تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة الثانية والثمانون بعد المائة الأولى
تدبر الآية (14) من سورة "آل عمران"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ (14)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ) الشَّهَوَاتِ هو ما تشتهيه النفس وتتوقه وتحبه.
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ)
وقرأت (زَيَّنَ لِلنَّاسِ حُبَ الشَّهَوَاتِ) وهي قراءة ضعيفة، والمعنى واحد
من الذي زَيِّنَ حُبُّ الشَّهَوَاتِ لِلنَّاسِ ؟
الله تعالى هو الذي زين الشهوات للإنسان، وذلك بأن حبب هذه الشهوات للناس، وجعلهم يميلون اليها بفطرتهم، وذلك حتى يتحرك الانسان لعمارة الأرض، فلولا حُبُّ النِّسَاءِ لما تزوج الرجل، ولولا حب الْبَنِينَ ما أنجب، ولولا حب الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، ولولا شهوة الطعام ما حرث وما زرع
وزَيِّنَ الله تعالى حُبُّ الشَّهَوَاتِ لِلنَّاسِ حتى تكون ابتلاء للإنسان، ويري الله تعالى هل سيستعمل الانسان ما خلقه الله تعالى له في مراده ام في غير مراده، كما قال تعالى في سورة الكهف (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ)
ثم هناك تزيين آخر من الشيطان، وهو أن يجعل الشيء يبدوا على غير حقيقته، يقول تعالى (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ )
لأن التزيين هو جعل الشيء زينًا أو حسنًا على غير حقيقته، كمن يحضر صندوق من الكارتون ليضع فيه هدية، فهو يزينه باللورق الملون والشرائط وغير ذلك ليبدو على غير حقيقته، والمرأة تتزين فتبدو على غير حقيقتها، وهكذا
وتزيين الشيطان هي أحد أهم حيل الشيطان التي يغوي بها بنى آدم، حيث يزين لهم المعصية فيظهرها على غير حقيقتها، كما فعل مع آدم -عليه السلام- وحواء حين زين لهم الأكل من الشجرة التى أمرهم الله تعالى بعدم الأكل منها.
اذن هناك تزيين من الله وتزيين من الشيطان، ولكن تزيين الله لتحقيق مراد الله من عمارة الأرض، وتزيين الشيطان أن تكون الشهوات في غير مراد الله.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ) قدم القرآن النِّسَاءِ، لأن النِّسَاءِ هن الأشد فتنة من أي شهوة أخري.
نحن نري البعض يضحي بكل شيء في سبيل الوصول إلى المرأة التي يريدها، والأمثال على ذلك كثيرة ولا مجال لذكرها، حتى أن كثير من أجهزة مخابرات الدول تستخدم النساء بهدف السيطرة على أعدائها
يقول الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الحديث المتفق عليه "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء"
وفي حديث آخر، وهو حديث ضعيف ولكن المعنى صحيح "النساء حبائل الشيطان"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَالْبَنِينَ) وتشمل الْبَنِينَ والبنات.
يقول تعالى ( أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ) كيف يكون الأبناء فتنة ؟
يقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "الولد ثمرة القلب، وإنه مجبَنَةٌ مَبخلَةٌ محزَنَةٌ" "الولد مجبنة" يعنى يجعل أبوه يجبن ويخاف القتال حتى لا يصاب ابنه باليتم، وهو "مبخلة" يجعل الأب بخيلًا مقترًا حتى يدخر له المال، وهو "محزنة" اذا أصابه مرض أونحوه .
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) القنطار هو مقدار من الوزن اختلف المفسرون في تحديده، فقال البعض الْقِنْطَارُ أَلْفٌ وَمِئَتَا دينار، وقال البعض ثَمَانُونَ أَلْفًا، وقال البعض مِائَةُ رَطْلٍ، وقال البعض كذا أُوقِيَّةٍ
فالمقصود بالقنطار الْمَالُ الْكَثِيرُ، يقول تعالى في سورة النساء (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا) يعنى أعطيتم المرأة مالًا كثيرًا مهرًا لها، يقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "مَنْ قَرَأَ بِخَمْسِينَ آيَةً فِي لَيْلَةٍ أَصْبَحَ لَهُ قِنْطَارٌ مِنَ الأَجْرِ"
فمعنى الآية: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ المال الكثير.
(وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ) هو جمع المال وادخاره ووضعه بعضه على بعض.
كما كانت العرب تقول: ظلًا ظليلًا، ودراهم مدرهمة
وقال تعالى (مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) لأنهما أصل المال.
فقوله تعالى (وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) يعنى حب الْمَالُ الْكَثِيرُ، وحب كنزه وادخاره ووضعه بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ.
يقول الرسول-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الحديث الذي رواه مسلم "لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادٍ مِنْ ذَهَبٍ الْتَمَسَ مَعَهُ وَادِيًا آخَرَ وَلَنْ يَمْلَأَ فَمَهُ إِلَّا التُّرَابُ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ"
أحد الأغنياء، من عائلة مشهورة بالثراء يقول أنا أفقر اخوتي أملك فقط 25 مليار جنيه
وقد سمي الله تعالى الذهب ذهبًا من الذهاب، لأنه يذهب ولا يبقي (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى)
وسميت الفضة فضة من الانفضاض، انفض الشيء تفرق وانتهي
كأن الله تعالى اختار لهما هذا الاسم حتى يلفتنا الى أن الذهب من الذهاب والفضة من الانفضاض، ومع ذلك نتكالب عليهما هذا التكالب.
وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ) سمي َالْخَيْلِ بهذا الاسم لاختياله في المشي، حتى عندماتقف فهي تقف بخيلاء، تقف على ثلاثة قوام وترفع واحدة، أولإختيال راكبه في الحرب.
وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ هي التى تترك ترعي في الأرض، كما قال تعالى (شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ) والمراد الْخَيْلِ الحسنة الجميلة، لأن الْخَيْلِ التى تترك ترعي في الأرض بحرية، وتتعرض للهواء والشمس، تكون حسنة جميلة، وأكثر صحة وقوة.
أو (الْمُسَوَّمَةِ) يعنى المعلمة المميزة، كأنها معلمة ومميزة بحسنها، اذن فالمعنى واحد.
وهذه الشهوة التى ذكرها الله تعالى وهي حُبُّ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ، نراها الآن في هذا الحب الشديد والمبالغ فيه بالسيارات واقتنائها، حتى أن بعض علماء الاجتماع يدروس ما يطلقون عليها ظاهرة الهوس بالسيارات.
وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَالْأَنْعَامِ) جَمْعُ "نَعْمٍ" وَهِيَ: الضَّأْنِ وَالْمَعِزِ وَالْبَقَرِ وَالْإِبِلِ.
وَأَمَّا (الْحَرْث) فَهُوَ الزَّرْعُ
(وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) كلمة "مَتَاعُ" من التمتع، وهي أيضًا المدة القليلة، كما نقول "زواج المتعة" عن الشيعة، وهي ان يتزوج الرَّجلُ امرأة ليستمتع بها فترة زمنيّة محددة.
فالمعنى أن كل هذه الشهوات يُسْتَمْتَعُ بها فترة يسيرة من الزمن ثم هي بعد ذلك الى فناء وزوال.
و(الدُّنْيَا) من الدناءة
يقول الْحَسَنِ البصري فِي قَوْلِهِ: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ قَالَ: مَا أَحَدٌ أَشَدُّ لَهَا ذَمًّا مِنْ خَالِقِهَا.
ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ)
يعنى وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَرْجِعِ والْمُنْقَلَبُ، وَهِيَ الْجَنَّةُ.
وسميت مآبًا أي مرجعنا لأننا خرجنا من هناك
قيل أنه عند معصية آدم في الجنة ناداه الله: يا آدم، لا تجزع من قولي لك: اخرج منها؛ فلك خلقتُها، ولكن انزل إلى الأرض، وذلَّ نفسك من أجلي، وانكسر في حبي، حتى إذا زاد شوقك إليَّ وإليها، تعال لأدخلك إليها مرة أخرى، يا آدم، كنت تتمنى أن أعصمك؟ قال آدم: نعم! فقال: يا آدم، إذا عصمتك وعصمت بنيك؛ فعَلَى مَن أجود برحمتي؟ وعلى من أتفضل بكرمي؟ وعلى من أتودَّد؟ ولِمَن أغفر؟ يا آدم، ذنب تذلُّ به إلينا، أحب إلينا من طاعة تُرائي بها علينا، يا آدم، أنين المذنبين أحبُّ إلينا من تسبيح المرائين
وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم يقول تعالى في الآية التالية
(قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ) قل أَأُخْبِرُكُمْ بخير من هذه الشهوات (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)
|