تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة السادسة والأربعون بعد المائة الأولى
تدبر الآية (235) من سورة البقرة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) يعنى لا اثم عليكم، ولا حرج عليكم
(فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ)
"التعريض" هو "التلويح" أو ما نطلق عليه نحن "التلميح"
و"الخطبة" هو طلب المرأة للزواج
وسميت "خطبة" لأنه كان قديمًا يأتي الخاطب وأهله الى المرأة وأهلها ويخطب فيهم
(عندما اراد الرسول -صلى الله عليه و سلم-الزواج من السيدة خديجة ذهب مع أهل بيته، وخطب عمه أبو طالب، وقال: الحمد لله الذي جعلنا من ذريّة إبراهيم، وزرع إسماعيل، وجعل لنا بلدًا حرامًا و بيتًا محجوجا، و جعلنا الحكّامَ على النّاس، ثمّ إنّ محمّدَ بنّ عبدِ الله من لا يوزن به فتى من قريش إلا رجح عليه برًّا و فضلا و كرما وعقلا و إن كان في المال قُلٌّ، فإنّ المال ظلٌّ زائلٌ، و عارية مسترجعة، و له في خديجة بنتِ خويلدِ رغبة، و لها فيه مثل ذلك، و ما أحببتم من الصداق فَعَلَيَّ.)
اذن معنى قوله تعالى (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ) أنه لا حرج عَلَيْكُمْ ولا اثم عَلَيْكُمْ ويجوز التلميح للمرأة المعتدة من وفاة زوجها بالرغبة في الزواج منها
وهذا التلميح كأن يقول الرجل للمرأة:
والله الواحد عاوز يتزوج، وبأدور على واحدة زيك
أو: ألف واحد يتمنوكي
أو: العدة حتنقضى امته ؟
او: لما تنقضى العدة ياريت تعرفيني !
أو يقول: والله أنا امكانياتي كذا.. أنا عندي شقة في المكان الفلاني.. وأعمل كذا.. وعائلتي كذا...هذا كلام لا يقال من الرجل الى المرأة الا اذا كان يريد أن يتزوجها
كل هذا جائز... ولكن لا يجوز أن يطلب منها أو من وليها الزواج بكلام صريح
وسميت "خطبة" لأنه كان قديمًا يأتي الخاطب الى المرأة وأهلها ويخطب فيهم
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
من ذلك أن الإمام "محمد الباقر" من أئمة أهل البيت دخل على "سكينة بنت حنظلة" وهي في عدتها فقال: قد علمت قرابتي من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقرابتي من جدي "علي بن أبي طالب" وموضعي في العرب، فقالت: غفر الله لك يا أبا جعفر ! أتخطبني في عدتي وأنت يؤخذ عنك ؟ فقال: أو قد فعلت ؟ إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وموضعي .
قال "محمد الباقر" أو قد فعلت ؟
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ)
يعنى لا حرج عليكم ولا اثم فيما أخفيتم في أنفسكم من الرغبة في الزواج من المرأة المعتدة
وهنا السؤال: اذا كان الله تعالى قد أجاز التعريض للمرأة المعتدة من وفاة زوجها بالرغبة في الزواج منها، فمن باب أولى يجوز أن يخفي الرجل هذه الرغبة في نفسه، واذا كان الأمر كذلك فما فائدة ذكر ذلك في الآية ؟
والإجابة: أن الله تعالى يشير بهذه العبارة الى أن الأولى هو عدم التلميح للمرأة المعتدة بالزواج منها
وذلك مثل قول أحدهم: يمكن أن تتبرع بمائة جنيه أو مائتين
يعنى يمكن أن تتبرع بمائة جنيه، والأولى والأفضل أن تتبرع بمائتين جنيه
أو كشخص يركب سيارة مع آخر، فيقول له نزلنى هنا، أو وصلنى، فالأولى أن يوصله
اذن قوله تعالى (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ) يعنى الأولى هو أن تخفي في نفسك رغبتك في الزواج من المرأة المعتدة من وفاة زوجها، حتى انقضاء العدة
والخلاصة: أن التلميح للمرأة المعتدة من وفاة زوجها جائز، ولكن الأفضل والأولى عدم التلميح والانتظار حتى تنتهي العدة
ويكون هذا التلميح "رخصة" اذا كان هناك حاجة للتلميح كأن تكون رغبته فيها كبيرة، ويخشي أن تُسْبق اليه
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ)
هنا يذكر تعالى علة الرخصة التي ذكرتها الآية، وهي جواز التلميح بالزواج للمرأة المعتدة من وفاة زوجها
يعنى ما سبب هذه الرخصة ؟
نحن نعلم أنه لا يجوز طلب الزواج صراحة من المرأة المعتدة من وفاة زوجها، فلماذا لم يمنع كذلك التعريض أو التلميح للمرأة المعتدة بالرغبة في الزواج منها ؟
لماذا لا ينتظر الرجل فترة العدة ، وهي أربعة أشهر وعشرة أيام، ثم بعد انتهاء العدة يتقدم بالزواج منها بدلًا من التلميح في هذه الفترة ؟
ذكر الله تعالى السبب في قوله تعالى (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ) يعنى: يعَلِمَ اللَّهُ تعالى أن البعض سيصرح لهذه المرأة المعتدة برغبته في الزواج منها، ولذلك أجاز الله بالتلميح لها، حتى لا يضيع على الملتزم بعدم التصريح فرصة الزواج بمن يريد، أو يضيع على المرأة فرصة أو فرص أخري للاختيار
مثال: اذا كان هناك رجلان يريدان أن يتزوجا امرأة واحدة توفي عنها زوجها، أحدهما ملتزم بما شرع الله، والآخر غير ملتزم بذلك، فهذا الملتزم بشرع الله سينتظر حتى انقضاء العدة ثم يذهب الى هذه المرأة فيخطبها، أما الغير ملتزم فانه سيصرح له برغبته في الزواج منها، فاذا وافقت فانه سيتزوجها بعد انتهاء العدة، وبذلك يكون لهذا الغير الملتزم ميزة على الملتزم
ويريد الله تعالى ألا يكون لهذا الغير ملتزم ميزة على الملتزم بشرعه تعالى، ولذلك اعطي الله تعالى هذه الرخصة وهي التلميح للمرأة بالرغبة في الزواج منها، حتى تعلم المرأة أنه بعد انتهاء العدة، هناك فلان يريد أن يتزوجها وهناك فلان
وبذلك لا نضيع على الشخص الملتزم فرصته في الزواج من امرأة يريد أن يتزوجها، أو نضيع على المرأة فرص أخري للاختيار
اذن علة الرخصة في التلميح بالرغبة في الزواج من المرأة المعتدة من وفاة زوجها، هي قول الله تعالى (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ) يعنى: يعَلِمَ اللَّهُ تعالى أن البعض سيصرح لهذه المرأة المعتدة برغبته في الزواج منها، ولذلك أجاز الله بالتلميح لها، حتى لا يضيع على الملتزم بعدم التصريح فرصة الزواج بمن يريد، أو يضيع على المرأة فرصة أو فرص أخري للاختيار
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا)
يعنى وَلَكِنْ لا يجوز أن تتفق مع المرأة المعتدة من وفاة زوجها في السر على الزواج بها بعد انتهاء العدة
(إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا)
والمقصود أن يكون هذا التعريض أو التلميح "قَوْلًا مَعْرُوفًا"
يعنى ليس معنى أن الله تعالى قد أباح لك التعريض في الرغبة في الزواج من المرأة المعتدة من وفاة زوجها، أنك تُعَرِض بكلام فيه فحش أو رفث أو خروج عن الأدب والشرع
اذن قوله تعالى (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا) هو وصف للتعريض الذي ذكره تعالى في قوله (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ) بأن يكون الكلام في حدود ما أباح الله تعالى
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ)
هنا النهي عن الخطبة، أي طلب الزواج، والاتفاق على الزواج، أو وضع موعد للزواج
(حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ)
حتى انتهاء العدة، وهي كما ذكرنا في الآية السابقة: أربعة أشهر هجرية وعشرة أيام
لأن صدر الآية ليس فيها النهي عن الخطبة في فترة العدة، هي ذكرت فقط الرخصة في التعريض لها فكان لابد من ذكر ذلك
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ)
لأن كل هذه الأحكام تكون في السر بين طرفين وهما الرجل والمرأة، ولذلك يجب التذكرة بأن الله تعالى يعلم ليس فقط هذا السر، ولكنه تعالى يعلم ما هو أخفي من ذلك السر، وهو أنه يعلم ما أنفسنا، ولذلك قال تعالى (فَاحْذَرُوهُ)
(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ)
طالما هناك تحذير، يأتي بعدها التبشير فيقول تعالى (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
هذا الحكم الذي ذكرته الآية الكريمة، وهو تحريم خطبة المعتدة، وجواز التلميح لها بالرغبة في الزواج منها، خاص فقط بالمعتدة من وفاة الزوج، أو المعتدة من طلاق بائن، أما المعتدة من طلاق رجعي فلا يجوز خطبتها لا تعريضاً ولا تصريحاً لأنها في حكم الزوجة، الا بعد انتهاء العدة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
الآية هامة جدًا، وتشير الى وجوب أن هناك هناك حدود في التعامل بين الرجل والمرأة، حتى بين الرجل والمرأة التى يريد أن يتزوجها، وهذا للأسف من الأمور التى يتساهل فيها الناس كثيرًا في زماننا، كثيرًا جدًا ما تسقط الحدود بين الزملاء في الدراسة، والزملاء في العمل، والشاب وخطيبته، وهذا يفتح باب المعاصى
|