تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة الرابعة والستون بعد المائة الأولى
تدبر الآية (267) من سورة البقرة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا) يقول ابن مسعود اذا سمعت قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا) فارعها سمعك، فإنه خير يأمر به، أو شر ينهى عنه
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا) المقصود بالنفقة هنا الزكاة والصدقة
(أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ) يعنى أن يكون كسبًا حلالًا، لأن (الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبًا) كما قال الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الحديث الذي رواه مسلم
(وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) يعنى تصدقوا مما تخرج الأرض مِنَ الثِّمَارِ، وهذا ما يطلق عليه الفقهاء "زكاة الزروع والثمار" وتشمل أيضًا المعادن أو الكنوز التى تخرج من باطن الأرض، وهو ما يطلق عليه "زكاة الركاز"
وقوله تعالى (وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ) اشارة الى أن هذه الثمار أو هذه المعادن هي من عطاء الله تعالى، أنت مجرد وضعت بذرة في الأرض، أو أنت مجرد وجدت الكنز أو استخرجت هذا المعدن
(وَلَا تَيَمَّمُوا) يعنى وَلَا تَعْمِدُوا، وَلَا تَقْصِدُوا.
كانت العرب تقول: تيممت الشيء أي توجهت اليه، أو يممت جهة اليمين، يعنى اتجهت جهة اليمين
(وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) يعنى: لا تتعمد أن تختار الرَّدِيءَ وغَيْرَ الْجَيِّدِ
(وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ)
يعنى لو أعطاه اليك أحد فلن ترضي أن تأخذه
(إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) الا اذا أغمضت عينيك بحيث لا تري ما فيه من عيب
أو (إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) يعنى لو وجدته في السوق لن تشتريه الا اذا انقصت من سعره.
اذن هذا توبيخ وتقريع لمن ينفق الخبيث، فأنت لا ترضى أن تأكله، ولا ترضي أن تطعمه أولادك، فما لا ترضاه لنفسك لا ترضاه لغيرك، كما قال الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الحديث المتفق عليه "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ" والحكمة تقول "عامِل الناس بما تحب أن يعاملوك به"
(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)
يعنى وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ (غَنِيٌّ) عن هذه النفقة التي تكون من الثمار الرديئة
(حَمِيدٌ) أي هو المستحق الحمد على نعمه الكثيرة، ومن الحمد اللائق به تعالى هو أن تحرّى إنفاق الطيب مما أنعم به عليك.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
اذن المعنى الإجمالي أن الله تعالى يأمرنا أن تكون صدقاتنا من الحلال الطيب، وأن نتصدق ببعض ما يخرجه الله تعالى لنا من ثمار الأرض، ولكن بشرط ألا نتعمد أن نتصدق بالرديء من الثمار.
ولو قدم لنا مثل هذا الطعام الرديء فلن نقبله الا على غضاضة، فما لا نرضاه لأنفسنا لا نرضاه للفقير.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وهذه الآية لها سبب نزول أنه لما كان موسم جذاذ التمر، دعا الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الأنصار الى الصدقة، فكان كل واحد يأتي بصدقته من التمر ويعلقها على حبل بين اسطوانتين في ناحية من مسجد الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيأكل منه فقراء المهاجرين من أهل الصفة.
وكان بعض الأنصار اذا جاع يضرب التمر بِعَصَاهُ، فَيسَقَطَ مِنَه الْبُسْرِ وَالتَّمْرِ، والْبُسْرِ هو التمر قبل أن ينضج، فكانوا يأخذون التمر، ويضعون الْبُسْرَ في المسجد
وكان البعض يضع صدقته من "الحَشَفُ" وهو التمر الذي يجف ويتصلب قبل نضجه، فلا يكون فيه لحم ولا طعم، ونحن نطلق عليه الآن تمر ميت.
فمر الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، وقَالَ: مَا هَذَا ؟ بِئْسَمَا عَلَّقَ هَذَا! ونَـزَلَتْ هذه الآية الكريمة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
للأسف أري الآن البعض يقوم بتقديم "شنط رمضان" ويضع فيها هذا التمر الميت "الحَشَفُ" لأنه رخيص
هذا أمر لم يعجب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
ضع تمر أنت يمكن أن تأكله
الْبُسْرِ
"الحَشَفُ"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
أشرف برئاسة جمعية خيرية، نجد البعض يرسل الى الجمعية أي اثاث يريد التخلص منه، أو أجهزة منزلية أو كهربائية لا تعمل، يريد التخلص منها وبعد أن نرسل سيارة ونأخذ الأثاث أو الأجهزة نجد أن تكلفة النقل أكبر بكثير من قيمة المنقولات
بعد ذلك قررنا أن المتبرع يتحمل تكلفة النقل، فقلت جدًا جدًا هذه التبرعات العينية حتى تكاد تنعدم
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
روي عن عائشة أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أتي بضب فلم يأكله فقالت له السيدة عائشة: يا رسول الله نطعمه المساكين ؟ قال -صلى الله عليه وسلم– لا تطعموهم مما لا تأكلون.
مع أنه روي أن الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حث على من جاء بثوب جديد أن يتصدق بالقديم
ولكن لا يتصدق بملابس بالية أو مقطعة، لا يقبل هو أن يلبسها
التصدق يكون من وسط المال .
أما اذا اراد المسلم أن يتصدق بأفضل ماله فهذا هو الأفضل، ويكون لصاحبه من الثواب على قدر صدقته.
قال بعضهم: الله أحق من اختير له .
كان "عبد الله بن عمر" يشتري السكر، ويتصدق به ، فقيل له: يا أبا عبد الرحمن لو اشتريت لهم بثمنه طعاما كان أنفع لهم من هذا، فقال: إني أعرف الذي تقولون: ولكني سمعت الله ، يقول : (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) وإن ابن عمر يحب السكر
وقلده "عمر بن عبد العزيز" في ذلك، وكان يحب السكر، فكان يشتري السكر ويتصدق به.
كان "عبد الله بن عمر" يشتري السكر، ويتصدق به
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
هذه الآية لا تشمل زكاة النقود، لأن النقود ليس فيها جيد ورديء، ولكنه يشمل زكاة الزروع والإبل والبقر والغنم
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
اذن هذه الآيات تعالج آفات الانفاق، لأن آفات الانفاق هي الشح والمن والأذي والرياء والإنفاق من رديء المال
فجاءت آية عالجت الشح أولًا، فقال تعالى أن النفقة لا تنقص المال، وانما تزيده الى سبعمائة ضعف، والله يضاعف لمن يشاء.
وجاءت آية عالجت المن والأذي فقال تعالى أن المن والأذي يبطلان الصدقة كأن لم تكن.
وجاءت الآية السابقة عالجت الرياء، فشبه تعالى الرياء بالإعصار الذي فيه نار أحرق بستان من نخيل وأعناب
ثم هذه الآية الكريمة تعالج الانفاق من رديء المال.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
الآية تتناول ما يطلق عليه في كتب الفقة "زكاة الزروع والثمار" وقد بينت السنة الشريفة أن نصاب "زكاة الزروع والثمار" هو 611 كجم، لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ" وهو معيار من معايير المكاييل، يبلغ الآن 611 كجم، كما جاء في كتاب "المقادير الشرعية" للشيخ "محمد نجم الدين الكردي"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
والنصاب يكون من جنس واحد
يعنى اذا قام شخص بزراعة قطعة أرض بخمسة محاصيل مثلًا، فلا يجمع وزن المحاصيل الخمسة وينظر اذا كانت قد بلغت نصابًا أم لا، وانما يحسب وزن كل محصول على حدة، فالمحصول الذي يبلغ نصابًا يحتسب عليه زكاة، والذي لا يبلغ نصابًا لا يحتسب زكاة عليه
واذا كان الجنس واحد والنوع مختلف فانه يضم الى بعضه، فيضم مثلًا التمر السكري مع التمر البرجي مع الصقعي
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ولا يشترط حولان الحول مثل زكاة النقود، ولكن تستحق الزكاة عند الحصاد، يقول تعالى ( وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) فلو انتجت الأرض مرتان أو ثلاثة في العام مثلًا فان الزكاة تخرج في كل حصاد.
وقوله تعالى (يَوْمَ حَصَادِهِ) اشارة الى أن ما يأكله صاحب المزرعة أو يقدمه لضيوفه لا يدخل ضمن النصاب.
لا يشترط حولان الحول مثل زكاة النقود
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
اذا كان السقي بغير كلفة أو آلة، كالسقي بماء المطر أو ماء الأنهار والعيون فالمقدار هو العشر، أي 10%
واذا كان السقي بكلفة وبألة كالسقي عن طريق أو شراء الماء، أو عن طريق الأنظمة الحديثة أو حفر الآبار، أو ماكينة رفع، أو حتى ساقية يحركها حيوان فمقدار الزكاة هو نصف العشر، أي 5%
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
و لا تخصم نفقات الزراعة وانما تحسب الزكاة علي إجمالي الإنتاج متي وصل النصاب.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وتخرج على جميع أنواع الثمار.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
هذا هو مذهب أبو حنيفة وغيره من العلماء، ونأخذ به لأنه الأصح دليلًا، ولأنه الأحوط.
عند "أبو حنيفة" وغيره تخرج زكاة الزروع والثمار على جميع أنواع الثمار.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ولكن اذا المزارع فقيرًا، أولم يحقق مكاسب، أو أن مكسبه قليل جدًا، فيمكن أن يأخذ ببعض الآراء الفقهية الأخرى.
ولذلك قالوا أن اختلاف العلماء رحمة حيث تستوعب آرائهم الظروف المختلفة للناس.
فيمكن أن يأخذ باقل قدر قال به الفقهاء وهو أن يكون اخراج الزكاة في اربعة اصناف فقط وهي: القمح، والشعير، والتمر، والعنب .
كما ذهب البعض الى أن تخصم كافة النفقات من قيمة المحصول وإذا وصل الباقي النصاب تحسب الزكاة
اقل قدر قال به الفقهاء أن الزكاة في اربعة اصناف فقط وهي: القمح، والشعير، والتمر، والعنب
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وجمهور العلماء على أن تخرج القيمة سواء كانت العشر أو نصف العشر من الزرع نفسه
وذهب أبو حنيفة الى أنه يجوز أن تخرج القيمة نقدًا
(حدث أن رجل يزرع القمح وبلغ نصابًا ولا خلاف في أن القمح يخرج عليه زكاة، فلما اراد أن يتصدق بالقمح لم يجد فقيرًا يقبله، لأنهم يشترون الخبز من المخبز، هذا نقول له خذ برأي أبو حنيفة، ويمكن أن تخرج القيمة نقدًا)
جمهور العلماء أن تخرج القيمة من الزرع نفسه
|