تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة الثامنة والأربعون بعد المائة الأولى
تدبر الآيتين من (238) و(239) من سورة البقرة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
هاتين الآيتين جاءتا بين آيات الأحكام التى تحدثت عن الطلاق والعدة وغيرها، لأن هذه الأمور غالبًا ما تكون مثار نزاع وتخاصم وتقاطع، فكأن الله تعالى يشير الى أن الالتزام بمنهج الله، وحسن مراقبته، هذا هو الذي سيعيننا على حل القضايا التى تتعلق بالطلاق وغيره، وذلك بالعدل والاحسان والتسامح فيما بيننا
واختار الله تعالى الصلاة دون سائر العبادات، لأن الصلاة هي التي تهب المؤمنين الطمأنينة، فاذا أهم المسلم أمور الطلاق أو الوفاة فان الصلاة هى التى ستعطيه الطمأنينة، كما كان الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اذا حزبه أمر فزع الى الصلاة، وكان -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اذا حضر وقت الصلاة قال "أرحنا بها يا بلال".
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالي (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ) المحافظة هي حفظ الشيء والعناية به، كما تعطي أحد شيئًا وتقول له "حافظ عليه"
(وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) هي الصلاة الفضلى، لأن وسط الشيء هو أفضله، كما قال تعالى في سورة القلم (قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ) أي أفضلهم وخيرهم
والصلاة الوسطي أي الفضلى هي صلاة العصر
صحيح أن هناك آراء كثيرة في تعيين الصلاة الوسطي، حتى عدها الحافظ "بن حجر" رحمه الله في "فتح الباري" عشرين قولًا، وألف فيها الحافظ "عبد المؤمن الدمياطي" رحمه الله كتابا بعنوان "كشف المُغَطَّى في تبيين الصلاة الوسطى"
ولكن صح الحديث عن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأن الصلاة الوسطي هي صلاة العصر، فلا عبرة بغير ذلك من آراء
في صحيح البخاري مسلم، وغيرهما أنه في غزوة الأحزاب، كانت هناك مناوشات بين المسلمين وبين الأحزاب، وفي يوم كانت المناوشات شديدة جدًا، حتى غربت الشمس ولم يتمكن المسلمون من صلاة العصر، فَقَالَ الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى مَلَأَ اللَّهُ أَجْوَافَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا
سأل "عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ" عن الصلاة الوسطي، فَقَالَ: كُنَّا نَرَاهَا صلاة الصُّبْحَ حَتَّى قال رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ الْأَحْزَابِ: "شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ! مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَأَجْوَافَهُمْ نَارًا"
يقول -عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ- وهِيَ الصَلَاةُ الَّتِي فُتِنَ بِهَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. يعنى هي الصلاة التى فاتت سُلَيْمَانُ -عليه السلام- ) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) أي حتى غربت الشمس وضاعت منه صلاة العصر
وكان الصحابة يحسبون أن الصلاة الوسطي هي صلاة الصُّبْحَ لأن اليوم في الإسلام يبدأ من الليل، فأول صلاة في اليوم هي صلاة المغرب ثم صلاة العشاء، وآخر صلاة هي صلاة الظهر والعصر، فتكون الصلاة التى في الوسط بينهم هي صلاة الفجر، فبين حديث الرسول أن (الْوُسْطَى) ليس معناها الوسط بين شيئين، ولكن (الْوُسْطَى) يعنى الفضلى
روي أيضًا أن أحد الصحابة كان غلامًا صغيرًا في عهد الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فسأل الرسول وهو غلام صغير عن الصلاة الوسطي، فَأَخَذَ الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِصْبَعِه الصَّغِيرَةَ فَقَالَ: هَذِهِ الْفَجْرُ، ثمَ قَبَضَ الَّتِي تَلِيهَا. وَقَالَ: هَذِهِ الظُّهْرُ، ثُمَّ قَبَضَ الْإِبْهَامَ فَقَالَ: هَذِهِ الْمَغْرِبُ، ثُمَّ قَبَضَ الَّتِي تَلِيهَا وقَالَ: هَذِهِ الْعِشَاءُ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّ أَصَابِعِكَ بَقِيَتْ؟ فَقُلْتُ: الْوُسْطَى: فَقَالَ: أَيُّ صَلَاةٍ بَقِيَتْ؟ قال: الْعَصْرُ. قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: هِيَ الْعَصْر.
(وقوموا لله قانتين) يعنى قوموا لله في صلاتكم قانتين أي خاشعين، فهو أمر من الله تعالى بالخشوع والخضوع لله تعالى في الصلاة، ويدل على ذلك سبب نزول الآية، لأن المسلمون كانوا في أول فرض الصلاة يتحدثون في الصلاة، وربما يدخل أحدهم على الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو يصلى فيرد عليه الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- السلام ثم يكمل صلاته، فلما نزلت (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) أمرهم الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالتوقف عن الكلام في الصلاة، لأن "قَانِتِينَ" أي خاشعين، والذي يخشع قلبه تخشع جوارحه، ومنها اللسان فلا يتكلم إلا ما يتعلق بصلاته.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
اذن قوله تعالى (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ) يعنى حَافِظُوا عَلَى أداء الصَّلَوَاتِ في أول أوقاتها بكامل أركانها وآدابها (وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) وحافظوا على أداء الصلاة الفضلي، وهي صلاة العصر (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) وَقُومُوا لِلَّهِ في الصلاة خاشعين وخاضعين لله تعالى
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)
(فَإِنْ خِفْتُمْ) يعنى اذا كنتم في حال الخوف، بسبب قتال عدو، او أي سبب آخر من الأسباب، فلا تدعوا الصلاة، ولكن صلوا (رِجَالًا) والراجل هو الذي يمشي على رجليه، كما قال تعالى في سُورَةُ الْحَجِّ (يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ) يعنى: يَأْتُوكَ مُشَاةً وَرُكْبَانً.
فرخص الله تعالى في حالة الخوف من عدو أو غيره أن يصلى المسلم وهو يمشي
(أَوْ رُكْبَانًا) جمع راكب، يعنى ويمكن كذلك أن تصلوا وأنتم على دوابكم، ولايلزمكم في هذه الحالة -وهي حال المشي أو الركوب- التوجه الى القبلة، ويمكن الإيماء في الركوع والسجود، واذا تعذر الايماء فلا يفعل، وتصلى ركعتين أو ركعة واحدة، واذا لم يتيسر يكبر، ثم يؤخرها
(فَإِذَا أَمِنْتُمْ) أي من عدوكم (فَاذْكُرُوا اللَّهَ) أي فصلوا (كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) الصلاة التى عَلَّمَكُمْ الله تعالى
وهذه الصلاة هي التى يطلق عليها "صلاة شدة الخوف" لأن هناك صلاة أخري وهي صلاة الخوف وهي التي ذكرت في سورة النساء، وهي تكون عند الخوف من استغلال العدو لإنشغال المسلمون بالصلاة، ومباغتتهم بالهجوم، فيصلى نصف الجيش مع الإمام ويقوم نصف الجيش الثاني بحراسته، وعند انصراف الجيش الذي كان يصلى من صلاته، يقوم النصف الذي كان يحرس بالصلاة، ويقوم النصف الذي كان يصلى بحراستهن ولها عدة صفات مبسوطة في كتب الفقه
أما الصلاة التي تتناولها الآية، فهذه "صلاة شدة الخوف" وهي الصلاة ماشيًا أو راكبًا، ولا يشترط استقبال القبلة، ويوميء في الركوع والسجود، ويمكن أنت تكون ركعة واحدة، فهي صلاة شدة الخوف، وهي الصلاة أثناء القتال نفسه، أو الصلاة أثناء الهروب من ظالم
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
كما في سرية "عبد الله بن أنيس الجهني" وكان أحد المشركين واسمه "خالد بن سفيان الهذلى" يجمع القبائل للهجوم على المدينة، فأرسل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "عبد الله بن أنيس الجهني" ليقتل "خالد بن سفيان الهذلى" ، فلما وصل له كان وقت صلاة العصر، وخشي أن تكون بينه وبينه قتال تشغله عن الصلاة، فجعل وهو يمشي نحوه يومئ براسه للركوع والسجود حتى انتهي اليه
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
الإمام محمد عبده قال كلامًا قيمًا في تفسير هذه الآية، يقول "الصلاة لا تسقط بحال، سواء في حال الخوف أو المرض أو غير ذلك، والسبب في ذلك أن الصلاة عمل قلبي، وقد فرضت الأعمال الظاهرة لأنها تساعد على العمل القلبي المقصود أصلًا، ومن شأن الانسان اذا اراد عملًا قلبيًا أن يستعين على ذلك بما يناسبه من قول أو عمل
فأنت تنزه الله العظيم عن المثيل، وهذا عمل قلبي، والذي يعينك على تحقيق هذا العمل القلبي هو أن تقول "سبحان ربي العظيم" ونركع
وتنزه الله تعالى الأعلى، وهذا عمل قلبي، والذي يعينك على تحقيق هذا العمل القلبي أن تقول "سبحان ربي الأعلى"
والمطلوب حين تدخل في صلاتك أن تستحضر في قلبك أن الله تعالى هو المستولى بسلطانه على الكون كله، ولذلك تقول "الله أكبر"
وصفة التكبير أن ترفع يديك حتى يذكرك بأنك تلقي بالدنيا خلف ظهرك
وهكذا فكل هيئات الصلاة هي هيئات اختارها الله تعالى لتكون معين لاستحضار الأعمال القلبية المطلوبة أصلًا من الصلاة
ولذلك قالوا "الخشوع روح الصلاة" فبدون استحضار الخشوع في القلب، تكون الحركات لا قيمة لها
فاذا تعذر الاتيان ببعض الأعمال البدنية، فان ذلك لا يسقط العبادة القلبية التي هي روح الصلاة، ولذلك فان الصلاة لا يمكن أن تسقط بحال، اذا لم تستطع قائمًا فقاعدًا، واذا لم تستطع قاعدًا فعلى جنبك، اذا لم تستطع أن توميء برأسك فتحرك عينيك، اذا لم تستطع الوضوء تتيمم، وتتيمم من وجه الرض، واذا فقدت الماء والتيمم تصلى
الإمام "محمد عبده"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
اذن فالآية هامة جدًا في أن تعلمنا أنه لا يجب أن يشغلنا شيء عن الصلاة، ولا يجب أن يشغلنا شيء عن الله تعالى
لأن الله تعالى يأمرك أن تصلى وأنت تقاتل العدو، وأنت معرض للموت
للأسف البعض يؤخر الصلاة بحجة العمل
وكنت أقول لهؤلاء: هل أنت مشغول أكثر من الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المسئول عن العالم كله
أعرف رجلًا يحج كل عام، وحين يكون في عمله يؤخر الصلاة حتى ينتهي من عمله
أكثر صلاة ينشغل عنها الناس هي صلاة الصبح، ينشغلون عليها بالنوم، ولذلك يقول الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "ركعتى الفجر خير من الدنيا وما فيها" لأن الذي يجعلك تؤخر صلاة الفجر هي الدنيا
يقول أحد العلماء اتصلت بي امرأة وهي تبكي بكاءًا شديدًا، فاعتقد أنها تشكو من مشكلة عائلية، أو تريد مساعدة اجتماعية، فقال لها: ما ؤالك، قالت أنا طوال عمري لم تفتني صلاة الفجر يوم واحد، ولكن اليوم استيقظت فاذا بالشمس تنير المكان، وضاعت منى صلاة الفجر، فهل على كفارة، وكيف أصنع في هذه المشكلة .
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وأخيرًا من بلاغة القرآن أن الله تعالى عبر بإِنْ المفيدة للشك في حالة الخوف قال تعالى (فَإِنْ خِفْتُمْ) وبإذا المفيدة للتحقيق في حالة الأمن (فَإِذَا أَمِنْتُمْ)
كأن الله تعالى يذكرنا بنعمته علينا اذا جعل حالة الأمن هي الحالة الكثيرة الثابتة، وحالة الخوف هي الحالة القليلة الطارئة
صور المحافظة على الصلاة
|