تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة الثامنة والثمانون بعد المائة الأولى
تدبر الآيات (28) و(29) و(30) من سورة "آلَ عِمْرَانَ"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ)
(لَا) للنهي، والمعنى لا تتخذوا أيها المؤمنون الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، أي لا تنصروا أبدًا الْكَافِرِين على المؤمنين.
(وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ) أي من ينصر الكافر على المؤمن.
(فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ) فقد برىء اللَّهُ مِنْهُ، وانقطعت الصلة بينه وبين الله تعالى.
كما قال تعالى في سورة المائدة (ومن يتولهم منكم فإنه منهم)
وهذا ما يطلق عليه العلماء "الولاء والبراء"
والولاء هو تولى المؤمنين ونصرتهم، والبراء هو البراءة من الكافرين وعداوتهم.
(إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً)
الا أن يكون المؤمنين مستضعفين فيرخص الله تعالى لهم أن يتقوا شر الكافرين واذاهم، بكلمات المصانعة والمجاملة.
في البخاري عن أبـي الدرداء، يقول رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- "إنا لنكشر –أي نبتسم- في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم"
وقد روى أنّ مسيلمة الكذاب أسر رجلين مؤمنين فقال لأحدهما: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله. قال: فما تقول فىّ ؟ قال أنت أيضاً، فخلى سبيله.
وقال للآخر: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله. قال: فما تقول فىّ ؟
قال أنا أصمّ لا أسمع، فأعاد عليه ثلاثاً، فأعاد جوابه، فقتله، فبلغ ذلك رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- فقال: "أما الأوّل فقد أخذ برخصة الله، وأمّا الثاني فقد صدع بالحق فهنيئاً له"
اذن فالتقية رخصة، والإفصاح بالحق فضيلة.
والخلاصة أنه يجوز أن تكون هناك علاقة بين المسلم وبين غير المسلم، ويجوز للدولة الاسلامية أن تكون هناك علاقات بينها وبين الدول الغير اسلامية، وقد حالف الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- خزاعة –مثلًا- وكانت مشركة، ولكن لا يجوز مناصرة الكافرين ضد المسلمين، أو مناصرتهم في شيء يضر المسلمين.
بل يجوز البر بهم، يقول تعالى في سورة الممتحنة (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) والبر هو ايصال الخير الى الغير.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ)
أي وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ عقابه في أن تتخذوا الكفار أولياء ضد المؤمنين
وهذا يدل على أن هذا الذنب هام جدًا، لأن الله تعالى يحذرنا بعبارة واضحة من الوقوع فيه.
(وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ)
وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ لا الي غيره، فليحذر العصاة من وقوفهم بين يديه تعالى.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)
(قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ) قل لهم يا محمد إِن أخفيتم ما في قلوبكم أو أظهرتموه من موالاة الكفار، وغير ذلك من الأقوال والأفعال.
(يَعْلَمْهُ اللَّهُ) فإِن الله يَعْلَمْهُ لا يخفى عليه خافية.
وفي سورة البقرة (وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ) ففي البقرة قدم ما نبديه على ما نخفيه، وفي هذه الآية قدم ما نخفيه على مانبديه.
كأن الله تعالى يقول الى أنه يتساوي في حق الله ما نبديه أو ما نخفيه، فالاثنان يعلمهما الله وعلى نفس القدر من العلم.
.
وهنا قد يقول قائل: ان علم الله تعالى ما نخفي في صدورنا دليل على سعة علمه تعالى، ولكن علمه بما نبديه أمر يستطيعه أي انسان.
نقول: قد يطرأ على بال أحد أن الله تعالى غيب فهو يعلم الغيب فقط ولا يعلم المشهد، ولكن الله تعالى يخبرنا أنه تعالى غيب يعلم الغيب ويعلم كذلك ما يبرز الى الوجود
(وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)
ويعلم تعالى كل ما هو حادث في السماوات والأرض
(وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
قدرته تعالى نافذة في كل شيء
يذكر الله تعالى هؤلاء الذين يغترون بالكفار وعددهم وعدتهم وقوتهم، فيوالونهم مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، يذكرهم تعالى بقوته وقدرته، فيقول تعالى (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)
الكلام تكملة لوعيد من يوالى الكافرين وينصرهم على المؤمنين، والمعنى واتقوا واحذروا يوم القيامة: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا
(مُحْضَرًا) أي حاضرًا وموجود
وقوله تعالى (مِنْ خَيْرٍ) اي من بداية ما يقال له خير، وان كان مِثْقَالَ ذَرَّةٍ.
كما قال تعالى (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ)
(وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) أي وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ يكون محضرًا أيضا.
(تَوَدُّ) أي تحب وتتمنى
(لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ) لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ هذا العمل السيء، والذي سيكون محضرًا.
(أَمَدًا بَعِيدًا) أي مكانًا بعيدًا.
مع أن هذه المعصية وهذه الشهوة في الدنيا يحرص عليها ويسعي لها ويبذل المال والوقت والجهد حتى يصل اليها.
أو (تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا) يعنى تتمنى لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ العقوبة على مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ (أَمَدًا بَعِيدًا) أي زمنًا بعيدًا.
(وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ)
يقول تعالى للمرة الثانية (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) أي وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ عقابه في أن تتخذوا الكفار أولياء ضد المؤمنين
وهذا يدل على عِظَمِ هذا الذنب، وهو أن ينصر المسلم الكافر على أخيه المسلم، ولذلك يحذرنا الله تعالى مرتين بعبارة واضحة من الوقوع في هذا الذنب
(وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ)
كان الظاهر أن يقول بعد قوله (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) أن يقول (والله شديد العقاب) أو (والله قوي عزيز) مثلًا.
ولكن الله تعالى قال (وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ)
يقول الحسن البصري: من رأفته تعالى أن حذرهم نفسه
كأنه تعالى يعلم عظم العقوبة على هذا الذنب، ولذلك يحذرنا من الوقوع فيه تحذيرًا شديدًا حتى لا نقع فيه ونتعرض لهذه العقوبة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
لِمُطَالَعَة بَقِيَةِ حَلَقَات "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم"
لِمُشَاهَدَة حَلَقَاتِ "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم" فيديو
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
|