تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة السابعة والخمسون بعد المائة الأولى
تدبر الآية (258) من سورة البقرة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى في الآية السابقة (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)
ثم يورد الله تعالى في هذه الآية قصة لتكون مثالًا للمؤمن ومثالًا للكافر اللذين تقدّم ذكرهما، وهما ابراهيم –عليه السلام- الذي ناظر الكافر فغلبه لأن وليه الله، والملك الكافر الذي بهت وغلب لأن وليه الطاغوت.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
هذه الآية الكريمة تتحدث عن المواجهة التى حدثت بين ابراهيم -عليه السلام- والملك "نمْرُوذُ بْنُ كَنْعَانَ"
والمدة بين ابراهيم -عليه السلام- ونوح –عليه السلام- ألف سنة، اذن هذه القصة حدثت بعد وفاة نوح بألف سنة، وحدثت منذ خلق آدم بأربعة آلاف سنة
وخلال المدة من وفاة نوح وبعثة ابراهيم كانت هناك أربعة أجيال فقط، لأن متوسط الأعمار كان كبيرًا
فنمْرُوذُ بْنُ كَنْعَانَ من الجيل الرابع بعد نوح –عليه السلام- فهو: نُمْرُوذُ بْنُ كَنْعَانَ بْنِ كُوشَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ
و"نمْرُوذُ بْنُ كَنْعَانَ" هو أول ملك في الأرض، وأول من لبس التاج، وأول من تجبر في الأرض، وأول من صلب وأول من قطع الأيدي والأرجل، وأول من ادعى الربوبية
واستطاع "نمْرُوذُ بْنُ كَنْعَانَ" أن ينتصر على كل شعوب الأرض، وأن يخضع كل الأقاليم لسلطانه، وبذلك اصبح واحد من أربعة حكموا كل الأرض، وهؤلاء الأربعة: مُؤْمِنَانِ وَكَافِرَانِ، فَالْمُؤْمِنَانِ: سُلَيْمَانُ -عليه السلام- وَذُو الْقَرْنَيْنِ، وَالْكَافِرَانِ هما: نُمْرُوذُ بْنُ كَنْعَانَ .وبَخْتِنْصَرُ
ويقال أن "نُمْرُوذُ بْنُ كَنْعَانَ" هو الذي بنى مدينة بابل، وأنشأ فيها برج "بابل" ، وقيل أنه شيده ليحميه من الطوفان لو تكرر على الأرض مرة اخري، وقيل أنه أنشأه ليحكم أهل السماء كما حكم أهل الأرض
استطاع "نمْرُوذُ بْنُ كَنْعَانَ" أن ينتصر على كل شعوب الأرض
أنشأ "نمْرُوذُ" برج "بابل" ليحكم أهل السماء كما حكم أهل الأرض
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وتبدأ قصة ابراهيم –عليه السلام- مع قومه عندما حطم الصنام، والقاه قومه في النار، ولكن الله تعالى نجاه من النار بأن أمر النار ان تكون بردًا وسلامًا على ابراهيم، وانتشر أمر ابراهيم بين الناس، وأنتشر أمر دعوته الى عبادة الله وحده، فأمر الملك "نُمْرُوذُ بْنُ كَنْعَانَ" باحضاره
فلما دخل عليه ابراهيم، قال له نمروذ: مَنْ رَبُّكَ؟ قَالَ ابراهيم: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، وهذا رد عبقري من ابراهيم، فهو لم يكتف بأن يقول ربي الله، ولكن جاء بحيثية الربوبية وهي أن ربه يحي ويميت.
قَالَ نُمْرُودُ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، قال ابراهيم: كيف ؟
فأمر "نُمْرُوذُ" بقتل أحد الجنود من حرسه فَقُتِّل، ثم أمر باحضار رجل محكوم عليه بالقتل، فأمر بالعفو عنه.
كان يمكن لإبراهيم أن ينتصر لحجته فيقول للملك أنت تقول أنك تحيي وتميت فاذا كنت تحي فأحي هذا الرجل الذي قتلته
وأما الموت فأنت لم تمت هذا الرجل وانما قتلته، وفرق بين القتل والموت، القتل أن تجرح انسان وتنقض بنيته، وأما الموت فأن تخرج الروح من الجسد بدون جرح أو نقض بنية.
لم يحاول ابراهيم أن ينتصر لحجته، لأن حجته ظاهرة لكل ذي عقل، ولذلك فهو لا يحتاج الى نصرة حجته، وانما جاء بحجة ثانية، حتى يكون معه حجتان بدلًا من حجة واحدة
فلو جادل ابراهيم عن حجته الأولى لكان معه في مواجهة النمروذ حجة واحدة
أما حين انتقل من الحجة الأولى الى الثانية فقد أصبح معه حجتان بدلًا من حجة واحدة.
(قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
انتقل ابراهيم الى حجة ثانية لا يمكنه أن يقول فيها: أنا أفعل ذلك، فقال: (فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ)
يعنى الله تعالى يأتي بالشمس كل يوم من جهة الشرق، فأنت أنت بها غدًا من جهة الغرب.
وهذه حجة لا يستطيع النمروذ أن يدعيها لنفسه، لأن الشمس تأتي مِنَ الْمَشْرِقِ قبل أن يوجد النمرود فلا يستطيع أن يدعي انه هو الذي يأتي بها مِنَ الْمَشْرِقِ.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ولكن لماذا لم يرد النروذ على ابراهيم حين قال (فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ) لماذا لم يرد عليه ويقول: فليأت بها ربك من المغرب ؟
يقول العلماء لأن النمروذ يعلم أن رب ابراهيم قد نجاه من النار، فخشي ان طلب ذلك أن يأتي ربه تعالى بالشمس من المغرب فيزداد هزيمة وفضيحة أمام ابراهيم
(فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(أَلَمْ تَرَ) قلنا من قبل أن (أَلَمْ تَرَ) يعنى أَلَمْ تعلم، وأن هذا التعبير القرآني ليشير الى أن الله تعالى حين يخبرك بشيء فكأنك رأيته بعنيك
كذلك (أَلَمْ تَرَ) استفهام يقصد به التعجب، كمن يقول: ألم تر إلى فلان كيف صنع
(حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ) يعنى جادل وخاصم، وسميت بذلك لأن كل طرف يلقي بحجته أمام الآخر
(فِي رَبِّهِ) الضمير فِي رَبِّهِ يمكن أن يعود على ابراهيم، يعنى في رب ابراهيم، ويمكن أن يعود على رب النمروذ، والمعنى واحد، يعنى جادله في وجود ربه، ذلك أنه أنكر أن يكون هناك اله غيره.
(أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ) يعنى هو حاج ابراهيم لأن الله تعالى آتاه أي أعطاه الملك، بمعنى أن ايتاء الله تعالى له الملك هو الذي أورثه الكبر والعجب والعتو، وهو الذي جرأه على أن يحاج ابراهيم في ربه.
كذلك قوله تعالى (أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ) اشارة الى أن هذا الملك الذي اغتر به، هو من عطاء الله تعالي، فكان ينبغي له أن يقابل هذا العطاء من الله تعالى بالشكر، ولكنه بدلًا من أن يقابل هذا العطاء بالشكر قابله بانكار ألوهية الله تعالى وادعاء الألوهية لنفسه
ولذلك فان أهل الصلاح يستقبلون نعم الله تعالى عليهم فيقولون (اللهم اجعلها عوناً على طاعتك)
(إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ)
الظاهر هنا أن النمروذ قال: من ربك؟ فقال إبراهيم: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، إلا أن تلك المقدمة حذفت، لأن الواقعة تدل عليها.
(قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ)
يعنى غلب ودهش وأسكت وأخرس وتحير
وقُرأِت) فَبَهَتَ الَّذِي كَفَرَ) بفتح الباء والهاء بمعنى أن إبراهيم بَهَتَ الذي كفر
(وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أَيْ: لَا يَهْدِيهِمْ فِي الْحُجَّةِ، ولا يهديهم الى طريق الجنة يوم القيامة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
لم تذكر الآية الكريمة ما الذي حدث بعد ذلك
ولكن جاء في بعض كتب أهل العلم أن النمروذ قال: إن هذا إنسان مجنون فأخرجوه
وهذا هو الاتهام الجاهز الذي يقابل به الكفار أنبياء الله تعالى.
كما اتهمت قريش الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ)
ولذلك فقراءة) فَبَهَتَ الَّذِي كَفَرَ) بفتح الباء والهاء يمكن أن تكون بمعنى أن هذا الكافر بَهَتَ ابراهيم عليه السلام بأن اتهمه بالجنون.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم قيل أن الله تعالى قد بَعَثَ عَلَيْهِ بَعُوضَةً، فَدَخَلَتْ فِي مَنْخَرِهِ، فَمَكَثَ أَرْبَعَمِئَةِ سَنَةً يُضْرَبُ رَأْسُهُ بِالْمَطَارِقِ، وَكَانَ قد ملك الأرض وتجبر أَرْبَعَمِئَةِ عَامٍ، فَعَذَّبَهُ اللَّهُ أَرْبَعَمِئَةِ سَنَةٍ كَمِلْكِهِ، ثم أَمَاتَهُ اللَّهُ.
وهكذا فان الله تعالى يرسل على الجبابرة أضعف جنوده
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
هذه القصة فيها دروس كثيرة منها أن ابراهيم جادل هذا الملك، فهذا يدل على أن ليس كل الجدال منهي عنه، بل الجدال لإثبات الحق واجب.
وقد جادل الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قومه، وجادل أهل الكتاب وغير ذلك.
أما الجدال المنهي عنه فهو الجدال بالباطل، يعنى يجادل وهو يعلم أن الحق بخلاف ما يقول، ولكنه يجادل فقط لينتصر لنفسه
وكذلك الجدال في امور ليست حق ولا باطل
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
أثار الطاغية "نمْرُوذُ بْنُ كَنْعَانَ"
|