تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة الثامنة والخمسون بعد المائة الأولى
تدبر الآية (259) من سورة البقرة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِاْئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
هذه الآية الكريمة تحكي لنا قصة من قصص بنى اسرائيل، وحتى نصل الى هذا اللقطة من تاريخ بنى اسرائيل سنذكر باختصار شديد الأحداث التي وقعت قبل هذا الحدث:
نحن نعلم أن ابراهيم -عليه السلام- انجب اسماعيل واسحق، وجاء الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من نسل اسماعيل، فكان -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو النبي الوحيد الذي جاء من نسل اسماعيل –عليه السلام-
ثم أنجب نبي الله اسحق -عليه السلام- نبي الله يعقوب -عليه السلام- ويعقوب -عليه السلام- عرف باسم "اسرائيل" واسرائيل لقب له، يعنى "عبد الله" لأن "إسر" في لغتهم هو العبد، و"إيل" هو الله، فمعنى إسرائيل أي "عبد الله"، ثم أنجب يعقوب -عليه السلام- اثنى عشر ولدًا، وكان منهم يوسف -عليه السلام-
هؤلاء الاثنى عشر ولدًا وابنائهم وأحفادهم وذريهم هم ابناء يعقوب - عليه السلام- أي ابناء اسرائيل -عليه السلام- ولذلك عرفوا ببنى اسرائيل
وحسد أبناء يعقوب -عليه السلام- أخيهم يوسف، لأنه كان احب أولاده اليه، فـتامروا عليه وألقوه في البئر، الى آخر قصة يوسف التى انتهت بأن اصبح عزيز مصر، أي رئيس الوزراء والرجل الثاني في الدولة المصرية، ثم أحضر يوسف أبويه، يعقوب -عليه السلام- وجميع اخوته وأقاموا في مصر، ولم يكن ذلك في عهد الفراعنة وانما كان في عهد الهكسوس الذين حكموا مصر أكثر من مائة سنة، وكان لبنى اسرائيل مكانة كبيرة في الدولة المصرية في فترة حكم الهكسوس لمصر، لقرابتهم من "يوسف"
عندما قام الفراعنة بطرد الهكسوس من مصر على يد الملك "أحمس الأول" اضطهدوا بنى اسرائيل، وكان أعدادهم قد تجاوزت النصف مليون انسان، فاستعبدوهم وعذبوهم وقتلوا ابنائهم واستحيوا نسائهم، حتي أرسل الله تعالى موسى وهارون –عليهما السلام- والذين خرجوا ببنى اسرائيل من مصر، ثم أمرهم الله تعالى بدخول بيت المقدس، فرفض بنو اسرائيل، وقالوا (اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) فعاقبهم الله تعالى بالتيه أي بالتوهان في أرض سيناء أربعين سنة
قام الفراعنة بطرد الهكسوس من مصر على يد الملك "أحمس الأول"
.
ومات موسى –عليه السلام- وبنى اسرائيل لا يزالون في التيه، وكان هارون قد مات قبل موسى بسنة، وتولى بني اسرائيل بعد موسى، فتى موسى ونبي الله "يوشع بن نون" عليه السلام، وفي عهده دخل بنو اسرائيل القدس، فكانت اول دولة لهم.
بعد وفاة "يوشع بن نون" عليه السلام انقسم بنو اسرائيل الى عدة قبائل، وانتشرت بينهم النزاعات والحروب، ولذلك تعرضوا لكثير من الغزوات والهزائم من الأمم القريبة كالعماليق وأهل مدين وأهل فلسطين حتى سلب منهم التابوت الذي كان فيه بعض ألواح التوراة الأصلية وعصا موسى وآثار موسى وهارون، وقتل ملكهم واصبحوا بلا قيادة، فلجئوا الى نبيهم في ذلك الوقت وكان اسمه "صموئيل" ليختار لهم ملكًا، فاختار "طالوت" ملكًا عليهم
ودخل "طالوت" في مواجهة مع مملكة العماليق بقيادة ملكهم القوي "جالوت" واستطاع "طالوت" أن يهزم "جالوت"
وكان بطل هذه المعركة الأول هو نبي الله داود –عليه السلام- الذي استطاع أن يقتل العملاق "جالوت" باستخدام المقلاع، وكافئه "طالوت" بأن زوجه ابنته وجعله وريثه على الملك
استطاع نبي الله داود أن يقتل العملاق "جالوت"
.
بعد وفاة "طالوت" أصبح "داود" عليه السلام ملكًا على بنى اسرائيل، والذي استطاع توحيد القبائل، وأسس مملكة قوية سميت "مملكة اسرائيل"
بعد وفاة داود خلفه ابنه سليمان –عليه السلام- في حكم "مملكة اسرائيل" والتى زادت قوتها جدًا، حتى أصبحت أعظم مملكة في تاريخ البشرية، واستجاب الله تعالى لدعاء نبيه سليمان –عليه السلام- (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي)
بعد وفاة سليمان –عليه السلام- انقسمت "مملكة اسرائيل" إلى مملكتين : مملكة شمالية، واسمها "اسرائيل" وعاصمتها "السامرة" ومملكة جنوبية واسمها "يهوذا" وعاصمتها "أورشليم" وهي مدينة القدس
بعد وفاة سليمان انقسمت "مملكة اسرائيل" إلى مملكتين
.
ثم توغل "بنو اسرائيل" في المعصية والبعد عن دين الله، وبدأت المملكتين في الضعف، وتعرضتا الى غزوات وهزائم، حتى كانت الهزيمة المنكرة المريرة للمملكة الشمالية على يد الأشوريين، وانتهي ذكر المملكة الشمالية
ثم حاول الأشوريين اسقاط المملكة الجنوبية "يهوذا" أيضا ولكنهم فشلوا في ذلك، وبقيت مملكة "يهوذا" فترة من الزمن
الإمبراطورية الأشورية
.
ثم سقطت مملكة آشور، وتأسست الدولة البابلية الحديثة على أنقاضها، وفي عام 586 ق . م ، وفي عهد أقوي ملوكهم وهو الملك البابلي الشهير "بختنصر" وهو أحد أربعة حكموا الأرض مشرقها ومغربها، قام "بختنصر" باجتياح مملكة "يهوذا" وقام بتدمير وحرق العاصمة "اورشليم" بالكامل، ودمر "هيكل سليمان" وحرق كل نسخ التوراة، وسلب منهم التابوت مرة أخري، وقتل الالاف، وسبي من لم يقتل من الرجال والنساء والأطفال، ونقلهم عبيدًا الى عاصمة مملكته "بابل" وكان عددهم حوالى 70.000 نفس، وهذا ما يطلق عليه "السبي البابلي" ومع هذه الأحداث انتهت واختفت دولة اليهود في فلسطين، ولم يعد لليهود أي وجود سياسي أو جغرافي، بعد أن دولة اليهود في فلسطين عاشت أربعة قرون
الدولة البابلية الحديثة
السبي البابلي لليهود
.
في ذلك الوقت كان هناك أحد أنبياء بنى اسرائيل واسمه "عُزَيْرٌ بنِ شَرْخِيَا" لم يكن "عُزَيْرٌ" أحد سكان بيت المقدس، ولذلك لم يكن موجودًا اثناء غزو بيت المقدس، ولكنه كان من سكان احد القري الموجودة في المنطقة.
مر "عُزَيْرٌ" على بيت المقدس بعد تدميره، وكانت هذه هي اللقطة الأولى في هذه الآية الكريمة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ) والذي مر على القرية هو –كما قلنا- نبي الله "عُزَيْرٌ بنِ شَرْخِيَا"
وأما القرية فهي بيت المقدس بعد أن خربها "بختنصر" البابلي، في عام 586 ق . م
لماذا مر "عُزَيْرٌ" على بيت المقدس ؟ ليس هناك آراء في هذا الأمر, ولكن أتصور أنه يريد أن يعاين المكان بعد أن خرب، لأنه نبي هذه الأمة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) الخواء يعنى الخلاء، فكانت العرب تقول "خوت الدار" أي خلت الدار
ولذلك فالخواء الجوع لخلو البطن من الغذاء .
نحن نقول "أنا خويان" يعنى جائع لأن بطني خالية من الطعام
اذن قوله تعالى (وَهِيَ خَاوِيَةٌ) يعنى القرية التي مر بها، وهي "بيت المقدس" كانت خالية تمامًا ليس فيها أحد.
قوله تعالى (عَلَى عُرُوشِهَا)
(عُرُوشِهَا) أي سقوفها
لأن العروش جمع عرش أو عريش وهو سقف البيت.
نقول في لغتنا الدارجة "تعريشة عنب"
فمعنى قوله تعالى (عَلَى عُرُوشِهَا) أي أن جدرانها سَاقِطَةٌ عَلَى سُقُفِهَا، كما نقول "جاب عاليها واطيها"
اذن قوله تعالى (وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) يعنى أن المدينة خالية تمامًا، و أن الخراب قد عمها، والدمار قد نزل بها.
(وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا)
كثير من المفسرين توقفوا أمام هذه العبارة من العزير.
ولكن اتفق الجميع على أن هذه العبارة من العزير ليست شكًا في البعث والنشور، لأن "عُزَيْرٌ " كان نبيًا، أو كان رجلًا صالحًا ثم جاءته النبوة بعد أن مات مائة عام وبعث، فكان مؤمنًا –بالطبع- بالبعث والنشور
فما معنى قول نبي الله "عُزَيْرٌ " متعجبًا:
أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ؟
المعنى هو: كيف يُحْيِي اللَّهُ تعالى هَذِهِ القرية، وهي "بيت المقدس" بعد دمارها هذا الدمار الكامل، وقتل أو سبي جميع أهلها ؟
كان "بختنصر" الذي دمر بيت المقدس وهدم هيكل سليمان وحرق التوراة وقتل الالاف من بنى اسرائيل وسبي النساء والأطفال، وارتكب كل هذه الجرائم البشعة، كان كافرًا
وكان "بنى اسرائيل" مؤمنين بالله تعالى، وفيهم أنبياء وفيهم صالحون.
و"عُزَيْر" يعلم أن سنة الله تعالى في كونه أن الكافر قد يعلو على أهل الإيمان عندما يبعدون عن طريق الله، ولكن هذا العلو علو مؤقت، وعندما يعودون الى طريق الحق ينتصرون على أعدائهم
وهذا مثل قوله تعالى في سورة (الرعد)
(أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا) يعنى عندما ينزل المطر من السماء يحمل كل وادي من المطر على قدر اتساعه، وهذه اشارة الى القلوب وتفاوتها في قبول الحق والباطل (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا) يكون على سطح الماء رغوة وقش وقاذورات، فَهَذَا أَحَد مَثَلَيْ الْحَقّ وَالْبَاطِل، فَالْحَقّ هُوَ الْمَاء الذي ينتفع به الناس، وَالزَّبَد هُوَ الْبَاطِل الَّذِي لَا يَنْتَفِع بِهِ أحد، والزبد يكون فوق الماء، وكذلك الباطل قد يكون فوق الحق
وهذا مثل يراه أهل البادية، فيضرب الله تعالى مثلًا آخر يناسب أهل الحضر، فيقول تعالى (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ) وهو الذهب والفضة (أَوْ مَتَاعٍ) وهو الحديد أو النحاس أو غيره من المعادن (زَبَدٌ مِثْلُهُ) يعنى الحداد أو صائغ الذهب، يضع الحديد الخام أو الذهب الخام على النار فينصهر ويطفو فوق هذا السائل الشوائب التى في الحديد أو الذهب، ولذلك قال تعالى (زَبَدٌ مِثْلُهُ) هذه الشوائب التى في الحديد أو الذهب تكون فوق الحديد أو الذهب مستعلية عليه، مثلها مثل الزبد الذي يكون فوق ماء السيل
(كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ) هذه هي صورة الصراع بين الحق والباطل، أن الباطل قد يكون مستعليًا على الحق، ولكن هذا الاستعلاء لا يستمر طويلًا، يقول تعالى (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً) هذا الزَّبَدُ الذي كان على الماء، والذي هو مثالًا للباطل، لا يلبث أن يتراكم على الحَوافّ وتأخذه الريح ويذهب وينتهي أمره؛ والذي يبقي هو الماء الصافي، وكذلك خبث الحديد أو النحاس أو الذهب سيذهب، والذي سيبقي هو الذهب الصافي والحديد والنحاس الذي ينفع الناس، ولذلك قال بعدها (وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) الذي ينتصر دائمًا في المواجهة بين الحق والباطل هو الحق.
(كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ) اياك أن تهتز اذا كان الباطل مستعليًا على الحق، اذا رأيت الباطل مستعليًا على الحق، فإما أنك لست على الحق، أو انها فتنة أي ابتلاء لتنقية الصف المؤمن، كما يفتن الذهب بالنار لتنقيته من الخبث.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
هذه القضية يعلمها عزير –عليه السلام- جيدًا، لأن الأنبياء هم أكثر الناس علمًا، ولذلك عندما رأي "بيت المقدس" وهو مدمر تمامًا، وخالِ تمامًا ليس فيه رجلًا واحدًا، قال متعجبًا:
- أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ؟
أي: كيف يحقق الله تعالى النصر لهذه الأمة ؟
متى يحقق الله تعالى النصر لهذه الأمة ؟
متى يعود بنى اسرائيل الى ربهم حتى يستحقوا نصر الله تعالى لهم ؟
وكثيرًا ما يدور هذا التساؤل الآن في أنفسنا، ونحن نري الهوان الذي فيه الأمة الاسلامية من شرقها الى غربها، ونري ما يعانيه المسلمون في بورما والفلبين والصين، وكل بقاع الأرض، فنقول (أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا) يعنى: كيف يحقق الله تعالى النصر لهذه الأمة بعد كل الضعف والهوان الذي وصلت اليه ؟ متى يحقق الله تعالى النصر لهذه الأمة ؟ متى نعود الى ربنا حتى نستحق نصر الله تعالى لنا ؟
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِاْئَةَ عَامٍ)
كان "عُزَيْرٌ " عليه السلام معه حمار، ومعه بعض الطعام من التين والعنب، وبعض الماء أو اللبن ليشرب، فلما جاء بيت المقدس، ربط حماره، وجلس حتى يأكل ويشرب، وقبل أن يأكل أو يشرب، نظر الى بيت المقدس وما فيه من خراب، وقال هذه العبارة الحزينة (أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا)
يقول تعالى (فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِاْئَةَ عَامٍ)
أرسل الله تعالى اليه ملك الوت، فقبض روحه في الحال
وكان عمر "عزير" حين أماته الله تعالى أربعون سنة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
أمات الله تعالى عزير –عليه السلام- مِاْئَةَ عَامٍ، لأمرين:
أولًا: حتى يري "بيت المقدس" بعد مِاْئَةَ عَامٍ وقد عاد اليه العمران
الأمر الثاني حتى يري في نفسه قدرة الله تعالى على احياء الموتي.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(ثُمَّ بَعَثَهُ) يعنى ثم أحياه، وبعثه يعنى بعث روحه الى بدنه.
(قَالَ كَمْ لَبِثْتَ) قال له ملك ارسله الله تعالى، أو نودي من السماء "كَمْ لَبِثْتَ" يعنى كم المدة من الزمن لبثتها في نومك ؟
(قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) وكان عزير قد مات أول النهار في وقت الضحى ثم بعثه الله في آخر النهار، فقال " لَبِثْتُ يَوْمًا" ثم التفت فرأي الشمس باقية قبل غروبها، فظن أنها شمس ذلك اليوم، فقال "أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ" يعنى: بل بَعْضَ يَوْمٍ
(قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ) ليس الأمر كما قلت إنك لبثت يوما أو بعض يوم بل إنك لبثت مائة عام
كان ذلك بمثابة الصدمة
ثم نظر "عُزَيْرٌ " الى نفسه فوجد أن جسده لم يتغير، فتعجب كيف لبث مائة سنة ولم يتغير !
فقال الملك (فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ) أي لا تتعجب أنك لم يتغير فيك شيء بعد مائة سنة، وانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ فانه كذلك لَمْ يتغير كذلك بعد مائة سنة
ولفظ يَتَسَنَّهْ، يعنى يتغير، وهو مشتق من السنة، ومنه (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) أي متغير، ومنه (ماء غير آسن) أي غير متغير
ثم قال (وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ) يعنى وانظر الى الدليل على أنك قد لبثت مائة سنة (وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ) فنظر فوجد ما يدل على أنه قد مرت مائة سنة، فوجد هذا الحمار وقد نخرت عظامه، وتفرقت أوصاله.
(وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ) أي لِنَجْعَلَكَ معجزة ودليلا على صحة البعث
(وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ) أي وَانْظُرْ إِلَى عِظَامِ حمارك.
(كَيْفَ نُنْشِزُهَا) وقرأت (نَنُشُرهَا) وقرأت (نَنْشُرهَا) أي كيف نجمعها ونركبها فوق بعضها البعض، وأصل النشوز الارتفاع، أرض ناشز أي أرض مرتفعة، ومنه نشوز المرأة لارتفاعها عن طاعة الزوج .
فالمعني: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كيف نرفعها من أماكنها من الأرض إلى جسم صاحبها للإحياء .
أرسل الله تعالى ريحًا فجمعت العظام وقد أصبحت ترابًا من السهول والجبال.
وكلمة (نُنْشِزُهَا) ومعناها اللفظي (نرفعها) اشارة الى قدرة الله تعالى على رفع الأمة المؤمنة المهزومة
(ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا) عاد الى الحمار اللحم والدم والأعصاب، ثم عاد الشعر على جسده، فعاد الحمار بنفس هيئته التي كان عليها، ثم بعث الله تعالى فيه الروح، يقول العلماء فرفع راسه الى السماء ونهق، يحب أن القيامة قد قامت
(فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) أي فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ، وبالمشاهدة الحسية قدرة الله - تعالى - على الإِحياء والإِماتة ، وعلى البعث والنشور .
(قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) خر العزير ساجدًا وهو يقول: أعلم أي أستيقن وأومن وأعتقد أن الله - تعالى - على كل شيء قدير ، وأنه - سبحانه - لا يعجزه شيء
وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
نظر العزير الى بيت المقدس فوجدها مدينة عامرة بالحياة، فتعجب، وكان هذا هو رد الله تعالى عليه حين قَالَ (أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا)
مال الذي حدث ؟
بقي اليهود في الأسر خمسين سنة، مات الملك البابلي "بختنصر" واحتل الفرس بابل على يد ملكهم "كورش" ولاقي اليهود على يد الفرس معاملة حسنة لأنهم كانوا أعداء البابليين، وسمحوا لهم بالعودة الى فلسطين، لكن الغالبية منهم فضلت البقاء في بابل، وعاد البعض الى فلسطين، وعادت مملكة "يهوذا" مرة أخري، ولكن عادت كولاية فارسية
كيف لم ير أحد العزير طوال مائة سنة، قال بعض المفسرون أن الله تعالى أعمى العيون عنه وعن حماره طول هذه المدة
نظر العزير الى بيت المقدس فوجدها مدينة عامرة بالحياة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ركب "عُزَيْر" حماره وأتي على قومه، وكان بنفس هيئته التي كان فيها حين تركهم، وعمره أربعون عامًا
فلما دخل قريته، ذهب الى بيته، فوجد في بيته امرأة عجوز عمياء، وكانت هذه المرأة العجوز جارية أو خادمة في بيت العزير، وكان عمرها وقت أن تركها عشرون عامًا، فلما عاد اليها بعد مائة سنة كان عمرها مائة وعشرون عامًا
فقال لها العزير: أتعرفين العزير ؟ فبكت وقالت: ذلك سيدي، لماذا تسال عنه ؟ قال لها: أنا العزير، قالت كيف ؟ سيدي العزير ذهب منذ مائة سنة ولم يعد ! فقال لها ان الله تعالى قد أمانى مائة عام ثم بعثنى، فقالت له: سيدي العزير كان مستجاب الدعوة، فلو كنت العزير فادع الله أن يرد الىَّ بصري حتى أراك وأعلم أنك العزير، فدعا العزير الله تعالى أن يرد اليها بصرها فاستجاب الله تعالى لدعائه فرد اليها بصرها، فرأته فعرفته، وقالت: أشهد أنك العزيز.
رأته فعرفته، وقالت: أشهد أنك العزيز.
.
ثم انطلقت الى ملأ قومها وأخذت تصيح: يا قوم هذا والله العزيز.
وكان قومه يعلمون العزيز من السماع
فأقبل اليها الناس، وفيهم أحفاد للعزيز أسن منه، وفيهم ابن له شيخ عمره مائة عام، لأنه ترك زوجته حاملًا فيه، فقال له ابنه: سمعت أن العزيز كان بين كتفيه شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه
فكشف العزير عن كتفيه فرأوا الفشامة ورأوا معجزة رد البصر للمرأة العجوز، وهي قد شهدت أنه العزيز، لأنها رأته وعرفته فعلوا أنه العزيز، وكان كما قال تعالى (آَيَةً لِلنَّاسِ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وكان العزير أحد أربعة حفظوا التوراة: وهم: موسى ويوشع والعزير وعيسي
وكانت "بختنصر" قد حرق جميع نسخ التوراة، فلما عاد العزير أملأ عليهم التوراة فكتبوها راءه
|