تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة الخامسة والثمانون بعد المائة الأولى
تدبر الآيتين (21) و (22) من سورة "آلَ عِمْرَانَ"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ)
لم يقل تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ باللَّهِ) ولكنه تعالى قال (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ) اذن فالآية لا تتناول الذين يكفرون بوجود الله، ولكنها تتناول قوم يؤمنون بوجود الله، ولكنهم يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ.
ما معنى يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ؟
اقرب معنى أنهم يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ التى جاءت في كتبه، يعنى يرفضون آَيَاتِ اللَّهِ التى جاءت في كتبه، من أحكام وشرائع، وأوامر ونواه، وأمر بالعدل، ونهي عن الظلم.
فقد يكون يهوديًا أو نصرانيًا ولكنه كفر بآيات الله التى في التوراة والإنجيل، لأنه رفض هذه الايات، ولم يعمل بها.
وقد يكون مسلمًا، ولكنه كافر بآيات الله تعالى التى في القرآن، لأنه رفض هذه الايات، ولم يعمل بها.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) وقرأت (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّئينَ بِغَيْرِ حَقٍّ) و(النَّبِيِّئينَ) من الإنباء
ما الذي دفع هؤلاء (الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ) الى قتل أنبياء الله، وقتل الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ ؟
قلنا أن هو النبي أسوة سلوكية، وهو نموذج للكمال البشري، فوجود هذا النبي ووجود الفئة المؤمنة معه، يثير الغيظ والحقد في نفوس المنحرفين عن شرع الله، لأنهم يجعلونهم يتضائلون امام أنفسهم ويتضائلون أمام الآخرين، وهم ليسوا عندهم حجة أمامهم، ولذلك فهم يسعون الى ازاحة هؤلاء الملتزمون بشرع الله، وذلك بقتلهم.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ) ما فائدة قوله تعالى (بِغَيْرِ حَقٍّ) ؟ هل هناك قتل للأنبياء بحق ؟ نقول أن قوله تعالى (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ) يعنى أنهم حين قتلوا الأنبياء كانوا يعلمون أنهم ليسوا على الحق وانما هم على الباطل، وهذا تشنيع لفعلهم، فلو كانوا يفعلون ذلك وهم يعتقدون أنهم علي الحق فربما لهم حجة يتكلمون بها، ولكنهم يقتلون الأنبياء، وهم يعلمون أنهم على الباطل، وهؤلاء الأنبياء على الحق، فأي بشاعة لتلك الجريمة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) وقرأت (وَيقاتلون الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) يعنى َيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ، وهو العدل، يعنى يَقْتُلُونَ الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ما فائدة قوله (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) بعد قوله (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ) فالذي يقتل النبي، فمن باب أولي يقتل أتباعه.
فهذا مثل قول أحدهم: فلان لا يصلى الفرض، ولا السنة. فلا داعي لقوله أنه لا يصلي السنة، لأن الذي لا يصلى الفرض من باب أولى لا يصلى السنة.
يريد الله تعالى أن يقول أن جريمة قتل أتباع النبي جريمة بشعة لا تقل بشاعة عن جريمة قتل النبي، وأن الإثنان يدخلان في الوعيد الذي في آخر الآية وهو قول الله تعالى (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)
فهؤلاء الذين يقتلون الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ من أمة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهم يرتكب جريمة شنعاء مثل جريمة من قتل من الأنبياء من بنى اسرائيل وغيرهم، مثل من قتل زكريا، ويحي عليهما السلام.
(وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ)
(فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)
(فَبَشِّرْهُم) البشارة تستعمل في الإخبار بالخير، وحين تستعمل في الإِخبار بالشّر كما في هذا الموضع، فان ذلك يكون على سبيل التهكم، كمن يقول لعدو له على سبيل التهكم: سأقول لك خبرًا يسعدك، ثم يذكر له خبرًا يغمه.
وهذا يطلق عليه علماء البيان "الإستعارة التهكمية" وهو استعمال اللفظ في ضده.
(فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) أي عذاب موجع
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وقد ورد في الحديث أن اشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يقتلون الأنبياء، وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ
عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟
قال: رَجُلٌ قَتَلَ نَبِيًّا، أَوْ رجلاً أمر بمعروف أو نهى عن منكر، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) ثُمَّ قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يا أبا عبيدة قتلت بنوا إِسْرَائِيلَ ثَلاثَةً وَأَرْبَعِينَ نَبِيًّا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ في ساعة واحدة فقام مائة رجل وسبعين رَجُلا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَمَرُوا مَنْ قَتَلَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَقُتِلُوا جَمِيعًا مِنْ آخِرِ النَّهَارِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
.
روي عن ابن مسعود قال قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "بئس القوم قوم يقتلون الذين يأمرون بالقســط من الناس, بئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر, بئس القوم قوم يمشي المؤمن بينهم بالتقية"
يعنى يخاف المؤمن أن يعلن ايمانه، يخاف الشاب أن يطلق لحيته، يخاف أن يمسك بمصحف ويقرأ فيه، تخاف المرأة أن تتنقب.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
اذن الآية الكريمة تتناول قضيتين هامتين:
أولًا: الوعيد الشديد بالعذاب الأليم لمن أنبياء الله، ولمن يقتل من يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر
القضية الثانية: فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، اذ جعل تعالى من يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر في مرتبة الأنبياء
قال الحسن قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "من أمر بالمعروف أو نهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه، وخليفة رسوله، وخليفة كتابه".
وعن "درة بنت أبي لهب" قالت : جاء رجل إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو على المنبر فقال: من خير الناس يا رسول الله ؟ قال: آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله وأوصلهم لرحمه .
(فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)
(أُولَئِكَ) استخدم تعالى كلمة (أُولَئِكَ) وهي تستخدم للإشارة للبعيد، للإيذان ببعدهم عن الطريق القويم، والمعنى: هؤلاء الَّذِينَ قتلوا الأنبياء وقتلوا الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ
(حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ) يعنى بَطَلَتْ أَعْمَالُهُمْ، وبطل ثواب أَعْمَالُهُمْ (فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ)
وهذا يشير الى أمرين:
أن لهم أعمال حسنة، وهذه الأعمال الحسنة كان يمكن قبولها، لأنهم لم يكونوا كافرين، لأن الله تعالى قال (الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ) ولم يقل (الَّذِينَ يَكْفُرُونَ باللَّهِ)
ولكن هذه الجريمة البشعة ترجح أي عمل، وتبطل ثوابه
الأمر الثاني قوله تعالي (فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ) أي ان هناك ثواب للأعمال الحسنة في الدنيا، وليس في الاخرة فقط
كما قال تعالى في سورة النحل (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
(وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) أي ليس هناك من ينصرهم من باس الله وعقابه.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
|