فيقول تعالى (لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ)
ونبدأ أولًا بشرع معاني كلمات هاتين الآيتين الكريمتين:
(الإيلاء) لغة هو الحلف، وفي الشرع او اصطلاحًا الايلاء: هو الحلف على ترك مباشرة الزوجة
(مِنْ نِسَائِهِمْ) أي زوجاتهم
(تَرَبُّصُ) التربص هو الانتظار والترقب
(فَإِنْ فَاءُو) الفيء في اللغة هو رجوع الشيء الى ما كان عليه، يقول تعالى في سورة الحجرات (فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا) ولذلك قيل للظل بعد الزوال فيء، لأنه كان موجودًا ثم زال ثم عاد مرة أخري
فقوله تعالى (فَإِنْ فَاءُو) يعنى فَإِنْ رجعوا الى ما كانوا عليه، وهو جماع الزوجة
(وَإِنْ عَزَمُوا) العزم هو عقد القلب على شيء والتصميم عليه
(الطَّلَاقَ) هو حل عقد النكاح الذي بين الرجل والمرأة، وأصله من الانطلاق، أي الذهاب
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وسبب نزول الآية أن الرجل في الجاهلية كان اذا غضب من امرأته يحلف ألا يقربها سنة أوسنتين أو أكثر، وذلك بقصد الإضرار بها وإذلالها
وكان الرجل اذا كره زوجته، وكان لا يحب أن يتزوجها غيره، يحلف ألا يقربها، ثم لا يطلقها، ويتركها كالمعلّقة؛ لا هي زوجة ولا هي مطلقة، وكان بعض أهل الاسلام يفعلون ذلك.
فأراد الله تعالى أن يزيل هذا الظلم للمرأة، وذلك بأن جعل هناك حد أقصى للإيلاء وهي أربعة أشهر
فان آلى الرجل من زوجته، أي أقسم ألا يقرب زوجته –لأن الايلاء لابد أن يكون بقسم- شهرًا، أو شهرين أو ثلاثة أو أربعة، ثم عاد وباشرها بعد هذه المدة فلا شيء عليه
لأنه اقسم ألا يقربها لمدة معينة ولم يقربها خلال هذه المدة
مثل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- آلى من نسائه شهرًا، وبعد انقضاء الشهر، عاد الى زوجاته، فلا شيء عليه
أما اذا أقسم ألا يباشرها لمدة معينة، شهر مثلًا، ثم باشرها خلال ذلك الشهر، فيكون قد حنث في يمينه، وعليه كفارة اليمين
أما اذا أقسم ألا يباشر زوجته مدة أكثر من أربعة شهور، أو أقسم ألا يجامع زوجته ولم يحدد المدة، كمن يقول أقسم بالله أنت محرمة علىَّ الى يوم الدين
فهنا تقول الآية أن هذا الأمر غير جائز، وأن أقصى مدة للإيلاء هي أربعة أشهر فقط، فهنا تأمرك الآية بأن تحنث في يمينك، وأن تكفر عن يمينك
فتعود لمجامعة زوجتك، سواء قبل انقضاء الأربعة شهور، أو بعد انقضاء الأربعة شهور، ويكون عليك كفارة اليمين، لأنك حنثت في يمينك
أما اذا أصر الرجل بعد انقضاء مدة الأربعة أشهر على المفارقة، فانها لا تكون طالق بعد الأربعة شهور، وذلك أيضًا حفاظًا على المرأة، لأنها ربما لا تريد أن تطلق، ولكن يمكن للمرأة في هذه الحالة أن ترفع أمرها للقضاء، ويحكم لها القاضى بالطلاق
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ويختم الله تعالى الآية بقوله (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
(إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ) يعنى فان كفر الرجل عن يمينه بالإبتعاد عن زوجته، فان الله تعالى يغفر له حنثه في يمينه
وقوله تعالى (رَحِيمٌ) أي رَحِيمٌ في كل أوامره وشرائعه
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وحتى نفهم الحكمة في تذييل الآية الكريمة باسمه تعالى (الرَحِيمٌ) نقول أن الإيلاء كان موجودًا قبل الإسلام، وأساء بعض الرجال استخدامه، ومع ذلك لم يأت الاسلام وجرد الرجل من هذه الوسيلة، لأن الرجل قد يجد نفسه مضطرًا لهذه الوسيلة لتصحيح بعض الأوضاع في بيته، وقد آلى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من نسائه شهرا، كما قلنا، كما في الصحيحين عن عائشة، عندما طلبت زوجاته منه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زيادة النفقة، ولم يكن عنده -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما يطلبونه
ولكن مع ذلك يريد الاسلام أن يضمن للزوجة ألا يستغل الرجل هذه الوسيلة للإضرار بها أو اذلالها أو أن يتركها معلقة لا هي زوجة ولا هي مطلقة، فحدد أربعة أشهر كحد أقصى للإيلاء، فاذا زاد الرجل عن هذه المدة فان المرأة لها أن ترفع أمرها للقضاء، ويحكم لها القاضى بالطلاق
وهكذا سمح الشرع باستخدام وسيلة الايلاء، ولكنه قنن استخدامها، حتى يضمن عدم اساءة استخدامها
أمر آخر فان الإيلاء قد يحمي الأسرة من الإنهيار ! كيف ؟ قد يري الرجل أن هناك استحالة لاستمرار الحياة الزوجية، ويقرر الانفصال عن زوجته، فيمكن أن يقال له بدلًا من ان تطلق زوجتك، وبينكم أولاد وكذا.. جرب الايلاء.. أي جرب ان تنفصل عن زوجتك لمدة شهرين أو ثلاثة أو أربعة دون أن تطلقها.. اعمل بروفة للطلاق
وبعد أن ينفصل عن زوجته هذه المدة، يمكن أن يقارن حالته في حال الانفصال وحال الزواج، وغالبًا سيجد أن حاله وقت الزواج أفضل.. ألسنا نجد في كثير من الحالات الرجل يندم بعد الطلاق، ويحاول أن يعود الى زوجته ؟
من جهة أخري كثير من الزوجات، وخصوصُا اذا كان لها عمل ومصدر دخل، مع كل خلاف تطلب من زوجها أن يطلقها، وقد تأخذ الرجل العزة فيطلقها، ويُهْدَم البيت ويتشرد الأولاد
نقول للرجل بدلًا من الطلاق، يمكن أن يكون الإيلاء، فيحدث الانفصال دون أن يتم الطلاق، وفي هذه الفترة تقارن المرأة بين حالها وهي متزوجة، وحالها وهي منفصلة، ويمكن أن تقرر أن حالها وهي متزوجة -مع كل العيوب التى تراها في زوجها- أفضل من حالها وهي منفصلة
اذن الإيلاء يمكن أن قد يحمي الأسرة من الإنهيار
هذه هي الحكمة في تذييل الآية الكريمة باسمه تعالى (الرَحِيمٌ) أي رَحِيمٌ في كل أوامره وشرائعه
في فترة الايلاء تقارن المرأة بين حالها وهي متزوجة، وحالها وهي منفصلة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وفي النهاية نقول أن هذه الآية هامة جدًا:
• فهي أولًا أعطت حكمًا، وقننت وضعًا كان مسيئًا ومجحفًا للمرأة
• وثانيًا هذه الآية أرسلت رسالة هامة لكل زوجين وهي أن الزواج قائم على المودة والرحمة، وليس قائمًا على الكراهية والهجران
• وثالثًا: أعطت تنبيهًا لكل رجل ألا يستغل الشرع في الاضرار بزوجته، مثل سلاح يكون معك لتدافع به عن نفسك، فلا تقتل به، وكذلك الشرع أعطاك وسائل تصحح بها الأوضاع داخل بيتك فلا تستخدمها في الإضرار بزوجتك
|