تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة الثالثة والسبعون بعد المائة الأولى
تدبر الآية (283) من سورة البقرة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
بين الله تعالى في الآية السابقة أحكام الدين، وأن الذي يكتب الدين ليس هو الدائن ولا المدين وانما شخص ثالث، واشترط تعالى في هذا الشخص الذي يكتب الدين، العدالة بين الدائن والمدين، وأمر تعالى أن الذي يملي الدين المدين وليس الدائن، وأن يكون هناك شاهدين رجلين، فان لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم يبين تعالى في هذه الآية الكريمة الحكم اذا تعذر وجود الكاتب، أو اذا تعسرت الكتابة لأي سبب من الأسباب، فيقول تعالى
(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ) يعنى اذا كنتم في حال السفر
(وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا) يعنى تعذر وجود كاتب يكتب الدين.
وهناك قراءة (وَلَمْ تَجِدُوا كِاتِبًا) بكسر الكاف، يعنى لم تجدوا صحيفة تكتبون فيها.
فالمعنى: اذا لمْ تَقْدِرُوا عَلَى كِتَابَةِ الدَّيْنِ فِي السَّفَرِ لأي سبب من الأسباب، سواء لعدم وجود الكاتب، أوعدم وجود أدوات الكتابة، او غير ذلك.
في هذه الحالة، لا يمكن طلب شاهدين، لأن العقد شرط للشهادة، فاذا لم يوجد العقد لا يمكن الشهادة.
في هذه الحالة يكون الضامن للدائن هو الرهن، يقول تعالى:
(فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ) وقرأت (فَرُهُنٌ مَقْبُوضَةٌ) بضم الراء والهاء من غير ألف.
أصل الرهن في كلام العرب هو الحبـــــــس، يقول تعالى (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) أي محبوسة بما عملت
ومعنى الرهن: أن يوضع شيء يناسب قيمة الدين من متاع المدين بيد الدائن، ليستطيع أن يستوفي حقه من هذا الشيء المرهون عند تعذر الدفع .
ومعنى (مَقْبُوضَةٌ) أي في قبضة الدائن، اذن يشترط في الرهن أن يكون في يد الدائن.
قال جمهور العلماء أن هذا الحكم -وهو أخذ الدائن رهنًا بدلًا من الكتابة اذا تعذرت الكتابة- ليس خاصًا بالسفر فقط، ولكنه خاصًا بالسفر والحضر، ولكن ذكر هنا حالة السفر، كمثال على موقف يمكن ألا يتيسر فيه وجود الكاتب.
والدليل أنه قد ثبت في الصحيحين عن أنس أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- توفي ودرعه مرهونة عند يهودي وكان ذلك في المدينة
(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
والسؤال اذا كان هذا الحكم ليس خاصًا بالسفر فقط، ولكنه خاصًا بالسفر والحضر، فلماذا قال تعالى (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا) ؟ لماذا لم يقل تعالى (وَإِنْ َلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا) ؟
نقول أن الله تعالى ضرب مثالًا على موقف يمكن ألا يتيسر فيها الكاتب، أو لا تتيسر فيه أدوات الكتابة، بحال السفر
أمر آخر أن الله تعالى جعل عدم وجود الكاتب في حال السفر، اشارة الى أن المجتمع المسلم لا ينبغي أن يكون خاليًا من الكُتَّاب.
كأنه ليس مقبولًا أن يقول تعالى (وَإِنْ َلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا)
ليس مقبولًا ألا يكون في المجتمع من يستطيع الكتابة
ان عدم وجود كاتب أمر استثنائي، وفي حالات خاصة مثل السفر.
وقس على هذا جميع فروع العلم، فهناك تخصصات علمية، موجودة في الجامعات الأجنبية، وغير موجودة في البلاد الاسلامية.
وهذا من روائع التفسير، ومن دقائق البلاغة في القرآن العظيم.
اذن ملخص الحكم في هذه الآية أنه اذا تعذرت كتابة الدين لأي سبب من الأسباب، كالسفر أو غير ذلك، فان صاحب الحق وهو الدائن يحفظ حقه بأن يأخذ رهنًا من المدين.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا)
يعنى فَإِنْ أَمِنَ الدائن المدين، ولم يوثق الدين لا بكتابة ولا بشهود ولا بقبض رهن.
سواء بسبب عدم وجود كاتب أو وجد الكاتب ولم يوجد شهود، أو لم يوجد كاتب ولا رهن.
أو بسبب أن الدائن وثق في المدين ثقة كاملة، واختار ألا يستوثق لماله.
أو أن المدين أمن الدائن فأعطاه رهنًا أكثر من قيمة الدين، كأن يكون الدين مائة ألف جنيه، وأعطي المدين الدائن سيارة رهنًا قيمتها مائتين الف جنيه.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ)
فعلى من اؤْتُمِنَ سواء كان مدينًا أو دائنًا أن يؤدي ما عليه.
ولم يقل تعالى "فَلْيُؤَدِّ الَّذِي عليه الحق" كما في الآية السابقة، ولكنه تعالى قال (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ) يعنى هناك من وثق في أمانتك، فلم يكتب ولم يشهد ولم يأخذ رهنًا، أو أعطاك رهنًا أكبرمن قيمة الدين، فلا تقابل ثقته فيك بألا تؤدي ما عليك من أمانة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) هنا جمع تعالى بين صفتي الألوهية للمبالغة في التحذير من خيانة الأمانة.
هذه ثالث آية يأمر الله تعالى فيها بالتقوي، لأن الحديث عن المعاملات المالية، وهي تحتاج الى مراقبة الله عز وجل.
الآية قبل السابقة (281): "واتقوا يومًا ترجعون فيه الى الله"
وفي نهاية السابقة (282) "وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ"
المجتمع يشتكي من التدين الظاهري.
اذا أردت أن تفرق بين التدين الظاهري والتدين الحقيقي انظر الى أمانته في معاملاته المالية
(ملاحظة: ظاهرة التدين الظاهري لا تقلقني، بل على العكس أنا أفرح بمظاهر التدين حتى لو كانت ظاهرية، لأننا نرجو من هذا المتدين تدينًا ظاهريًا أن يفهم الإسلام على حقيقته، حتى يكون تدينه تدينًا حقيقيًا)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
قصة: تزوج رجلًا بامرأة سرًا عن زوجته الأولى، ثم توفي هذا الرجل، وعلمت الزوجة الأولى عن زواج زوجها، فقامت بأخذ نصيبها في الميراث، وذهبت إليها لتعطيها إياه، ولكن المفاجأة أن هذه الزوجة الثانية أخبرتها أن الزوج المتوفي قد طلقها قبلالوفاة، ورفضت أن تأخذ هذا النصيب من الميراث.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
هناك قصة ذكرها الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والقصة في صحيح البخاري من حديث أبو هريرة وهي قصة رجلين صالحين من بنى اسرائيل، كانا يعيشان في بلدة واحدة مطلة على ساحل البحر، واراد أحدهما أن يخرج للتجارة، واحتاج الى مبلغ ألف دينار، فسال الآخر ان يقرضه الألف دينار، فوافق وطلب منه احضار شاهد على هذا القرض، ولم يكن معه شهود فقال له: كفى بالله شهيدا, قال: فأتني بالكفيل, قال: كفى بالله كفيلا, قال: صدقت، ثم سافر المدين لحاجته، فلما اقترب أجل الدين، أراد أن يرجع الى بلده حتى يسدد ما عليه من دين، فلم يجد مركبًا، فأحضر خشبة وحفرها، ووضع فيها الألف دينار، وارفق بها رسالة الى صاحب الدين، ثم أحكم غلقها، ودعا الله تعالى وقال: اللهم إنك تعلم أني كنت تسَلَّفْتُ فلانا ألف دينار, فسألني كفيلا , فقلت: كفى بالله كفيلا , فرضي بك , وسألني شهيدا , فقلت : كفى بالله شهيدا , فرضي بك , وأَني جَهَدتُ أن أجد مركبا فلم أقدِر وإني أستودِعُكَها، ثم رمي بها في البحر، وانصرف وأخذ يبحث عن مركب يحمله.
وخرج الرجل الذي كان قد أسلفه الى البحر في نفس موعد سداد الدين لعل مركبًا قد جاء بماله، فلم يجد، ووجد الخشبة التى فيها المال، فأخذها لينتفع بها في الحطب، فلما نشرها، وجد المال والرسالة
ثم جاء الرجل، وأتي له بالأف دينار، وأخذ يعتذر اليه عن التأخير لأنه لم يجد مركبًا قبل التى جاء بها، فقال له: إن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة
إن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ)
هناك فرق بين شهادة الزور، وبين كتمان الشهادة
فشهادة الزور هي الشهادة بغير الحقيقة.
أما كتمان الشهادة، فهو الامتناع عن أداء الشهادة، واخفاء الحقيقة.
وكل من شهادة الزور وكتمان الشهادة من الكبائر
وكتمان الشهادة أمر يقع فيه للأسف الكثير من الناس، ليس في الأمور المالية فقط، ولكن في الأمور الاجتماعية، نجد الكثير يمتنع عن أداء الشهادة تجنبًا للوقوع في المشاكل، ويقول أنه لم يسأله أحد، أو أنه لم يُطْلَب للشهادة، نقول حتى اذا لم تُطْلَب للشهادة، فيجب عليك أن تبادر أنت للإدلاء بشهادتك، واذا لم تفعل فأنت كاتم للشهادة، وكتمان الشهادة –كما قلنا- ذنب كبير، ومن كبائر الذنوب
يقول تعالى:
(وَمَنْ يَكْتُمْهَا) وَمَنْ يَكْتُمْ الشهادة
(فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ) الاثم هو المعصية
فمن يَكْتُمْ الشهادة كأن قلبه قد ملأ بالمعصية
لأن كتم الشهادة يكون بالقلب
كما تقول: انا كاتم في قلبي
فيكون العقاب في الجارحة التى ارتكبت المعصية
(وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)
وهذا التذييل يقصد به الوعد الحسن للمؤمنين، والوعيد الشديد للعصاة
|