تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة الثالثة والتسعون بعد المائة الأولى
تدبر الآيات (42) و(43) و(44) من سورة "آلَ عِمْرَانَ"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ)
السيدة مريم هي المرأة الوحيدة التى ذكر اسمها في القرآن الكريم.
وقد ذكرت نساء اخريات كثيرات في القرآن الكريم ، ولكن لم يذكرن بالاسم، مثل امرأة فرعون، وامرأة عمران، وامرأة زكريا، أم موسى، أخت موسى، زوجة موسى، ونساء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- ، ولكن لم يذكر بالاسم الا السيدة مريم
ولم يذكر اسمها مرة واحدة، بل ذكر اسمها 32 مرة، وهناك سورة في القرآن تحمل اسم "مريم" (بالمناسبة فقد ذكر اسم السيدة مريم في التوراة والانجيل معًا 18 مرة)
من فضل السيدة مريم أن هناك سورة في القرآن باسم "سورة مريم"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ومما ذكره الإمام القرطبي في تفسيره في سورة النساء أن العرب كانت لا تذكر أسماء النساء، بل يكنون عن الزوجة، فكان الرجل يقول أهلى وامرأتي وزوجتى، كما نقول نحن الآن: أم العيال أو من في البيت وهكذا، وكانت العرب لا تذكر الا اسماء الإماء، فلما كانت السيدة مريم أخص اماء الله تعالى فقد ذكر الله تعالى اسمها.
ونحن نقول أن هذا القياس غير صحيح، لأن العرب كانت لا يذكرون أسماء الحرائر، ويذكرون اسماء الإماء، لأن الذي يذكرون أسمائهن عندهم في درجة أعلى، وهذا عكس القرآن لأن التى ذكر اسمها –وهي السيدة مريم- هي التى في الدرجة الأعلى..
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ) يعنى جمع من الملائكة هم الذين خاطبوا السيدة مَرْيَمُ ، وقيل أن الذي خاطبها هو جبريل –عليه السلام- وحده.
وهذه كرامة ثانية للسيدة مَرْيَمُ أن خاطبتها الملائكة، والذين ينكرون كرامات الأولياء، يقولون أن هذه كرامة لزكريا –عليه السلام- وهذا عجيب لأنه ليس هناك علاقة بزكريا –عليه السلام- بهذا الأمر.
(إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ) يعنى إِنَّ اللَّهَ اختارك فجعلك امرأة صالحة وجعلك من أهل طاعته
(وَطَهَّرَكِ) أي طَهَّرَكِ من دنس الذنوب والمعاصي.
(وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) اي اختارك على جميع نساء العالمين
اذن هناك اصطفاء أول، بأن اختارها –تعالى- أن تكون امرأة صالحة، وهو اصطفاء يدخل فيه جميع النساء الصالحات.
ثم طهرها –تعالى- من دنس الذنوب والمعاصى، ولا يزال يطهرها –تعالى- حتى وصلت الى الاصطفاء الثاني حتى أصبحت خير نساء العالمين منذ أمنا حواء وحتى قيام الساعة.
ومن فضل السيدة مريم قول الله تعالى في سورة المائدة (مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) وذهب البعض الى أنها كانت نبية.
وهناك كثير من الأحاديث في فضل السيدة مريم، منها قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- "كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء الا مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون"
ويقول الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- "خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد"
ويقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- لإبنته السيدة فاطمة "أنت سيدة نساء أهل الجنة، إلا مريم بنت عمران، البتول" ومعنى البتول: المنقطعة عن الرجال.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وذهب البعض الى أن قوله تعالى (وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) أن المقصود بذلك الاصطفاء على نساء عالمي زمانها، يعني النساء اللواتي في زمانها، وهذا غير صحيح، وهم يقولون ذلك لإعطاء الأفضلية للسيدة خديجة أو للسيدة فاطمة، وهذا تحيز غير مقبول في الاسلام، والصحيح أن السيدة مريم هي خير نساء العالمين منذ بدء الخليقة وحتى قيام الساعة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
(يَا مَرْيَمُ) لا تزال الملائكة تتحدث الى السيدة مريم، وهذا دليل أنه يمكن لغير الأنبياء أن يتحدث الى الملائكة وأن تتحدث اليه الملائكة
(يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ) أي أَطِيعِي رَبَّكِ، وداومي على طاعة ربك.
(وَاسْجُدِي وَارْكَعِي) أي أكثري من الصلاة، وأطيلي الركوع والسجود.
وهذا أمر بكثرة العبادة والمداومة عليها، مع أن السيدة مريم كانت كثيرة العبادة، وكانت منقطعة للعبادة، فكانت بعد هذا الخطاب من الملائكة، تقوم في صلاتها حتى تورمت قدماها.
وسبب الأمر بأن تزيد في عبادتها أن السيدة مريم مقبلة على بلاء عظيم، وهو أن تحمل بالمسيح –عليه السلام- من غير أب، واتهامها من قومها بالزنا، وبعد ذلك ستمر بسلسلة من الابتلاءات، فكان لابد أن تستعد لهذه الابتلاءات بشحنة ايمانية كبيرة، وهذه الشحنة الايمانية تكون بكثرة العبادة، وكثرة الركوع والسجود والوقوف بين يدي الله عز وجل.
وهذا مثل قول الله تعالى في سورة المزمل (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * (يعنى سنكلفك بمهام صعبة فلابد أن تستعد لهذه المهام الصعبة بقيام الليل) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ (يعنى صلاة الليل وعبادة الليل) هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا * (أثبت للقلب) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا *(يعنى إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ جهادًا طويلًا في الدعوة ومواجهة الكفار، ولذلك لابد أن تسعد لهذا الأمر بعبادة الليل، اذن إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا لا تستعد له بكثرة النوم، وانما تستعد له بكثرة العبادة في الليل)
ويقول تعالى لنبيه –صلى الله عليه وسلم- في سورة الشرح في بداية الدعوة، وهي ثاني سورة في القرآن بعد (اقرأ) (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ) يعنى اذا فرغت من الدعوة، فانصب قدميك للصلاة والعبادة
اذن نقول مرة أخري ان قوله تعالى للسيدة مريم (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) هو أمر بالاكثار من الطاعة والعبادة، لأن السيدة مريم مقبلة على عدد من الابتلاءات، وهذه الابتلاءات تحتاج الى قلب قوي، وتحتاج الى شحنة ايمانية كبيرة، وهذا يحصل بكثرة الذكر والعبادة والصلاة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وقوله تعالى (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) يعنى أن تكون صلاتها في جماعة في بيت المقدس، ولا تكتفي بصلاتها في محرابها، لأنها كانت في عزلة في محرابها، لا تختلط بأحد، وربما كانت تكثر من الصيام عن الكلام، وكان ذلك مشروعًا في شريعتهم، ويريد الله تعالى لها أن تخرج من عزلتها وتختلط بقومها وتتحدث اليهم، لأنها ستواجه بعد ذلك كل قومها، وتأتي اليهم وهي تحمل طفلها الذي جاء من غير أب، فكان لابد لها أن تتمرن على مواجهة الناس والحديث اليهم ومخالطتهم.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)
(ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ)
(ذَلِكَ) يعنى هذا الذي قصصناه عليك من قصة ولادة السيدة مريم، ثم قصة ولادة يحي بن زكريا، ثم مخاطبة الملائكة للسيدة مريم.
(مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ) أي أن كل هذه الأخبار تلقاها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-عن طريق الوحي، واخبار النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- بهذه الأخبار هي دليل على نبوته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-
لأن العرب لم تكن تعرف هذه الأخبار، وهو -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- أمي لا يقرأ، ولم يعرف عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- أنه جلس الى أحد فتعلم منه هذا العلم.
(وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ)
قلنا أن "عمران" وهو والد مريم قد مات، وامرأته حامل في السيدة مريم، فلما ولدت السيدة مريم، كان لابد أن يكون هناك من يكفلها، فيكون مسئولًا عن الانفاق عليها، ومسئولًا عن كل شئونها.
فلما ولدت السيدة مريم تنافس الأحبار كل يريد أن يكفلها -وكان عددهم سبعة وعشرون حبرًا- لأنها كانت بنت امامهم، وهو "عمران" وكان رجلًا صالحًا، وأكبر علماء بنى اسرائيل في عصره، وقيل أنه كان نبيًا.
وربما كان لها كرامات منذ ولادتها، وأول كرامة لها أنها ولدت بعد أن أسن ابوها وأسنت أمها، فأراد كل واحد منهم أن تكون هذه الفتاة المباركة عنده
فقال لهم زكريا –عليه السلام- أنه الأحق بكفالتها، لأن خالتها عنده، يعنى هو متزوج من خالتها "أشياع بنت فاقوذ" والخالة بمنزلة الأم.
ولكنهم رفضوا وأصر كل واحد منهم أن يكون هو الذي يكفلها.
وربما كان ذلك قبل أن تأتي زكريا النبوة، لأنه لو كانت قد جائته النبوة، ما كان لهم أن يخالفوه اذا طلب هذا، ومن الأخبار أن النبوة قد جائت الى زكريا في سن متقدمة.
وقوله تعالى (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) يدل على شدة الخلاف فيما بينهم، لدرجة أن أمر كفالتها دخل في خصومة.،
وحتى تنتهي الخصومة لجئوا إلى الاقتراع، فاتفقوا على أن يكون الاقتراع بقلم كل واحد منهم الذي يكتب به التوراة، وذلك تبركًا بتلك الأقلام، وذلك بأن يلقوا أقلامهم في النهر، قيل أنه نهر الأردن، وقيل غيره، والقلم الذي يتميز عن بقية الأقلام يكون صاحبة هو الذي يكفل مريم.
فلما فعلوا غرقت جميع الأقلام وبقي قلم زكريا طافيًا، ثم ألقوا الأقلام مرة أخري فجرت جميع الأقلام عكس التيار، وسار قلم زكريا مع التيار، وبذلك علموا أن الله تعالى قد اختار زكريا –عليه السلام- كافلًا لمريم، وهذا مما هيأه الله تعالى لتربيتها لأنها نبي كريم وقد أخذت منه العلم النافع والعبادة.
|