تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة الرابعة والخمسون بعد المائة الأولى
تدبر الآيتين (253) و(254) من سورة البقرة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(تِلْكَ الرُّسُلُ) أي هؤلاء الرُّسُلَ الَّذِينَ قَصَّ اللَّهُ تعالى قِصَصَهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وغيرهم من الرسل
(فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ)
أي بعض هؤلاء الرسل في درجة أعلى من غيرهم من الرسل
وبعضهم له خصائص ليست لغيره من الرسل
آدم -عليه السلام- خلقه الله بيده
ادريس –عليه السلام- رفعناه مكانًا عليا
ابراهيم –عليه السلام- خليل الله
موسى –عليه السلام- كليم الله
عيسي –عليه السلام- ايدناه بروح القدس
يحي –عليه السلام- لم يرتكب ذنب طوال حياته.
لوط –عليه السلام- اقسم الله تعالى به (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ)
سليمان –عليه السلام- علم منطق الطير، وسخر له الجن، وأتاه الله ملكًا لا ينبغي لأحد من العالمين.
الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خصوصيته أنه خير البشر
(مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ)
ثم بين تعالى بعض مظاهر التفضيل ، فقال تعالى (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ) وهو موسى –عليه السلام-
والحق –سبحانه وتعالى- كلم آدم، (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) وكلم الحق –سبحانه وتعالى- الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في رحلة المعراج، ولكن خصوصية موسى أن طريقة الوحي الأساسية بالنسبة لموسى كانت هي الكلام
(وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) المقصود هنا هو الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنه خير خلق الله تعالى، ودرجته أعلى من درجة جميع رسل الله، وهو -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في أعلى درجة في الجنة
(وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ)
وأعطينا "عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ" وهي الْأَدِلَّةَ الدالة عَلَى صدق نُبُوَّتِهِ: مِنْ إِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ، وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى، بإذن الله، وغير ذلك
(وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ)
أي وَقَوَّيْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ، وهو جبريل –عليه السلام- والْقُدُسِ من الطهارة.
وهذه خصوصية لعيسى –عليه السلام- ليست لغيره من الرسل، فكل الرسل كان يأتيهم جبريل –عليه السلام- بالوحي ثم ينصرف، حتى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول لجبريل "ما يَمْنَعُكَ أنْ تَزُورَنا أكْثرَ مِمَّا تَزُورُنا "فنـزل قول الله تعالى (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ) أما عيسي –عليه السلام- فكان جبريل –عليه السلام- ملازمًا له لا يتركه ابدًا، ولذلك قالوا أن هذا سبب أنه –عليه السلام- لم يتزوج.
لأن عيسى - عليه السلام - قد عاش حياته محاربا من أعدائه الرومان ومن قومه الذين أرسل إليهم وهم بنو إسرائيل ولم يؤذن له بالقتال ليدافع عن نفسه، ولذلك تولى الله - تعالى - الدفاع عنه، فارسل اليه الله تعالى أحد جنوده وهو جبريل –عليه السلام- يحرسه ولا يتركه أبدًا .
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ونلاحظ أن الله تعالى حين ذكر بعض مظاهر التفضيل، تحدث عن موسى –عليه السلام- ثم عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –ثم عن عيسي –عليه السلام-
وهؤلاء الرسل الثلاثة هي الْأُمَمِ الموجودة الآن وهي: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمُسْلِمُونَ
وذِكْرَ تعالى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في الوسط، لأن أمته هي الأمة الوسط، وشريعته هي الشريعة الوسط
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ)
أي: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ تعالى لما حدث قتال بين أمة كل رسول من الرسل
(مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ)
أي مِنْ بَعْدِ أن جاءهم الرسل بالمعجزات والأدلة الدالة على صدق نبوتهم
كأن القتال ينشأ بعد أن يأتي كل رسول بالأدلة الدالة على صدق رسالته
لأن قبل ارسال الرسول، الكل على الباطل، ولكن بعد ارسال الرسول ينقسم قومه الى فريقين: فريق الحق وفريق الباطل، فينشأ الخلاف، ويكون الاقتتال.
ولذلك قال تعالى (وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) يعنى بعد ارسال الرسول، وبعد أن يأتي بالأدلة على صدق نبوته، ينقسم الناس في فريقين: فريق المؤمنين وفريق الكافرين، ومن ثم ينشأ الاقتتال
(وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا)
أي ولو شاء الله أن يجعلهم كلهم على الإيمان، وبالتالي لا يحدث بينهم قتال لفعل
(وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ)
ولكن شاءت ارادة الله تعالى أن يكون الانس والجن هم المخلوق الوحيد الذي له ارادة وله اختيار
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
أذكر أن ملحدة يابانية سالت دكتور ذاكر نايك:
اذا كان الهكم عظيم جدا لماذا لا يحول العالم أجمع الى أمة اسلامية ؟
لمذا لا يقول للعالم كن مسلمًا فنتجنب القتال
فقال لها على الفور: الرد موجود في القرآن
الله يعلم أنك ستسالين هذا السؤال
فقالت له: لا أعتقد هذا ؟
اذن لماذا الرد موجود في القرآن ؟
يقول تعالى في سورة "يونس" الآية (99)
(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)
الله تعالى خلق أصنافًا متعددة من المخلوقات، باستثناء الانس والجن ليست لها ارادة حرة
اذا كانوا يطيعون كل أوامر الله فهم ملائكة
المحلدة اليابانية تسأل د. ذاكر: اذا كان الهكم عظيم جدا لماذا لا يحول العالم أجمع الى أمة اسلامية ؟
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ)
يعنى هذه الأموال التى أطلب منكم انفاقها في سبيلي، هي أصلًا من عطائي لكم
(مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ) وهو يوم القيامة
(لَا بَيْعٌ فِيهِ) لا تستطيع أن تبتاع في يوم القيامة بهذه الأموال أي شيء، فلا قيمة لها للمال والذهب والممتلكات يوم القيامة
الأموال في الآخرة ستكون مثل عملة تم الغائها ولا قيمة لها
تخيل لو بيدك عملة قيل لك أنه سيتم الغائها في خلال عام
فلا شك أنك ستنفقها كلها، ولا تجعل معك الا ما تحتاجه لتعيش عيشة الكفاف
(وَلَا خُلَّةٌ) الخليل هو الذي يتخلل حبه القلب، وهو أعلى درجات الحب، ولذلك قلنا أن خصوصية ابراهيم –عليه السلام- أنه خليل الله، والمراد أنه يوم القيامة لا ينفعك أحد مهما كان حبه لك، يقول تعالى (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)
(وَلَا شَفَاعَةٌ) لن يشفع لك أحد عِنْدَ اللَّهِ كَمَا كَانَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، كما قال تعالى في سورة الشعراء عن أَهْلِ الْجَحِيمِ (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ)
والمقصود هنا هو أهل الْكُفْرِ والمعصية، أما أهل الْإِيمَانِ فينفعون بعضهم يوم القيامة، ويَشْفَعُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ.
(وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)
الكفر هو أعلى أنواع الظلم، وقلنا من قبل أن الكافر يظلم نفسه، لأنه لا يستطيع أن يظلم ربه
وتذييل الاية بقوله تعالى (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)
اشارة الى أن قوله تعالى (وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ) يقصد به الكافرون، أما المؤمنون فتنفعهم الأخوة في الله، وينفعهم الحب في الله، وينفعهم الاجتماع على طاعة الله.
|