Untitled Document

عدد المشاهدات : 3169

الحلقة (162) من "تدبر القُرْآن العَظِيم" تدبر الآية (265) من سورة البقرة: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ

 تدبر القُرْآن العَظِيم

الحلقة الثانية والستون بعد المائة الأولى
تدبر الآية (265) من سورة البقرة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ضرب الله مثلًا في الآية السابقة عن الذي يتصدق ثم يتبع صدقته بالمن والأذي، فقال تعالى أن الذي يتصدق ثم يتبع صدقته بالمن والأذي مثله كمثل (صَفْوَانٍ) أي حجر أملس (عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ) أي مطر قوي شديد (فَتَرَكَهُ صَلْدًا) أي فتركه لا شيء عليه، أي لا فائدة منه، لأن هذا الحجر الأملس لا يمكن أن ينبت عليه أي شيء فكذلك المن والأذي يجعلان الصدقة لا فائدة منها
كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم يضرب الله تعالى في هذه الآية الكريمة مثلًا آخرعلى نفقة المؤمن الذي يريد بنفقته وجه الله تعالى
يقول تعالى (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) أي طلب رضوان الله تعالى، لَا يُرِيدُونَ سُمْعَةً وَلا رِيَاءً.
(وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي أن هذه الإنفاق في سبيل الله تعالى تَثْبِيتًا وتوطينًا وترويضًا لأنفسهم على طاعة الله عز وجل، لأن الإنفاق في سبيل الله تعالى من أشق الطاعات على النفس.
(كَمَثَلِ جَنَّةٍ) هذه النفقة من المؤمن كَمَثَلِ جَنَّةٍ، والجنة هي البستان كثير الشجر، وسمي بذلك لأن الشجر الكثيف في البستان يجن أي يستر من يمشي فيه  
(بِرَبْوَةٍ) الربوة هِيَ الْأَرْضُ الْمُرْتَفِعَةُ الْمُسْتَوِيَةُ، من ربا الشيء اذا زاد، ولذلك نقول الربا في المال؛ لأن في هذه المعاملة المالية تأخذ أكثر مما تعطي
اذن هذا البستان كثيف الشجر في مكان مرتفع مستوي، وهذه الأرض المرتفعة تكون بينة للشمس ومتجددة الهواء، وكثيرة المطر، ولذلك فالشجر على الربي يكون أحسن وأكثر ثمرًا
(أَصَابَهَا وَابِلٌ) أي نزل على هذا البستان "وَابِلٌ" أي مطر كثير شديد  
(فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ) الأكل هو الطعام الذي يؤكل، والمعنى أن هذه الجنة، أو هذا البستان أنتج ثمرًا كثيرًا مضاعفًا.
(فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ) فان لم يصبها هذا المطر الشديد
(فَطَلٌّ) الطل هو المطر الخفيف، او هو النَّدَى، والمعنى أنه اذا لم ينزل عليها هذا المطر الكثير، فسيصبها مطر خفيف وندي، وهذا المطر الخفيف والندي سيغنياها ويكفياها عن المطر الكثير 
فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
اذن ضرب الله تعالى مثلين:
المثل الأول: من يتبع نفقته بالمن والأذي فمثل نفقته مثل صخرة عليها تراب وأصابها مطر شديد قوي أزال هذا التراب، وبقيت هذه الصخرة لا شيء عليها ولا فائدة منها، لأنه لا يمكن أن ينبت عليها أي شيء.
المثل الثاني: من ينفق (ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي طلب رضوان الله تعالى وتوطينًا وترويضًا لأنفسهم على طاعة الله عز وجل.
كمثل بستان كثير الشجر نزل عليه مطر شديد فأنتجت ثمرًا كثيرًا مضاعفًا، فان لم يصبها هذا المطر الشديد، فسيصبها مطر خفيف وندي، يغنياها ويكفياها عن المطر الكثير
كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ولذلك قال الله تعالى بعد أن ضرب هذين المثلين
(وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي بَصِيرٌ بنفقاتكم ويعلم تعالى من الذي ينفق مِنْكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى، ومن الذي ينفق ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ نَفْسِهِ، ثم يُجَازِيَ الجميع عَلَى عَمَلِهِ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرًا، وَإِنْ شَرًّا فَشَرًّا‏.‏
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وسبب اختيار القرآن العظيم للبستان لضرب المثل بصدقة المؤمن، أن صدقة المؤمن يكون جزاؤها يوم القيامة أضعافًا مضافعة، وكذلك البستان يكون انتاجه أضعافًا مضاعفة
وليس هناك شيء يشير الى النماء والزيادة أكثر من الزروع
لأنه تضع بذرة تحصد من ورائها أطنان من الثمار
بذرة واحدة من البرتقال مثلًا تنتج أطنان من البرتقال، وكذلك الأمر في جميع الثمار.
فهذا البستان أو هذه الجنة كثيرة الأشجار والثمار، أصلها مجموعة بذور تملأ كف اليد
وكذلك الصدقة اذا قبلها الله تعالى، يكون جزاؤها يوم القيامة أضعافًا مضاعفة 
وفي آية سابقة ضرب الله تعالى مثل هذا المثل، فقال تعالى (كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ)
وكذلك نجد في آيات أخري كثيرة يعبر الله تعالى عن الفوز بالجنة بالفلاح، مثل قوله تعالى (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) وفي النداء الى الصلاة نقول "حي على الفلاح" وكلمة الفلاح اصلها من فلاحة الأرض
اذن هذا المثل من الله يشير الى أن الصدقة يكون مقابلها خير كثير من الله تعالى يوم القيامة، وليس هناك شيء يشير الى النماء والزيادة أكثر من الزروع
يقول الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- 
من تصدق بعَدل تمرة من كسب طيب -ولا يقبل الله إلا الطيب- فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فَلُوَّه حتى تكون مثل الجبل
ليس هناك شيء يشير الى النماء والزيادة أكثر من الزروع
 ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
جاء رجل من الشام  يسأل عن "صفوان ابن سليم" في المدينة، ويقول: دلوني على "صفوان ابن سليم"
و"صفوان ابن سليم"  من كبار التابعين  
فلما انتهي اليه قال:
لقد رأيت في المنام أن الله يبشرك بالجنة 
فقلت في المنام: لم ؟
قيل: لقد كسا مسكينًا ثوبًا
فجأت أسألك عن قصة هذا الكساء ؟
قال : 
كنت في ليلة باردة ذاهب للصلاة ورأيت المسكين يرتجف من البرد فخلعت قميصي وألبسته إياه 
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
قلنا أن قوله تعالى (وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي أن هذه الإنفاق في سبيل الله تعالى تَثْبِيتًا وتوطينًا وترويضًا لأنفسهم على طاعة الله عز وجل
 
هناك تفسير آخر أحببت أن أنقله لكم، وهو قول مجاهد والحسن وغيرهما: أن قوله تعالى (وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ) يعنى: يَتَثَبَّتُونَ أن يضعوا زَكَاتَهُمْ وصَدَقَاتِهِمْ في مَوَاضِعَهَا.
لأن البعض يبذل الجهد حتى تصل زكاته وصدقته الى من يستحقها
والآخر يضعها عند أول سائل ويقول "من خدعنا بالله انخدعنا له"  
ويقول أنا افعل ما علىَّ، وهذا السائل يحاسبه الله تعالى
نقول أن من آداب الصدقة هو أن تتحري أين تضع صدقتك، وأن تبذل الجهد حتى تصل الصدقة الى مستحقها
لأنك اذا أعطيت زكاتك الى غير مستحق، فهذا يعنى أنك حرمت مستحق
بل وتكون قد قصرت في حق هذا المسكين المحتاج لأنك لم تبذل الجهد ولم تحاول ان تصل اليه
هناك فقراء يموتون من شدة البرد، وهناك من يلجأ –والعياذ بالله- الى الإنتحار بسبب ضيق ذات اليد
وهناك في المقابل متسولون محترفون، حققوا ثروات من التسول.
لقد أمرنا الله تعالى بالصدقة على الْفُقَرَاءِ الَّذِينَ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ۗ 
فاذا كنت تعطي لمحترف التسول الذين يمدون أيديهم للناس، فكيف ستصل الى هؤلاء الَّذِينَ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وقد امرك الله تعالى بالصدقة عليهم.
كثير من العلماء قالوا: أن المسلمين لو أخرجوا زكاة مالهم لما بقى فقير واحد في الأمة 
نقول هذه النظرية لا يمكن أن تتحقق الا اذا خرجت الزكاة لمستحقيها 
بل أضيف الى هذا أن أحد أسباب الأزمة الاقتصادية في العالم الإسلامي الآن هو أن أموال الزكاة لا تصل الى مستحقيها.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
قلنا أن الربوة هي المرتفع من الأرض، وهي –جغرافيًا- دون الجبال وفوق التلال، وهي التى ترتفع فوق سطح البحر ارتفاعًا يتراوح بين الثلاثمائة والستمائة متر 
 
وقد أثبت العلم حديثًا أن هذا الإرتفاع المتوسط للأرض هي أفضل البيئات لنمو أشجار الفاكهة وغيرها من اشجار الثمار.
والسبب أنها أكثر تعرضًا لأشعة الشمس، وحركة الرياح، وتجدد الهواء حولها، كما أنها أكثر تعرضًا لأمطار السماء
تتميز الربي كذلك بأن ماء المطر اذا نزل عليها بغزارة فانه لا يغرقها، وانما تتشبع تربتها بالقادر اللازم من الماء، ثم ينزل الزائد الى المناسيب الأقل بفعل الجاذبية
أما السهول فان المطر الشديد يغرقها ويؤدي الى تعفن الجذور وتحللها وبالتالى القضاء عليها
وأحدث طرق الري الآن هي الري بالرش من أعلى، وهذا هو الذي يحدث عند نزول المطر، لأن الماء قبل أن ينزل على الأرض يقوم بغسل الأوراق، والتى هي كالرئة بالنسبة للإنسان
يقوم الماء قبل أن ينزل على الأرض بغسل الأوراق
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
تمتاز الربي كذلك بأنها قريبة من السحاب، ولذلك اذا لم ينزل عليها المطر فانها تستطيع أن تستفيد من ماء الندي الذي يتكثف حولها بمعدلات أعلى من تكثفه في السهول
كذلك الأشجار التى تنمو في الربي تتميز بأن جذورها تمتد الى أبعاد عميقة، لأن تربتها سميكة، وهذا يضاعف كمية العناصر والمركبات التى يتاح لها الوصول اليها وامتصاصها، كما يساعد على زيادة تثبيت النباتات بالأرض ومقاومته لشدة هبوب الرياح 
وهكذا انتهي العلماء الى أن زراعة المرتفعات يمكن أن تساهم في حل المشكلة الغذائية في العالم
وهذه الحقائق العلمية التى لم نعرفها الا منذ عدة عقود، وردت في كتاب الله عز وجل من أكثر من الف وأربعمائة عام، على نبي أمي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعيش في بيئة لا تعرف الجنات ولا تعرف الربي
فكان هذا الوصف القرآني المعجز شاهدًا على أن القرآن العظيم هو كلام الخالق –عز وجل- والذي أنزله على خاتم رسله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-