تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة الثانية والتسعون بعد المائة الأولى
تدبر الآيات من (38) الى (41) من سورة "آلَ عِمْرَانَ"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41(
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
تحدثنا في الحلقة السابقة عن قصة ولادة السيدة مريم، وقلنا أن أبوها "عمران" قد مات قبل ولادتها، فكفلها نبي الله زَكَرِيَّا –عليه السلام- وكان زوج خالتها، فكان مسئولًا عن الانفاق عليها، وتربيتها، وتوجيهها، وكان لها محراب أي غرفة جعلت لها في بيت المقدس تتعبد فيه.
وكان زَكَرِيَّا –عليه السلام- كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا، أي وجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف، وربما وجد عندها فاكهة ليست في بيئتها، فقَالَ زَكَرِيَّا –عليه السلام-: يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا ؟ قَالَتْ: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ.
عند ذلك طمع زَكَرِيَّا –عليه السلام- في الولد، وكان قد تقدم به السن وكانت امرأته عاقرًا لم تنجب، وقد تقدم بها السن أيضًا.
فقال زَكَرِيَّا –عليه السلام- ان الذي يأتي مريم بهذا الرزق من غير الأسباب، قادر على أن يرزقني الولد كذلك بغير الأسباب.
لأن أسباب الولد أن يكون الأب قادرًا على الانجاب، والمرأة قادرة على الإنجاب، وفي حالته –عليه السلام- لا هو قادر على الإنجاب ولا زوجته قادرة على الانجاب.
أو أن زَكَرِيَّا –عليه السلام- لما رأي هذه الكرامة لتلك الفتاة المباركة، تحركت في نفسه مشاعر الأبوة، وتاقت نفسه الى أن يكون له ولد صالح مثل هذه الفتاة الصالحة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ)
(هُنَالِكَ) هُنَالِكَ في كلام العرب تستعمل ظرفًا للزمان وظرفًا للمكان.
وذلك مثل قول الله تعالى في في سورة الكهف (هنالك الولاية لله الحق) اشارة الى الزمان
وفي سورة الأعراف: (فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين( وهذا إشارة إلى المكان الذي كانوا فيه.
فاذن قوله تعالى (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) تحمل معنيين:
(هُنَالِكَ) اشارة الى الزمان، يعنى عند ذلك، أو عندما راي هذه الكرامة.
أو(هُنَالِكَ) اشارة الى المكان، أي في ذلك المكان، أي أن زَكَرِيَّا –عليه السلام- وجد أن هذا المكان مكانًا مباركًا، لأنه مكان عبادة لتلك الفتاة المباركة، فأراد أن ينتهز هذه الفرصة السانحة، ودعا الله تعالى في هذا المكان المبارك.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ)
قوله تعالى (رَبِّ هَبْ لِي) أي اعطني
ولكن هناك فرق بين (هَبْ لِي) و(أعطنى)
فأعطنى يعنى تطلب شيئًا هو حق لك.
ولكن (هَبْ لِي) يعنى تطلب شيئًا ليس من حقك.
ولذلك قال (هَبْ لِي) لأنه لا يملك أسباب الولد، فلا هو قادر على الانجاب، ولا زوجته قادرة على الانجاب
ثم أكد هذا المعنى فقال (مِنْ لَدُنْكَ) أي مِنْ عندك
يعنى أنا أطلب الولد من عندك، أي بمحض قدرتك من غير توسط شيء من الأسباب.
كما في قوله تعالى عن الخضر عليه السلام (وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا) أي علمًا مباشرًا من الله تعالى دون اتخاذ أسباب العلم.
اذن قوله تعالى (قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ) يعنى يا رب أنا أطلب منك الولد وأنا فاقد لأسباب الولد، فلا أنا قادرعلى الانجاب، لأني قد تقدم بي السن، وبلغت من الكبر عتيا، ووهن العظم منى واشتعل الرأس شيبًا –كما ورد في سورة مريم- ولا زوجتى قادرة على الانجاب لأنها قد أسنت وهي عاقر، فهي لم تنجب وهي شابة صغيرة، فالأولى ألا تنجب وقد تقدم بها السن.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً)
الذرية تطلق على الواحد والجمع، وهي هنا للواحد.
لأنه في سورة مريم قال (فهب لي من لدنك وليا) ولم يقل أولياء
فمعنى (ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) أي ولدًا مباركًا تقيًا نقيًا صالحًا.
(إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) أي مجيب الدُّعَاءِ.
وهذا ثقة بالله تعالى، كأنه يقول أنت يارب أن تسمع دعائي، وبمجرد أن تسمع دعائي فستستجيب لى.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وتتمة الدعاء في سورة مريم (ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6(
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)
(فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ) وقرأت (فناداه الْمَلَائِكَة)
والمعنى ناداه جمع من الملائكة، ولذلك فهو سمع الصوت من كل الجهات.
) وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ)
والمحراب –كما ذكرنا- هو بناء يتخذ للعبادة، ويكون غالبًا مرتفعًا عن الأرض، ويصعد اليه بسلم، وقد سمي بذلك لأنه مكان يحارب فيه الشيطان، ويحارب فيه هوي النفس.
كأن زكريا –عليه السلام- أخذ بما علمه الله تعالى للأنبياء اذا حزبهم أمر فزعوا الى الصلاة، ومعنى حزبه أي ضاقت به الأسباب، ولذلك يذهب ويقف بين يدي خالق الأسباب، أليس طلبك الى الله، فقم واقف بين يدي من بيده طلبك.
يقول أحد التابعين أن هذه اشارة الى أن أفضل عبادة هي الصلاة.
وقوله تعالى (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي) كأن الملائكة لم تنتظر إلى أن ينتهي من صلاته، فنادته وهو يصلى.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى) يعنى أن الله تعالى قد استجاب دعائك، ويبشرك بغلام اسمه يحي.
اذن الذي سمي الغلام هو الله سبحانه تعالى
ومعنى يحي يعنى يعيش ويعمر.
وقد قلنا من قبل أن من يسمي ابنه اسمًا فهو يرجو أن يكون اسمه على مسمي، فالذي يسمي ابنته –مثلًا- حنان فهو يرجو أن تتتصف بصفة الحنان، والذي يسمي ابنه "كريم" فهو يرجو أن يكون أبنه كريمًا، والذي يسمي ابنه محسن يرجو أن يكون "محسنًا" والذي يسمي ابنه سعيد هو يرجو أن يعيش سعيدًا... وهكذا..
وقد يسمي الرجل ابنه اسمًا ثم لا يكون الاسم على مسمي، أعرف مثلًا امرأة اسمها "غنية" وهي شديدة الفقر، فهو فقط يتفائل ويرجو أن يكون الاسم على مسمي.
ولكن اذا سمي الله تعالى غلامًا باسم فلابد أن يكون الإسم على مسمي.
وقد سمي الله تعالى الغلام "يحي" يعنى يعيش ويعمر، ولا يغيش ويعمر في هذه الحياة الدنيا الا الشهيد فقط، يقول تعالى (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) وقد ورد عن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- أن أرواح الشهداء تكون في جوف طير خضر تسرح من الجنة حيث شاءت.
فاذا سمي الله تعالى الغلام باسم يحي، فان هذه بشارة بأنه سيموت شهيدًا، ولذلك فقد علم نبي الله زكريا –عليه السلام- قبل أن يولد له هذا الغلام أنه سيموت شهيدًا.
كأن الله تعالى اراد أن يمهد لزكريا –عليه السلام- أن ابنه سيموت شهيدًا.
لماذا أراد تعالى أن يمهد لزكريا –عليه السلام- أن ابنه سيموت شهيدًا ؟
لأن الموت غالبًا يكون له مقدمات، كالمرض مثلًا أو تقدم السن، وهذه المقدمات تخفف كثيرًا على ذويه أمر موته، فهم يتوقعون موته، أما الموت المفاجيء فيكون قاسيًا على ذوي الميت، والشهيد يكون موته بلا مقدمات، ولذلك يكون الأمر قاسيًا على ذويه.
ولذلك اراد الله تعالى أن يمهد لزكريا –عليه السلام- أن ابنه يحي سيموت شهيدًا، لأن الشهيد –كما قلنا- يكون موته بلا مقدمات، واذا اضفنا الى ذلك عوامل اخري تجعل زكريا –عليه السلام- ببشريته يتعلق بابنه يحي تعلقًا شديدًا، وهو أنه قد جاءه وقد تقدم به السن، وهو ابنه الوحيد، وكان شديد البر بأبويه حتى أنه الله تعالى مدحه بقوله (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا) وهو بعد نبي كريم، لم يرتكب ذنبًا طوال حياته، من أجل كل ذلك فلابد أن يكون تعلق زكريا –عليه السلام- بابنه يحي تعلقًا أكبرمن تعلق أي اب بابنه، ولذلك فرحمة من الله تعالى بنبيه زكريا–عليه السلام- مهد الله تعالى له بأن ابنه هذا الذي سيولد سيموت شهيدًا، فقال أن اسمه يحي، واذا كان الذي سمي هو الله فلايد أن يكون السم على مسمي، ومعنى يحي أي يعيش ويعمر، ولا يعيش ويعمر في هذه الحياة الدنيا الا الشهيد فقط
قبر نبي الله يحي عليه السلام
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم وصف الله - تعالى - يحيى - عليه السلام - بأربع صفات كريمة فقال تعالى: (مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ) أي مُصَدِّقًا بِعِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ.
وقد ورد في غير موضع من القرآن والسنة أن عيسي هو كلمة الله، لأن عيسي –عليه السلام- لم يولد من أب وأم، وانما ولد بكلمة الله (كن)
وَكَانَ يَحْيَى اِبْنَ خَالَةِ عِيسَى، وَكَانَ أَكْبَرَ مِنْ عِيسَى، قيل أنه كان أكبر منه بثلاث سنين وقيل بستة أشهر .
فكَانَ يَحْيَى أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَ بِعِيسَى وَشَهِدَ أَنَّهُ كَلِمَةٌ مِنَ اللَّهِ
عَنِ السُّدِّيِّ –وهو أحد أعلام المفسرين من التابعين- قَالَ: لَقِيَتْ أُمُّ يَحْيَى أُمِّ عِيسَى، وَهَذِهِ حَامِلٌ بِيَحْيَى، وَهَذِهِ حَامِلٌ بِعِيسَى، فَقَالَتْ اِمْرَأَةُ زَكَرِيَّا: يَامَرْيَمُ، اِسْتَشْعَرْتُ أَنِّي حملت! قَالَتْ مَرْيَمُ: اِسْتَشْعَرَتْ أَنِّي أَيْضًا حملت! فأحست اِمْرَأَةُ زَكَرِيَّا أن جنينها يخر برأسه إلى ناحية بطن مريم، فقَالَتْ اِمْرَأَةُ زَكَرِيَّا: فَإِنِّي وَجَدْتُ مَا فِي بَطْنِي يَسْجُدُ لِمَا فِي بَطْنِكِ ! فَذَلِكَ قَوْلُهُ: (مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَسَيِّدًا) السيد هو الذي يفوق غيره، والمعنى انه كان سيدًا في العلم والعبادة والتقوي والورع والحلم، فكان لا يغلبه غضبه أبدًا.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَحَصُورًا) الحصور هو وصف مبالغة من مادة الحصر، وهو الْمَنْعُ وَالْحَبْسُ.، حصر الجيش يعنى حبسه ومنه من الحركة.
والمعنى أنه كان لا يأتي النساء.
قيل أنه لم يكن له رغبة في النساء، ولا قدرة على الجماع.
وقيل أنه كان لا يأتي النساء مع قدرته على ذلك.
وهذا هو الأقرب لأن الفضل في أن تكون الرغبة موجودة ثم يمنعها بالمجاهدة.
وقيل أن (حَصُورًا) أي معصومًا من الذنوب.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ)
وَنَبِيًّا يعنى سيكون أسوة في اتباع منهج الرسول الذي في عصره وهو عيسي –عليه السلام-
روى أحمد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال : (ما من أحد من ولد آدم إلا قد أخطأ، أو همّ بخطيئة؛ الا يحيى بن زكريا)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)
قال زكريا متعجبًا (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ) كيف يَكُونُ لِي غُلَامٌ (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) يعني قد كبرت في السن، كما قال في سورة مريم (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا )
(وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ) يعنى لا تلد، فهي اصلًا وهو شابة كانت عاقرًا لا تلد، فكيف وقد أسنت الآن وبلغت سن الياس.
عن ابن عباس رضي الله عنهما : كان ابن عشرين ومائة سنة، وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة
(قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ)
يعنى الله تعالى يفعل ما يشاء أن يفعله بدون تقيد بالأسباب والعادات.
وفي سورة مريم (قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا)
وقد تكلم كثير من المفسرين في قول زكريا –عليه السلام- (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ) اذا كان هو الذي طلب هذا الأمر فقال (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ)
فقال البعض أن ذلك كان على سبيل الاستعظام والتعجب من قدرة الله تعالى.
يقول الامام "محمد عبده" في "المنار" إن زكريا لما رأى ما رآه من نعمة الله على مريم في كمال إيمانها وحسن حالها، ولا سيما اختراق شعاع بصيرتها لحجب الأسباب، ورؤيتها أن المسخر لها هو الذي يرزق من يشاء بغير حساب، أخذ عن نفسه، وغاب عن حسه، وانصرف عن العالم وما فيه، واستغرق قلبه في ملاحظة فضل الله ورحمته،
فنطق بهذا الدعاء في حال غيبته (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ)
وإنما يكون الدعاء جديرا بأن يستجاب إذا جرى به اللسان بتلقين القلب في حال استغراقه في الشعور بكمال الرب، ولما عاد من سفره في عالم الوحدة إلى عالم الأسباب ومقام التفرقة، وقد أوذن بسماع ندائه، واستجابة دعائه، سأل ربه عن كيفية تلك الاستجابة وهي على غير السنة الكونية فقال (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41(
(قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً) أراد زكريا –عليه السلام- علامة على حدوث الحمل، لأن المرأة اذا حملت فان علامة حملها أن ينقطع عنه دم الحيض، فاذا كانت امرأة زكريا قد بلغت سن الياس وانقطع عنها الحيض، فانه يريد علامة أخري على حدوث الحمل.
وكان ذلك استعجالًا منه –عليه السلام- للسرور بمعرفة حدوث الحمل، وهذا بمقتضي طبيعته البشرية.
(قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا) قال تعالى أن علامة حدوث الحمل هو أن يظل ثلاثة أيام لا يستطيع أن يتكلم مع أحد من الناس (إِلَّا رَمْزًا) يعنى إِلَّا بلغة الإشارة.
(وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ) ومع عدم قدرته على الكلام، كان اذا أراد أن يتحرك لسانه بذكر الله تعالى فانه يتكلم بذلك.
وبذلك تكون هذه المدة وهي الثلاثة ايام خالصة فقط لذكر الله تعالى.
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: لَوْ كَانَ اللَّهُ رَخَّصَ لِأَحَدٍ فِي تَرْكِ الذِّكْرِ، لَرَخَّصَ لِزَكَرِيَّا.
ومن فضل الذكر أن الله تعالى أمر في أكثر من موضع من القرآن بالإكثار من الذكر.
(وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ) هو أمر من الله تعالى لنبيه زكريا بأن يكثر من ذكر الله تعالى وتسبيحه في وقت الْعَشِيِّ، وهو آخر النهار، وهو الوقت من صلاة العصر الى صلاة المغرب (وَالْإِبْكَارِ) هو الوقت من الفجر حتى شروق الشمس، وهذا من فضل أذكار الصباح والمساء
|