تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة الحادية والخمسون بعد المائة الأولى
تدبر الآيتين (243) و(244) من سورة البقرة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
هذه الآية الكريمة تقص علينا قصة هامة جدًا من قصص بنى اسرائيل، وهي قصة قوم من بنى اسرائيل، علموا أن أحد أعدائهم سيقومون بمهاجمة قريتهم، وكانت أعدادهم كثيرة، ويستطيعون الدفاع عن أنفسهم، ولكنهم -وبدلًا من أن يدافعوا عن أنفسهم- جبنوا عن القتال، وتركوا قريتهم وديارهم خوفًا من الموت.
ويريد الله تعالى أن يعلمهم َأنَّ الْفِرَارَ مِنَ الْقِتَالِ، لا يؤخر أحدًا عن أجله، فأمرهم الله تعالى بالموت، فماتوا جميعًا في وقت واحد، وبقوا كذلك الى ما شاء الله، ثم أحياهم مرة أخري، وعاشوا حَتَّى أَتَتْ عَلَيْهِمْ آجَالُهُمْ، بَعْدَ ذَلِكَ.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (أَلَمْ تَرَ) يعنى: أَلَمْ تَعْلَمْ
وهي اشارة الى أن الله تعالى اذا أخبرك بشيء، فكأنك رأيته رأي العين.
(إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا) وهم قوم من "بنى اسرائيل"
(مِنْ دِيَارِهِمْ) أي من منازلهم ومن قريتهم، ويقال أن هذه القرية يقال لها "دَاوَرْدَانُ" ، في وسط العراق الآن، وقيل أن اسمها " أَذْرُعَاتَ" وهي الآن مدينة "درعا" في سوريا
(وَهُمْ أُلُوفٌ) قوله تعالى (وَهُمْ أُلُوفٌ) يدل على أن العدد أكثر من عشرة آلاف، لأن العرب كانت تقول (أُلُوفٌ) اذا كان العدد أكثر من عشرة آلاف، أما اذا كان العدد أقل من عشرة آلاف، فكانت العرب تقول: خمسة آلاف، ستة آلاف، سبعة آلاف، عشرة ألاف
فقال البعض أنهم كانوا ثَلَاثُونَ أَلْفًا، وقالوا كَانُوا أَرْبَعِينَ أَلْفًا، وقالوا كانوا سبعين الفًا، وقيل تسعون الفًا
ولم يحدد القرآن عددًا معينًا، ولكنه تعالى قال (أُلُوفٌ) وهو تعبير يدل على أمرين:
الأمر الأول: أن أعدادهم كانت كبيرة
الأمر الثاني: يدل أيضًا أن أعدادهم كانت أكثر من أعداد أعدائهم، لأن الكثرة هنا نسبية، فلو كانوا كثير، وأعدائهم أكثر منهم، لما عاب الله تعالى عليهم الفرار مع كثرتهم
ولذلك فقوله تعالى (وَهُمْ أُلُوفٌ) يدل على أنهم كانوا كثير، وليسوا كثير فقط، ولكنهم كانوا أكثر من أعدائهم، فليس هناك أي مبرر اذن لخوفهم
وهذا تقبيح لموقفهم المتخاذل، فلو كانوا أقل من أعدائهم لما كان مقبولًا أن يفروا من القتال، فما بالك اذا فروا من القتال، وجبنوا عن الجهاد، وهم أكثر عددًا من أعدائهم
وهذا مثل حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم" -ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر"
(حَذَرَ الْمَوْتِ) يعنى خوفًا من الْمَوْتِ، وفِرَارًا مِنْ عَدُوِّهِمْ، ومِنَ الْجِهَادِ في سبيل الله.
(فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا) قال لهم الله تعالى مُوتُوا، كقوله تعالى في سورة يس (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون)
وقيل أن الله تعالى أرسل اليهم ملكًا نادي فيهم أن موتوا فماتوا
المهم أنهم ماتوا جميعًا ميتة رجل واحد، من غير علة، وماتت معهم دوابهم
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(ثُمَّ أَحْيَاهُمْ) متى أحياهم الله تعالى ؟ الله أعلم .
قيل أنهم ظلوا موتي ثمانية أيام
وقيل أنهم ظلوا موتي حتى أصبحوا عظامًا، وتفككت هذه العظام، والانسان عندما يموت تتحول جثته الى هيكل عظمي بعد حوالى ستة أشهر، ثم تتلاشي أربطة المفاصل بعد سنة، أي أنهم ظلوا موتي ستة أشهر أو سنة أوأكثر
المهم أنهم ظلوا موتي الى ما شاء الله تعالى لهم أن يظلوا كذلك، حتى أحياهم الله تعالى
كيف أحياهم الله ؟
يمكن أن يكون الله تعالى قد أحياهم كما أماتهم، يعنى أمرهم أن يعودوا أحياءًا فعادوا أحياءًا
وقبل أن نبيهم كان اسمه "حِزْقِيلَ" وكان يطلق عليه "ابْنُ الْعَجُوزِ" وقد سُمِّيَ "ابْنُ الْعَجُوزِ" لأن أمه كانت عقيمة، وكانت تدعو الله تعالى أن يرزقها الولد، فولدت وهي عجوز فسمي "حِزْقِيلَ" "ابْنُ الْعَجُوزِ"
فعلى الرواية التى تقول أنهم ماتوا ثمانية أيام، خرج نبيهم "حِزْقِيلَ" في طلبهم فوجدهم جميعًا موتي، فجعل يبكي ويقول "يارب كنت في قوم يعبدونك، فبقيت وحيدًا لا قوم لى"
فأوحى الله تعالى إليه: أني جعلت حياتهم إليك، قال حزقيل: إحيوا بإذن الله فعاشوا.
وعلى الرواية التى تقول أنهم ماتوا حتى أصبحوا عظامًا، أن "حِزْقِيلَ" مر بهم فوجد كومة عظيمة من العظام، فجعل يتعجب من كثرة ما يري، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: يَا حِزْقِيلُ، أَتُرِيدُ أَنْ أُرِيَكَ فِيهِمْ كَيْفَ أُحْيِيهِمْ ؟ فَقَالَ: نَعَمْ! فَقِيلَ لَهُ: نَادِ: أَيَّتُهَا الْعِظَامُ، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَجْتَمِعِي، فنادي، فجعلت العظام تطير من أقصى الوادي وأدناه وتلتصق بعضها ببعض، حتى أصبحت أجسادًا من العظام، ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: نَادِي: أَيَّتُهَا الْعِظَامُ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَكْتَسِي لَحْمًا، فَنَادَى: فَاكْتَسَتْ لَحْمًا وَدَمًا، وَثِيَابَهَا الَّتِي مَاتَتْ فِيهَا، ثُمَّ أَوْحَى إِلَيْهِ: نَادِي: أَيَّتُهَا الأَجْسَادُ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَقُومِي. فبعثوا أحياء .
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثُمَّ أَمَرَهُمْ الله تعالى أَنْ يُجَاهِدُوا عَدُوَّهُمْ مرة أخري، فَذَلِكَ قَوْلُهُ في الآية التالية: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وهذه القصص كلها لينة الأسانيد، وإنما اللازم من الآية أن الله تعالى أخبر أن هناك قوم من البشر خرجوا من ديارهم فرارا من الموت، فأماتهم الله تعالى ثم أحياهم، وذلك ليعلمهم ويعلم كل من جاء بعدهم، أن الفرار من القتال لا يؤخر أجل الانسان، وأن كل انسان سيموت في الأجل الذي أجله الله له، سواء كان في ساحة القتال أو داخل بيته
وجعل الله تعالى هذه الآية مقدمة بين يدي أمره المؤمنين بالجهاد، في الآية التالية، وهي قول الله تعالى في الاية التالية
(وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
هذه الآية من أعظم الآيات في الحث على الجهاد، فهي قصة قصيرة جدًا، ولكن فيها عبرة عظيمة، وهي أن تجنب القتال، والجبن عن الجهاد في سبيل الله، لا يطيل عمر أحد، فكل انسان سيموت في الأجل الذي أجله الله له
فاذا حل أجل الانسان فانه سيموت سواء كان في ساحة القتال، أو كان نائمًا على سريره داخل بيته.
فخير للإنسان أن يموت في سبيل الله من أن يموت وهو على سريره
.
يُنسب إلى خالد بن الوليد أنه قال عند موته "لقد شهدت مئة زحف، وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح، وها أنا أموت على فراشي حتف أنفي، كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء"
كان "على بن أبي طالب" يسير بلا حراسة، فقيل له: ألا نحرسك يا أمير المؤمنين ؟ فقال: حارس كل امرىء أجله.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ)
إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ، في أنه تعالى لا يعجل لهم العقوبة، بل يمهلهم حتى يتوبوا عن المعصية
فهؤلاء الذين أماتهم الله تعالى ثم أحياهم، لو ماتوا هكذا، لكان موتهم على كبيرة من الكبائر، وهي الفرار من العدو، ولكنه تعالى أحياهم مرة أخري، حتى تكون أمامهم فرصة للتوبة
روي أن "عمر بن الخطاب" أُتِيَ بِشَابٍّ قد سرق، فامر بقطع يده، فجعل الشاب يقول: "يَا وَيْلَهُ، مَا سَرَقَتُ سَرَقَةً قَطُّ قَبْلَهَا" فَقَالَ عُمَرُ: "كَذَبْتَ وَرَبِّ عُمَرَ، مَا أَسْلَمَ اللَّهُ عَبْدًا عِنْدَ أَوَّلِ ذَنْبٍ"
دخل عثمان بن عفان على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-فقال: يا رسول الله، أخبرني عن العبد كم معه من ملك ؟ قال: ملك على يمينك على حسناتك، وهو أمين على الذي على الشمال، فإذا عملت حسنة كتبت عشراً، وإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين: اكتب، قال: لا، لعله يستغفر الله ويتوب ، فإذا قال ثلاثاً قال : نعم اكتب
فقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) يعنى إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ في أنه لا يعجل لهم العقوبة، بل يمهلهم حتى تكون أمامهم فرصة للتوبة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ)
يعنى ولكم أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ الله تعالى على هذه النعمة، وهي نعمة امهال الله تعالى لنا، وكان ينبغي أن نشكر الله تعالى على هذه النعمة العظيمة وذلك بأن نبادر بالتوبة
فشكر نعمة امهال الله لنا، وعدم تعجيل العقوبة علينا، تكون بالمبادرة بالتوبة، وعدم الإصرار على المعصية.
ولكن أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ على نعمة الإمهال، ويغترون بحلم الله تعالى عليهم، ويتمادون في المعصية أكثر وأكثر
|