تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة السادسة والخمسون بعد المائة الأولى
تدبر الآيتين (256) و(257) من سورة البقرة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
نبدأ أولًا بذكر معاني المفردات وجمل هذه الآية الكريمة، ثم نذكر المعنى الاجمالى لها، وسبب نزولها
(لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)
يعنى لا يجوز أن نكره أحد على الدخول في الدين وهو الاسلام.
)قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)
(الرُّشْدُ) هو الحق، و(الْغَيِّ) هو الباطل
فالمعنى أنه لا يجوز أن نكره أحد أو نجبره على الدخول في الاسلام، والتعليل لأن الحق قد انكشف من الباطل، والهدي من الضلال، وذلك بنزول القرآن الكريم، وبعثة الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ)
(الطَّاغُوتِ) من الطُغْيَان، وهو مجاوزة الحد
والمقصود به كل ما عبد من دون الله تعالى
فمن كفر أي ترك عبادة غير الله تعالى، وآمن بالله وحده لا شريك له
(فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا)
(فَقَدِ اسْتَمْسَكَ) أي تمسك تمسكًا بالغًا
(بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى)
العروة هو مدخل زر القميص، والعروة من الدلو أو الكوز مقبضه.
فالمقصود بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى أي بالمقبض القوي الذي ينجو به
(لَا انْفِصَامَ لَهَا) أي لا تنفك ولا تنحل بحال من الأحوال؛ لأنها محكمة قوية.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ومعنى الآية الكريمة: أنه لا يجوز أن يكره أحد على الدخول في دين الاسلام، لأنه قد تبين الحق من الباطل، والهدي من الضلال، بعد نزول القرآن الكريم، وبعثة الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وعليه فمن يترك عبادة غير الله تعالى، ويؤمن بالله وحده، ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقد تمسك بما ينجو به
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وهذه الآية لها سبب نزول وهي أن أهل المدينة قبل دخول الاسلام كانوا من الأوس والخزرج واليهود، وكان الأوس والخزرج وثنيين يعبدون الأصنام، وكان اليهود أهل الكتاب
وكانت المرأة من الأوس والخزرج اذا كانت لا يعيش لها ولد (واسمها في العربية الفصحي مِقْلاَةً) تنذر أنه اذا عاش لها ولد أن يكون يهوديًا، يتيمنون بذلك، فكان اذا عاش لها ولد يسترضع عند اليهود ويكون معهم على دينهم.
فلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ دخلت الأوس والخزرج في الاسلام، وظل بعض أبنائهم على اليهودية، فكانت الأنصار تسال الرسول وتقول: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نُكْرِهُ أَوْلَادَنَا الَّذِينَ هُمْ فِي يَهُودَ عَلَى الْإِسْلَامِ ؟ ثم كان اجلاء يهود بنى النضير عن المدينة في السنة الرابعة من الهجرة، فازداد الحاح الانصار على الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى يسمح لهم أن يجبروا أبنائهم الذين هم في يهود على الدخول في الاسلام، وقالوا: يا رسول الله لا ندع أبناءنا، فنزلت هذه الآية الكريمة (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) يعني لا يجوز أن يكره أحد على الدخول في الاسلام
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
قيل أيضًا في سبب نزول هذه الآية الكريمة أن رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو الْحُصَيْنِ: كَانَ لَهُ ابْنَانِ قد تنصرا قبل بعثة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، على أيدي تجار قدموا من الشام، وتركا المدينة ولحقا بالشام، فلما بعث الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أسلم أَبُو الْحُصَيْنِ، وكان ابناه بالشام، ثم قدما المدينة في تجارة، فعرض أبوهما عليهما الاسلام فأبيا، فقال لهما ابوهما: لا أدعكما حتى تسلما، فاختصموا الى الرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فخلى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سبيلهما، وقال: أبعدهما الله، فوجد أَبُو الْحُصَيْنِ على الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال: يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا أنظر ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)
يعنى البشر أحرار في اختيار معتقداتهم
يقول جلال الدين الرومي"مِن الأنبياء تعلَّمنا الحرية"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
بعض أو كثير من المفسرين –للأسف- قالوا أن هذه الآية منسوخة بآيات القتال، وهذا غير صحيح لأن هذه الآية الكريمة (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) قاعدة كلية، والقواعد الكلية لا تنسخ
وهذا الذي تسكن إليه النفس، لأن الاعتقاد لا يمكن أن يكون مع الإِكراه
ولو أكره الناس على الدخول في الدين، فان ذلك يعنى أن نخلق شريحة ضخمة من المنافقين في المجتمع، وهذا أمر مدمر للمجتمع المسلم
والرسول –صلى الله عليه وسلم- كان من أهم أولوياته بعد الهجرة، وخصوصُا بعد غزوة بدر، هو تنقية مجتمع المدينة من المنافقين
والجهاد في الإِسلام إنما شرع لرد العدوان، وجهاد الذين يقفون في طريق الدعوة، حتى نتيح للناس حرية الاختيار.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
الأعجب ان "عمر بن الخطاب" كان متزوجًا من امرأتين مشركتين، ولم يكرههن على الاسلام، فلما نزلت الآية بعدم جواز زواج المسلم من المشركة ) وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) وكان ذلك في السنة السابعة من الهجرة، أصرتا على الشرك ففارقهما عمر
وواحدة منهما، وكان اسمها "قريبة بنت أبي أمية" لما فارقها "عمر بن الخطاب" تزوجت من "معاوية بن أبي سفيان" ولم يكن قد أسلم، فلما اسلم اصرت مرة أخري على الشرك ففارقها، وكانت أخت "أم سلمة" زوج النبي
وكان لعمر بن الخطاب مملوك اسمه "اسلم" وكان نصرانيًا، وكان "عمر" يعرض عليه الاسلام، فيأبي، فيقول عمر (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)
والأمثلة كثيرة لا حصر لها، ولكن اخترنا "عمر بن الخطاب" لأنه رمز الشدة في الدين "عمر بن الخطاب" تزوج من مشركتين، ولم يكره واحدة منهما على الاسلام
"عمر بن الخطاب" كان له مملوك نصراني، ولم يكرهه على الدخول في الاسلام
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
أما الحديث " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ.... الى آخر الحديث" فالمقصود به الغاية التى ينتهي عندها قتال الذين أذن الله في قتالهم
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257
أصل كلمة الولى من القرب، فكانت العرب تقول: أولياء الرجل أي أقاربه
ما دام العبد سيستمسك بالعروة الوثقي فقد اصبح وليُا لله تعالى، ولذلك قال بعدها (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا)
وكلمة (وَلِيُّ) من "وَلِيَ" أي: جاء الشيء بعد الشيء من غير فاصل، وما دام يليه من غير فاصل فقد أصبح الأقرب له
ولذلك نقول: أولياء الرجل يعنى أقاربه
ونقول أيضًا "الوالي" يعنى الذي يتولى شئون الرعية
فقول الله تعالى (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا) يعنى الله تعالى قريب من المؤمنين، وهو تعالى الذي يَتَوَلَّاهُمْ بِعَوْنِهِ وَتَوْفِيقِهِ ورعايته
(يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) أي يُخْرِجُهُمْ مِنَ ظُّلُمَاتِ الشرك والمعصية إِلَى نُّورِ الايمان والطاعة.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) وقد قلنا أن الطاغوت هو كل ما عبد من غير الله تعالى، وَالْحَظُّ الْأَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ هو الشَّيْطَانِ.
فالذين كفروا الذي يتولى أمرهم هذه الأصنام وهذه الآلهة التى تعبد من دون الله تعالى والتى لا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًا، والذي يتولى أمرهم هو الشيطان
(يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) أي يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ نُّورِ الايمان والطاعة، إِلَى ظُّلُمَاتِ الكفر والمعصية.
وهذه من أحسن التشبيهات لأن الكفر والمعصية كالظلمة التي يتخبط فيها الكافر والعاصى.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ونجد أن الله تعالى جَمَعَ الظُّلُمَاتِ، بينما وَحَّدَ لَفْظَ النُّورِ
اشارة الى أَنَّ طُرُقَ الضَّلَالِ كثيرة، بينما طَرِيقَ الْحَقِّ وَاحِدَ
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ايضًا: كان القياس يقتضى أن يقول (والطاغوت ولى الذين كفروا) ولكن الله تعالى لم يقل ذلك للإحتراز عن وضع اسم الطاغوت في مقابل لفظ الجلالة.
|