تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة الواحدة والتسعون بعد المائة الأولى
تدبر الآيات من (33) الى (37) من سورة "آلَ عِمْرَانَ"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)
(إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى) الاصطفاء هو الاختيار والانتقاء، وجعل الشيء صافيًا من الشوائب.
فقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)
يعنى ان الله تعالى اختار وانتقي وفضل وميز: آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى البشرية كلها منذ خلق آدم وحتى قيام الساعة.
لاحظ أنه تعالى اختار فردين وهما (آَدَمَ وَنُوحًا) وأسرتين وهما (آَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وكلمة (آَلَ) تطلق على قرابة الرجل، وأصل كلمة (آَلَ) أي أهل.
فـ (آَلَ إِبْرَاهِيمَ) هم ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب ويوسف والأسباط، وهم الأنبياء من سلالة يعقوب.
ومن (آَلَ إِبْرَاهِيمَ) موسى وهارون–عليهما السلام-
ومن (آَلَ إِبْرَاهِيمَ) الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- لأن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- من نسل اسماعيل –عليه السلام-.
و(آَلَ عِمْرَانَ) هو "عِمْرَانَ بن ماتان" وهو رجل صالح، وكان أكبر علماء بنى اسرائيل في زمنه، وقيل أنه كان نبيًا، وزوجته "امْرَأَةُ عِمْرَانَ" وابنته السيد "مريم" العذراء، وابنها "عيسي" عليه السلام.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
و(آَلَ عِمْرَانَ) من (آَلَ إِبْرَاهِيمَ) لأن عمران من نسل إِبْرَاهِيمَ –عليه السلام- ولكن ذكرهم الله تعالى تشريفًا لهم، من باب ذكر الخاص بعد العام.
وقد كان الأولى أن يذكر الله تعالى "محمد" -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- لأن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- كما ذكرنا من آَلَ إِبْرَاهِيمَ، فكان الأولى أن يذكر الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- أفضل من "آَلَ عِمْرَانَ"
ولكن لأن الآيات جائت في معرض جدال نصاري نجران، وغيرهم من النصاري وأهل الكتاب، فأراد الله تعالى أن يخص ذكر (آَلَ عِمْرَانَ) تأليفًا لقلوبهم
ليس هذا فحسب بل سَمَي الله هذه السورة الكريمة باسم (آَلَ عِمْرَانَ) تأليفًا كذلك لقلوبهم، وهذا من فضله وكرمه ورحمته تعالى بعباده.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
كلمة (آَلَ) كما تطلق على قرابة الرجل، تطلق كذلك على أتباعه
في البخاري عن ابن عباس أن "آَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ وَآلِ عِمْرَانَ وَآلِ يَاسِينَ وَآلِ مُحَمَّدٍ."
اذن هناك معنى آخر للآية وهي أن الله تعالى اصطفي واختار على جميع العالمين هؤلاء الأنبياء والرسل وأتباعهم من المؤمنين.
وهذا تذكير بنعمة الله تعالى علينا ان اختارنا على جميع خلقه.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
اذن هذه الآية الكريمة:
- يتألف الله تعالى بها قلوب النصاري، حين خص "آَلَ عِمْرَانَ" بالذكر، وقال تعالى أنه قد فضلهم على العالمين.
- يعلمنا الله تعالى كيف نتألف قلوب الناس ونحن ندعوهم الى الاسلام أو الى الطاعة
- تذكير بنعمة الله تعالى علينا أن مَنَّ علينا بنعمة الاسلام، ومَنَّ علينا بنعمة الهداية
- ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)
الذرية هم الأبناء الصغار.
وهي من ذَرَأَ اي خَلَقَ.
أو هي من الذر أي النمل، لأن الله تعالى أخرج الخلق من صلب آدم كالذر.
وقوله تعالى (بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ) يعنى هؤلاء المصطفين الأخيار بعضهم من نسل بعض، فآل عمران من ذرية آل ابراهيم، وآل ابراهيم من ذرية نوح، ونوح من ذرية آدم.
وكل ذرية تأخذ من التى قبلها الدين والأحوال والأخلاق والآداب
وهذه اشارة من الله تعالى أنه قد يكون الطالح من نسل الصالح، بل قد يكون كافرًا من نسل نبي، كما هو شأن ابن نوح، ولكن الطبيعي والغالب أن تكون الذرية (بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ) فيكون نسل الرجل الصالح والمرأة الصالحة نسلًا صالحًا وطيبًا، كما هو حال هؤلاء الأنبياء الأطهار.
عندما سمع على –رضى الله عنه- ابنه الحسن يخطب خطبة فصيحة سُرَ بِه وقال (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)
(وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) هذه متعلقة بالآية التالية، والتى فيها دعاء اِمْرَأَةِ عِمْرَانَ، فقوله تعالى (سَمِيعٌ) أي سَمِيعٌ لدعاء اِمْرَأَةِ عِمْرَانَ، (عَلِيمٌ) أي عليم بصدق نيتها في دعائها .
ولذلك في الآية التالية يقول تعالى (إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ) يعنى الدليل على صفة الله تعالى (سَمِيعٌ عَلِيمٌ) هو قصة دعاء امْرَأَةُ عِمْرَانَ، واستجابة الله تعالى لدعاء امْرَأَةُ عِمْرَانَ
(ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)
تعرضت الآيات التالية لثلاثة قصص: وهي قصة ولادة مريم، وقصة ولادة يحي، وقصة ولادة عيسي –عليهم السلام-
والبداية أن نبي الله زكريا –عليه السلام- وعِمْرَانَ تزوجا أختين
وزكريا –عليه السلام- أحد كبار أنبياء بنى اسرائيل، ينتهي نسبه الى سليمان بن داود –عليهما السلام-
و"عِمْرَانَ" هو "عِمْرَانَ بن ماثان" هو رجل صالح، وهو أكبر علماء بنى اسرائيل في وقته، وقيل أنه كان نبيًا.
فتزوج زكريا من امرأة صالحة اسمها أشياعَ بنت فاقوذا، وتزوج عِمْرَانَ من اختها وهي امرأة صالحة أيضًا اسمها حنة بنت فاقوذا.
ولم تلد امْرَأَةُ عِمْرَانَ حتى تقدم بها العمر، وكانت تدعو الله تعالى أن يرزقها الولد، فاستجاب الله تعالى لدعائها، وحملت بمريم وهي امْرَأَةُ مسنة، فلما علمت أنها حامل قالت (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)
والنذر هو ما يوجبه الانسان على نفسه من طاعة الله تعالى.
ومعنى (مُحَرَّرًا) أي مُحَرَّرًا من الدنيا وأشغالها، متفرغًا للعبادة ودراسة التوارة وخدمة الكنيسة.
(إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي سميع لدعائي، عليم بما في قلبي.
وانظر الى الأدب في مناجاتها ربها، فهي تنذر أن تحرر ابنها وهذه طاعة عظيمة، وتدعو الله تعالى أن يتقبل منها هذه الطاعة، ثم تثنى على الله تعالي، وتقول (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)
وكان مشروعًا في دينهم أن يحرر الغلام، فيجعل في الكنيسة لا يخرج منها حتى يبلغ الحلم، فاذا بلغ الحلم خير ان أحب أقام، وان أحب خرج، ولم يكن يحرر الا الغلمان، ولا تحرر البنات لما يصيبها من الحيض، وصيانة للكنيسة من الاختلاط.
وهذا النذر من امْرَأَةُ عِمْرَانَ يدل على صلاحها، لأنه المرء اذا كان له عشر من الولد مثلًا وحرر أحدهم فهو أمر تقبله النفس، ولكن امْرَأَةُ عِمْرَانَ ليس لها الا ولد واحد، وجائها وقد تقدم بها العمر، فهي في اشتياق الى الولد والى أن تأتنس به، وهي في حاجة اليه لأنها قد كبرت، فاذا حررته فهذا يدل على صلاحها وزهدها في الدنيا
فلما نذرت "امْرَأَةُ عِمْرَانَ" أن تحرر ما في بطنها تقربًا الى الله تعالى، قال لها زوجها: ويحك ما صنعت، أرأيت إن كان ما في بطنك أنثى لا تصلح لذلك ؟ فوقعت امْرَأَةُ عِمْرَانَ في هم لذلك.
وكانت امْرَأَةُ عِمْرَانَ حين حملت كان لديها اعتقاد قوي أن جنينها ذكر، لأنها كانت تدعو الله تعالى أن يرزقها الولد ليكون محررًا، فلما استجاب الله تعالى لدعائها وحملت، اعتقدت أنه تعالى استجاب لدعائها كذلك وسيكون المولود ذكرًا لتحرره
ثم مات "عمران" وزوجته حامل بمريم.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)
(فَلَمَّا وَضَعَتْهَا) أي فلما ولدتها.
(قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى) قالت امْرَأَةُ عِمْرَانَ وهي تناجي ربها، وتعتذر اليه تعالى عن نذرها أن يكون ما في بطنها محررًا، يا رب لقد جاء المولود أُنْثَى
(وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ) قرأت هكذا بتسكين التاء على أنه جملة معترضة من كلام الله تعالى، يعنى هو تعالى أعلم بشأن ما وَضَعَتْ ومقامها العالى، وتحسرها على كونها أنثى كان لجهلها بمقامها
وقرأت أيضًا برفع التاء، على أنها تاء المتكلم (وَاللَّهُ أعْلَـمُ بِـمَا وَضَعْتُ) علـى أن أمّ مريـم هي القائلة، كأنها تتدارك ما قالته (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى)
(وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى) يعنى لن أستطيع يارب أن أفي بنذري أن يكون ما في بطني محررًا، لأنها أنثى وليس ذكرًا، لأنها أنثي، ولم يكرر يحرر الا الغلمان، أما الإناث فلا يحررن.
(وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ) ومعنى "مَرْيَمَ" أي العابدة، فالمعنى ان لم يكن المولود صبيًا محررًا أي متفرغًا للعبادة وخدمة الكنيسة، فاني سميتها "مَرْيَمَ" أي العابدة، رجاء أن أن يكون اسمها مطابق لها، فتكون متفرغة للعبادة حتى وان لم تدخل الكنيسة، فأفي بنذري لك يا رب على قدر استطاعتى
(وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)
المعاذ هو الملجأ، فالمعنى أني أحصنها بك يارب هي وذريتها مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، واضعها يارب في حمايتك مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
واستجاب الله تعالى لدعاء زوجة عمران أم مريم
يقول الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- "كل مولود يولد له طعنه من الشيطان باصبعه، فَـيَسْتَهِلّ بها صَارِخاً، غَيْرَ مَرْيَمَ وَابْنِها، فانها لما وضعتها امها قالت (رَبّ إِنّى أُعِيذُهَا وَذُرّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ ٱلرَّجِيمِ) فَضُرِبَ دُونَهُما حِجابٌ فَطَعَنَ فِـي الـحِجابِ."
(ملاحظة: ليس هناك سبب علمي لبكاء الطفل بعد ولادته، والإجابة عند الأطباء أن بكاء الطفل حتى تتفح الرئة وتبدا عملها، ولولا بكاء الطفل لتوفي في الحال، وهذا ليس السبب ولكنه النتيجة)
جاء في بعض كتب التفسير أنه لـما ولد عيسى، أتت الشياطين إبلـيس، فقالوا: أصبحت الأصنام قد نكست رؤوسها، فقال: فهذا لحادث حدث! ثم قال: مكانكم! وطار يطوف في الأرض، فلم يجد شيئًا، حتى وجد عيسي قد ولد وقد حفت به الملائكة، فرجع الى الشياطين وقال لهم: ما وضعت انثى قط الا كنت بحضرتها الا هذه.
اذن استجاب الله تعالى لدعاء المرأة الصالحة زوجة عمران وأم مريم فلم يكن للشيطان سبيل لا على السيدة مريم ولا على ذريتها، وهو ابنها عيسي ابنها، فكانا لا يصيبان الذنوب أبدًا
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
التقبل هو أخذ الشيء برضا
وقوله (بِقَبُولٍ حَسَنٍ) يعنى زيادة في الرضا
اي فتقبله الله تعالى هذه الطفلة "مريم" من أمها حين نذرت أن تكون متفرغة للعبادة
(وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا) أى رباها تعالى تربية حسنة، وأنشأها نشأة صالحة.
(وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) أي جعل الله تعالى نبي الله زَكَرِيَّا –عليه السلام- كافلًا لها، وقوله تعالى (كَفَّلَهَا) أي أن الأمر جاء من أعلى.
وقرأت (وكَفَلَها زَكَرِيَّا) فأسند الله الفعل لزكريا.
فالله تعالى يوضح كيف هيء لها من الأسباب حتى ينبتها نَبَاتًا حَسَنًا بأن كَفَّلَهَا زَكَرِيَّا، أي أصبح نبي الله زكريا –عليه السلام- وكان زوج خالتها، مسئولًا عن تربيتها والانفاق عليها، لأنها كانت يتيمة، فكانت تأخذ منه العلم النافع، والعمل الصالح
وفي الآية (44) ذكر تعالى أنه كانت هناك منافسة على كفالة "مريم" لأنها كانت ابنة امامهم يقول تعالى (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) ولذلك فالغالب أن زكريا –عليه السلام- عندما كفل مريم لم يكن قد جائته النبوة، والا ما كان الكهنة يجادلونه في أمر كفالته لمريم
المهم أن الكهنة عندما اختلفوا على كفالة مريم، اقترعوا فيما بينهم، وجائت القرعة لزكريا.
(كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ)
(الْمِحْرَابَ) والمحراب هو بناء يتّخذه أحد ليخلو فيه للصلاة والعبادة، وغالبً ما يكون في مكا مرتفع يصعد اليه بسلم.
وقد أطلقوا عليه الْمِحْرَابَ، لأنه مكان محاربة الشيطان والهوي
ثم أطلق المحراب عند المسلمين على الشكل الذي يكون في المكان الذي يقف فيه الإمام، وأول محراب في الاسلام كان في مسجد الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- في وقت امارة "عمر بن عبد العزيز" على المدينة.
وكان محراب السيدة مريم هو غرقة بنيت لها فى بيت المقدس، وكانت لا يصعد إليها إلا بسلم.
اذن كانت هناك خصوصية للسيدة مريم لم تكن لغيرها، لأنه لم يكرر يحرر الا الغلمان فقط –كما ذكرنا- لما يصيب المرأة من الحيض، وصيانة للكنيسة من الاختلاط، فجعل للسيدة مريم غرفة في بيت المقدس لا يصعد إليها إلا بسلم، فلا تكون في داخل المسجد، ولا تختلط بالرجال.
وقيل أن ذلك كان بوحي من الله لنبي الله زكريا
وكان لا يدخل عليها في محرابها في بيت المقدس الا نبي الله زكريا
(كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ) و"كُلَّمَا" تدل على التكرار.
(وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا)
أي وجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف.
وهذا دليل على كرامات الأولياء
(قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا) من أين لك هذا الرزق
(قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)
هو من عند الله. فعند ذلك طمِع زكريا في الولد وقال: إن الذي يأتيها بهذا قادر أن يرزقني ولدا، يقول تعالى (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ۖ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) وتأتي قصة ولادة يحي –عليه السلام-
(كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا)
|