تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة الثانية والخمسون بعد المائة الأولى
تدبر الآية (245) من سورة البقرة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
المراد بالقرض في هذه الآية هو الصدقة
فقال بعض المفسرون أن المقصود هنا الصدقة في جميع مصارف الزكاة والصدقات
وقال البعض أن المقصود بها الصدقة في سبيل تجهيز الجيوش، لأن الآية جاءت في وسط الآيات التي تحث على القتال الجهاد في سبيل الله
وقلنا من قبل أن القرآن عنى كثيرًا بالإنفاق في سبيل تجهيز الجيش، وهو أحد مصارف الزكاة الثمانية التي ذكرها الله تعالى في الآية (60) من سورة التوبة، يقول تعالى (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) بل يأتي دائمًا ذكر الجهاد بالمال قبل ذكر الجهاد بالنفس، لأن بدون الانفاق على التسليح وتجيز الجيوش لن يكون هناك جيش، وتسقط الدولة، ولذلك نجد الآن الدول الغنية هي الدول صاحبة الجيوش القوية
والمختار عندنا أن المقصود في الآية هو الصدقة في جميع مصارف الزكاة والصدقات، وبالذات الصدقة في الجهاد في سبيل الله، لأن الآية جاءت في وسط الآيات التي تحث عن الجهاد
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
واستخدام اسلوب الاستفهام فيه مبالغة في التأثير، كمن يقول: مَنْ ذَا الَّذِي يَفْعَلُ كَذَا ؟
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
روي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أن هذه الآية لما نزلت أَتَتِ الْيَهُودُ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقالوا: يَا مُحَمَّدُ افْتَقَرَ رَبُّكَ، يَسْأَلُ عِبَادَهُ ؟ وكانوا يتحدثون في المدينة للمؤمنين ويقولون لهم: إلهكم محتاج يستقرض
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ في سورة آل عمران: (لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ۘ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ )
.
وهذا من غبائهم، لأن ما معنى القرض ؟
أصل كلمة "قرض" في اللغة هو "القطع" ومنه المقراض، وهو المقص الذي يقطع به، ويقال انقرض الحيوان كذا، لأنه انقطع اثره، فسمي القرض بذلك الاسم لأن الذي يقرض يقطع جزءًا من ماله ويعطيه لآخر
فمعنى القرض: هو أن تعطي غيرك مالًا على ان يرده اليك بعد فترة من الزمن
فقال الله تعالى أن ما تنفقه في سبيله تعالى من صدقة هو قرض، لأن الله تعالى يرده اليك يوم القيامة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وعبر الله تعالى بِالْإِقْرَاضِ، لأن التَّعْبِيرُ بِالْإِقْرَاضِ يَقْتَضِي أَنَّ الْقَرْضَ لَا يَضِيعُ
وذلك مثل من يشتري أذون خزانة، الذي يشتري أذن خزانة هو يقرض الحكومة، ولذلك يقولون أنه قرض مضمون، صفر مخاطر، لأنك تقرض الحكومة، فما بالك بمن يقرض الله تعالى
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
والتعبير عن الصدقة بالقرض من تلطف الله تعالى بعابده، سواء تلطفًت بمن يقرض، كقوله تعالى في الحديث القدسي: "إن الله تعالى يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين ؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده ؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده ؟ يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال: رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين ؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه ؟ أما على أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي ؟ يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني، قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين ؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي ".
وأيضًا تلطف بعبده الفقير الذي يقبض الصدقة، لأن الله تعالى يحث صاحب المال على النفقة عليه، فيقول له أنت لا تعطي هذا الفقير ولكنك تقرضني أنا
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وجه آخر لتسمية الصدقة بالقرض، لأن الذي يقترض من أحد يظل طوال الفترة حتى يرد القرض، طيب العلاقة بمن أقرضه
فاذا اقرضت الله تعالى، ووعدك برد القرض يوم القيامة أضعافًا مضاعفة، فسيظل الله تعالى طيب العلاقة بك طوال حياتك وحتى تلقاه يوم القيامة فيرد اليك قرضك
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وجه آخر، أن الإقراض يشعر بِحَاجَةِ الْمُسْتَقْرِضِ إِلَى الْمُقْرِضِ، فاذا إستقرضك الله تعالى، فينبغي أن تستحي منه تعالى
فلو أن مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا خَاطَبَكَ بِمِثْلِ هَذَا الْخِطَابِ فِي التَّلَطُّفِ، فلن تتردد في اقراضه
ولذلك يقول الإمام "محمد عبده": هَذِهِ الْآيَةُ لَوْ أُنْزِلَتْ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ هَيْبَةِ اللهِ تَعَالَى وَالْحَيَاءِ مِنْهُ
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(قَرْضًا حَسَنًا)
أن يكون من مال حلال خالص ليس فيه حرام، أن لا يتبعه مناً ولا أذى، وألا يكون فيها رياء
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً)
قال البعض أنه تعالى يضاعف لهم الى سبعمائة ضعف، لأن الله تعالى قال في آية اخري (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ)
ونقول لهم أكمل الآية (وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)
اذن قوله تعالى (فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) هي ما تتفق مع قوله (وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ)
اذن هذه الأضعاف، وهذا الثواب، ليست سبعمائة ضعف، ولكنها أضعافًا كثيرة غير معلومة العدد، بل هي أضعاف لا يعلم كنهها الى الله
لأن الذي وعدك بهذه الأضعاف هو الله تعالى وهو أكرم الأكرمين
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ) وقرأت "يَبْسُطُ" بالسين والصاد، وهي لغة
والمعنى أن الله تعالى (يَقْبِضُ) يعنى يُمسك الرِّزق على مَنْ يشاء من عباده، (وَيَبْسُطُ) أي يوسع الرزق على من يشاء من عباده.
يعنى هذا الذي يستقرضك، ويطلب منك القرض، هو الذي بيده أن يوسع لك في رزقك أو يضيقه عليك
فلا تبخل بما يستقرضه منك لئلا يبدل هذه السعة الحاصلة لكم بالضيق
ولا تعتمد على مالك ولكن اعتمد على فضل الله لك
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)
أي إلى الله تعودون فيجزيكم بأعمالكم
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
لَمَّا نَزَلَتْ هذه الاية، ذهب "أَبُو الدَّحْدَاحِ الأَنْصَارِيُّ" الى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وقال:
- فداك أبي وأمي يَا رَسُولَ اللَّهِ أوان الله يستقرضنا وهو غني عن الْقَرْضَ ؟
قَالَ –صلى الله عليه وسلم-:
- نَعَمْ يَا أَبَا الدَّحْدَاحِ، يريد أن يدخلكم الجنة به.
فقَالَ أبو الدَّحْدَاحِ:
- يَا رَسُولَ اللهِ، ان لى حديقتين، والله لا أملك غيرهما، قد جعلتهما قرضا لله تعالى
قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-
- "اجعل إحداهما لله والأخرى دعها معيشة لك ولعيالك"
قال:
- فاني قد جعلت خيرهما لله تعالى، وهو حائط فيه ستمائة
ثم انطلق الى الحائط، وفيه زوجته "أُمُّ الدَّحْدَاحِ" وَعِيَالُهُ، فنادي: يا "أُمُّ الدَّحْدَاحِ" فَقَالَتْ: لَبَّيْكَ يا أبا الدحداح. فَقَالَ: اخْرُجِي، فَقَدْ أَقْرَضْتُهُ رَبِّي فقالت: بارك الله لك فيما اشتريت.
ثم أقبلت أم الدحداح على صبيانها تخرج ما في أفواههم وتنفض ما في أكمامهم
وقال الرسول –صلى الله عليه وسلم-: (كَمْ مِنْ عِذْقٍ رَدَاحٍ لِأَبِي الدَّحْدَاحِ فِي الْجَنَّةِ)
والعِذْقٍ هو غصن النخلة، والرَدَاحٍ يعنى ثقيل
|