تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة الخامسة بعد المائتين
تدبر الآيات (81) و(82) و(83) من سورة "آلَ عِمْرَانَ"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)
هذه الآية الكريمة لها تفسيرين:
الأول: روي عن سعيد بن جبير وقتادة وطاوس وغيرهم،أن الله تعالى أخذ الميثاق وهو العهد على كل نبي، أن يؤمن بمن يأتي بعده من الأنبياء، وأن ينصره ان أدركه، وأن يأخذ العهد على ذلك.
التفسير الثاني: وهذا روي عن على بن أبي طالب وعن ابن عباس وغيرهما، أن الله تعالى قد أخذ الميثاق على كل الأنبياء، منذ آدم -عَلَيْهِ السَّلَام- حتى عيسي -عَلَيْهِ السَّلَام- أن يأمنوا بمحمد –صلى الله عليه وسلم- اذا بعث وهم أحياء، وأن يأخذ كل نبي هذا العهد على أتباعه.
والتفسيرين لا تضاد بينهما، بل على العكس، كل تفسير يقتضى الآخر، لأن أخذ العهد على كل الأنبياء أن يؤمن كل نبي بمن يأتي بعده من الأنبياء، يعنى أخذ العهد على كل الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأن النَبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو خاتم الأنبياء
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ولنرجع إلى تفسير الألفاظ، على التفسير الأول:
(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ) يعنى واذكر يا محمد إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ، والميثاق هو العهد المؤكد بيمين.
النَّبِيِّينَ وقرأت "النَّبِيّئِينَ" أي جميع الأنبياء منذ آدم وحتى عيسي عليهم السلام، أو هم جميع أنبياء بنى اسرائيل، وأولهم موسى -عَلَيْهِ السَّلَام- وآخرهم عيسي -عَلَيْهِ السَّلَام- وبينهما عدد كبير من الأنبياء، قيل أنهم 600 نبي.
وهذا الميثاق الذي أخذه الله تعالى على هؤلاء الأنبياء، هو ميثاق على أتباعهم كذلك، لأن السيد أو المتبوع اذا بايع أحدًا،فان التابعين يكونون مبايعين له من باب أولى.
(لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ) أي بما أعطيتكم مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ، أي أن هذا الميثاق موجود وموثق في الكتب المنزلة عليكم، وموجود وموثق في الحكمة وهو الوحي.
أو المعنى: مهما أعطيتكم مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ، يعنى مهما أعطيتكم مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ وعلم ونبوة، فلا يمنع هذا أحدكم من اتباع من بعث بعده ونصرته.
(ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ) هذا الميثاق هو اذا جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ مِنْ كِتَابٍ ومِنْ حِكْمَةٍ وهو الوحي، من الايمان بالله وحده، وغير ذلك من أساسيات العقيدة.
(لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) لَتُؤْمِنُنَّ بِهذا الرسول وَلَتَنْصُرُنَّهُ اذا خرج وأنتم أحياء
واستخدم تعالى حرف (ثُمَّ) الذي يفيد التراخي، للإشارة الى أن أتباع النَبي عليهم نصرة النبي الذي يأتي بعد نبيهم مهما كان زمنه بعيدًا عن نبيهم.
(قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ) قال تعالى للأنبياء أَأَقْرَرْتُمْ بذلك، وهذا سؤال تقريري.
(وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي) وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ، أي أَخَذْتُمْ على نصرة النَبي الذي يأتي من بعدي من أتباعكم (إِصْرِي) أي عهدي، والأصر هو العهد المؤكد، وهو من الإصار أي الحبال.
فالمعنى وأخذتم العهد المؤكد من أتباعكم على نصرة النبي الذي يأتي من بعدي.
(قَالُوا أَقْرَرْنَا) أي قال الأنبياء نعم أَقْرَرْنَا، أي أَقْرَرْنَا باتباع النَبي الذي يأتي من بعدنا، وأقررنا بأننا أخذنا العهد من أتباعنا على ذلك.
(قَالَ فَاشْهَدُوا) أي قال تعالى فَاشْهَدُوا على أنفسكم، وليشهد بعضكم على بعض، واشْهَدُوا على أقوامكم.
والشهادة هي الإخبار بما شوهد.
أو أن الله تعالى قال للملائكة، فَاشْهَدُوا عليهم، أي اشْهَدُوا على الأنبياء.
(وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) أي أن الله تعالى يقول وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ علي أقوامكم، وهذا تأكيد، وفيه تحذير من الرجوع.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
هذا هو التفسير الأول أن الله تعالى قد أخذ الميثاق على كل نبي، أن يصدق بعضهم بعضا، وأن يؤمن كل نبي بمن يأتي بعده من الأنبياء.
التفسير الثاني أن الله تعالى قد أخذ الميثاق على كل الأنبياء أن يأمنوا بمحمد –صلى الله عليه وسلم- اذا بُعِثَ وهم أحياء
يقول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: ما بعث الله نبياً -آدم فمن بعده- إلا أخذ عليه العهد في محمد، لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، ثم تلا هذه الآية.
(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ) هذا الميثاق قد أخذه الله تعالى على كل نبي، أما بعد بعثته، أو حين استخرج الذرية من صلب آدم عليه السلام، على هيئة الذر، والأنبياء فيهم كالمصابيح، فأخذ عليهم الميثاق في أمر محمد -صلى الله عليه وسلم-
(لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ) أي تؤمنون به مسترشدين بما ذكر في الكتب المنزلة عليكم، وَالحِكْمَةٍ وهو الوحي، من صفة الرَسُول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ) أي ثُمَّ جَاءَكُمْ الرسول المذكور في كتبكم التي مَعَكُمْ، والتي بين أيديكم، وهو محمد –صلى الله عليه وسلم-
(لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ –صلى الله عليه وسلم-وَلَتَنْصُرُنَّهُ اذا خرج وأنتم أحياء
(قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي)
قال تعالى للأنبياء أَأَقْرَرْتُمْ بالإيمان بمحمد –صلى الله عليه وسلم- والنُّصرة له
(وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي) وَأَخَذْتُمْ من اتباعكم العهد بالإيمان بمحمد –صلى الله عليه وسلم- والنُّصرة له
(قَالُوا أَقْرَرْنَا) أي قال الأنبياء نعم أَقْرَرْنَا.
(قَالَ فَاشْهَدُوا) اي فَاشْهَدُوا على أنفسكم، واشهدوا على أقوامكم
(وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) أي وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ على أقوامكم.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وقلنا أنه ليس هناك تضاد بين التفسيرين، بل على العكس كل تفسير يقتضى الآخر.
وسواء على التفسير الأول أو الثاني، فان الآية فيها اشارة هامة الى أن المنهج الذي جاء به رسل الله تعالى هو منهج واحد، وليس فيه أي تناقض، لأن المصدر واحد والمشرع واحد، واذا كان هناك تناقض فمصدره هو أتباع الرسل، حين يريدون لأنفسهم سلطة زمنية أو منفعة دنيوية.
والآية اشارة أيضًا الى أهل الكتاب وتذكير بأن أنبيائهم قد أخذت عليهم عهدًا بتصديق محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ونصرته حين يبعث.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)
(فَمَنْ تَوَلَّى) فمن أعرض عن الايمان بالرسول –صلى الله عليه وسلم- ونصرته.
(بَعْدَ ذَلِكَ) أي بعد كل هذا من الميثاق والتوكيد والإقرار والشهادة.
(فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) أي فَأُولَئِكَ هُمُ الْكافرونَ
لأن أصل الفسق هو الخروج، كانت العرب تقول فسقت الرطبة اذا خرجت عن قشرتها، ونحن نقول فقست البيضة، أي خرج منها الكتكوت.
فالفسق هو الخروج عن دائرة الحق، سواء فسق معصية أو فسق كفر، ففسق المعصية، وهو الفسق الأصغر، الخروج عن طاعة الله تعالى، وفسق الكفر، وهو الفسق الأكبر، وهو الخروج عن الايمان.
وكما ان القشرة تحمي الثمرة، فان الايمان والطاعة تحمي الانسان.
اذن قوله تعالى (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) أي فَأُولَئِكَ هُمُالكافرون.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)
(أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ) وهو الاسلام (يَبْغُونَ) أي يُرِيدُونَ.
(وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ) وله تعالى استسلم وخضع كل مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ.
(طَوْعًا وَكَرْهًا) فمنهم من خضع لله تعالى طائعًا وهم الملائكة والمؤمنون، ومنهم من خضع لله تعالى كَرْهًا أي رغمًا عنه، وهم الكفار.
قال بعض أهل التفسير: (طَوْعًا) هو سُجُودُ الْمُؤْمِنِ طَائِعًا (وَكَرْهًا) هو سُجُودُ ظَلِّ الْكَافِرِ على الأرض.
أو أن المقصود هو الخضوع لقدر الله تعالى، فقدر الله تعالى ومشيئته نافذة على المؤمن (طَوْعًا) لأنه يؤمن بقدر الله وقدره، ويرضى بقضاء الله في كل أحواله.
وكذلك قدره ومشيئته نافذة على الكافر (كَرْهًا) أي رغمًا عنه، لأنه مع كفره بالله تعالى فانه خاضع لسلطانه ولا يستطيع دفع قضائه منذ ولادته وحتى موته.
وقال البعض (طَوْعًا (هو اسلام المؤمن طَوْعًا في الدنيا، وَ(كَرْهًا) هواسلام الكافر حين يعاين العذاب يوم القيامة، كما قال تعالى في سورة غافر (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا)
ولذلك قال تعالى بعدها (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) أي إِلَيْهِ –تعالى-يُرْجَعُونَ يوم القيامة، فخير لك أن تسلم لله تعالى وأنت في الدنيا طَوْعًا، قبل أن تسلم له يوم القيامة كَرْهًا، لأنك حين تسلم كَرْهًا فلن ينفعك ايمانك.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
لِمُطَالَعَة بَقِيَةِ حَلَقَات "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم"
لِمُشَاهَدَة حَلَقَاتِ "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم" فيديو
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
|