تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة الخامسة والستون بعد المائة الأولى
تدبر الآية (268) من سورة البقرة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) يعنى الشَّيْطَانُ يخوفكم –أيها الناس- أَنْ تَفْتَقِرُوا اذا أديتم الزَّكَاةَ الْوَاجِبَةَ عَلَيْكُمْ، أو تصدقتم من أَمْوَالِكُمْ
(وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) يعنى وَيَأْمُرُكُمْ بالبخلُ ومنعُ الزكاة، وروي عن مقاتل والكلبي: أن كل فحشاء في القرآن فهو الزنى إلا في هذه الآية.
يقول الأزهري، وهو من علماء اللغة العربية في العصر العباسي: العَرَبُ تسمي البخيلَ فاحشًا
وأيضًا (الْفَحْشَاءِ) يعنى الانفاق في المعاصي.
اذن قوله تعالى (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) يعنى يوسوس لكم بالبخل ومنع الزكاة والصدقات، ويوسوس لكم بإنفاق الأموال في المعاصي
(وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ) يعنى وَاللَّهُ تعالى-في المقابل- يَعِدُكُمْ مغفرة لذنوبكم بِالصَّدَقَةِ الَّتِي تَتَصَدَّقُونَ
(وَفَضْلًا) يعنى: وَيَعِدُكُمْ أَنْ يُخْلِفَ عَلَيْكُمْ مِنْ صَدَقَتِكُمْ، ويوسع عَلَيْكُمْ فِي أَرْزَاقِكُمْ.
اذن وعد الله تعالى بشيئين: أحدهما لخير الآخرة وهو المغفرة، والثاني لخير الدنيا وهو الخلف الذي يعطيه.
(وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)
هذا الذي وعدكم أن يعطيكم مِنْ فَضْلِهِ (وَاسِعٌ) فضله، و(وَاسِعٌ) خزائنه.
وهو تعالى (عَلِيمٌ) بِنَفَقَاتِكُمْ وَصَدَقَاتِكُمُ وسيجازيكم بها في الدنيا والآخرة.
واسمه تعالى (عَلِيمٌ) يفيد هنا أنه -سبحانه- يعلم غيب العبد ومستقبله، ولذلك فان وعده حق، أما الشيطان فلا يعلم شيئًا عن غيب العبد ومستقبله، ولذلك فان وعده تغرير.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اثْنَانِ مِنَ اللَّهِ، وَاثْنَانِ مِنَ الشَّيْطَانِ: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) يَقُولُ: لَا تُنْفِقْ مَالَكَ، وَأَمْسِكْهُ عَلَيْكَ، فَإِنَّكَ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ)، عَلَى هَذِهِ الْمَعَاصِي (وَفَضْلًا ) فِي الرِّزْقِ.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) واحدة من ألاعيب الشيطان، ليس هناك انسان أراد النفقة لوجه الله تعالى، الا وجد الشيطان يخوفه بنقصان المال، وأنه سيحتاج اليه
ولذلك قال أحد الصالحين اذا أردت الصدقة فتصدق فورًا لأنك اذا انتظرت فلابد أن يوسوس لك الشيطان، حتى يمنعك من الصدقة، أو يقللها.
وهذا يحدث معنا جميعًا، شخص يحدثك عن شخص آخر فقير، ويقول لك: ظروفه كذا وكذا، فتقرر أن تعطيه 1000 ريال مثلًا، فاذا انتظرت فقط خمسة دقائق، ستجد أن قرارك قد تغير، فتقول يكفي 500 ريال، السبب في تغيير قرارك خلال هذه الدقائق الخمسة هو وسوسة الشيطان، فاذا انتظرت ساعة ستجد قرارك تغير، تقول يكفي 200 ريال، واذا انتظرت اليوم التالى تعطي 100 ريال، وربما لا تعطيه.
ولذلك اذا أردت الصدقة تصدق فورًا، بحيث لا تدع فرصة لوسوسة الشيطان.
اذا أردت الصدقة فتصدق فورًا لأنك اذا انتظرت فلابد أن يوسوس لك الشيطان
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
روي الترمذي في كتاب "تفسير القرآن" من حديث "عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ" أن الرسول ﷺ قال في هذه الآية:
"إِنَّ لِلْمَلَكِ لَمَّةً، وَلِلشَّيْطَانِ لَمَّةً، فَلَمَّةُ الْمَلَكِ إِيعَادٌ بِالْخَيْرِ، فَمَنْ وَجَدَهَا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ إِيعَادٌ بِالشَّرِّ، فَمَنْ وَجَدَهَا فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ"
ثم تلا الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذه الآية
وهذه اللمة سواء من الْمَلَكِ، أو من الشَّيْطَانِ، تكون في صورة خواطر تأتي الى الانسان.
وهي من الشَّيْطَانِ وَسْوَسَةً، ومن الْـمَلَكِ تُسمَّى إِلْـهَامًا.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
عن ابن مسعود قال: إنما مثل ابن آدم مثل الشيء الملقى بين يدي الله وبين الشيطان، فإن كان لله تبارك وتعالى فيه حاجة أجاره من الشيطان، وإن لم يكن لله فيه حاجة خلى بينه وبين الشيطان.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول الشعراوي –رحمه الله- في تفسيره "الذي يسمع لقول الشيطان ووعده، ولا يستمع إلى وعد الله يصبح كمن رجّح عدو الله على الله"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وروي أن في التوراة (عبدي أنفق من رزقي أبسط عليك فضلي فإن يدي مبسوطة على كل يد مبسوطة)
ومصداق ذلك في القرآن العظيم، قوله تعالى في سورة سبأ : (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين(
عن أبي هُريرة أَن رسولَ اللَّه ﷺ قَالَ: قَالَ اللَّه تَعَالَى: "أَنْفِق يَا ابْنَ آدمَ يُنْفَقْ عَلَيْكَ" متفقٌ عَلَيْهِ.
وعنه –رضى الله عنه- قَالَ: قالَ رَسُول اللَّه ﷺ: مَا مِنْ يَوْمٍ يُصبِحُ العِبادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا" متفقٌ عَلَيْهِ.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للسيدة "أسماء بنت ابي بكر" "أنفقي ولا تحصي فيحصي الله عليك، لا تُوكِي فيُوكَى الله عليكِ"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
سأل رجل أحد الصالحين: كيف يعدني الشيطان بالفقر ؟
فقال له: حين يعلق قلبك بما لا تحتاج اليه، يجعل حياتك كلها فقرًا
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
نختم بهذه القصة التى ذكرها "الحافظ ابن رجب الحنبلي" في شرح حديث "يتبع الميت ثلاث"
دخلت امرأة على أمنا "عائشة" قد شلت يدها فقالت:
يا أم المؤمنين، بت البارحة صحيحة اليد فأصبحت شلاء
قالت عائشة: وما ذاك؟!
قالت: كان لي أبوان موسران، كان أبي يعطي الزكاة ويعطي السائل
وكانت أمي امرأة بخيلة ممسكة، لا تصنع في مالها خيرا
فمات أبي ثم ماتت أمي بعده بشهرين، فرأيت البارحة في منامي أبي وعليه ثوبان، بين يديه نهر جار
قلت : يا أبه ما هذا؟
قال : يا بنية، من يعمل في هذه الدنيا خيرا يره، هذا أعطانيه الله تعالى.
قلت: فما فعلت أمي؟
قال: وقد ماتت أمك؟
قلت: نعم
قا ل: هيهات! عدلت عنا، فاذهبي فالتمسيها ذات الشمال
فملت عن شمالي، فإذا أنا بأمي قائمة عريانة متزرة بخرقة، بيدها قطعة شحم تنادي:
والهفاه، واحسرتاه، واعطشاه.
فإذا بلغها الجهد دلكت قطعة الشحم براحتها ثم لحستها.
وإذا بين يديها نهر جار.
قلت: يا أماه ما لك تنادين العطش، وبين يديك نهر جار؟
قالت : لا أترك أن أشرب منه.
قلت : أفلا أسقيك؟
قالت: نعم.
فغرفت لها غرفة فسقيتها، فلما شربت نادى مناد من ذات اليمين:
ألا من سقى هذه المرأة شلت يمينه -مرتين – فأصبحت شلاء اليمين
قالت لها عائشة: وعرفت الخرقة؟
قالت: نعم يا أم المؤمنين، ما رأيت أمي تصدقت بشيء قط الا مرتين: نحر أبي ذات يوم ثورا، فجاء سائل فعمدت أمي إلى عظم عليه قطعة شحم فناولته إياه، فتلك الشحيمة التى كانت بيدها، وجائها يومًا سائل يسأل فعمدت أمي إلى خرقة فناولتها إياه، فتلك الخرقة التى كانت متزرة بها.
فقالت عائشة –رضى الله عنها-:
صدق الله وبلغ رسوله صلى الله عليه وسلم
(فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره. ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره)
|