تَدَبُرَ القُرْآنَ العَظِيم
الحلقة الثالثة والثلاثون بعد المائتين
تدبر الآية (154) من سورة "آلَ عِمْرَانَ"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
تحدث في الحلقة السابقة عن قول الله تعالى في الآية (153) من سورة "آلَ عِمْرَانَ" "فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ" وقلنا أن الغم الأول هو ما أصاب المسلمين من هزيمة وقتل وجراح، والغم الثاني الأكبر هو ما أشيع من قتل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأزال الغم الثاني الغم الأول، ثم كان الغم الثاني غير صحيحًا.
وكان ذلك من لطف الله تعالى ورحمته ومنته على عباده المؤمنين.
ثم ذكر الله تعالى منة ثانية في هذه الآية الكريمة فقال تعالى:
(ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ)
كلمة (أَنْزَلَ) تدل على أن هذا عطاء عُلوي
(مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ)
أي: أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ الأول، وهو ما أصابهم من هزيمة وقتل وجراح، لأن الْغَمِّ الثاني وهو ما أشيع من قتل النَبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يكن صحيحًا.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(أَمَنَةً نُعَاسًا)
أي أنزل الله تعالي في قلوب المؤمنين (أَمَنَةً) وهو الشعور بالطمأنينة في الصدر.
وهناك فرق بين الأمن والأمنة، فالأمن يكون مع زوال سبب الخوف، والأمنة يكون مع بقاء سبب الخوف.
ولذلك قال تعالى (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً) لأن سبب الخوف كان قائماً، وهو الخوف من أن يكر عليهم جيش المشركين ويهاجموا المدينة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (أَمَنَةً نُعَاسًا)
النعاس: هو الفتور والاسترخاء الذي يكون في أول النوم، وهي مرحلة قبل الدخول في النوم العميق.
فكان كرامة من الله -تَعَالي- لهذا الجيش من الصحابة أن أنزل النعاس على الجيش كله.
لأن من شأن النعاس أن يريح بدن الانسان وعضلاته، ويعيد اليه بعض من نشاطه وقوته، بل ويخفف توتره النفسي.
كما نقول في المثل الشعبي "تبات نار تصبح رماد"
وهذه الكرامة حدثت للمسلمين في غزوة بدر، يقول تعالى في سورة الأنفال (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ)
يقول عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: النُّعَاسُ فِي الْقِتَالِ مِنَ اللَّهِ، وَفِي الصَّلاةِ مِنَ الشَّيْطَانِ.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ)
قرأت (يَغْشَى) يعنى النعاس هو الذي يغشي
وقرأت (تَغْشَى) يعنى الأمنة هي التى تَغْشَى.
(طَائِفَةً مِنْكُمْ) وهم المؤمنون.
والطائفة هي الجماعة التى تجتمع على فكرة واحدة، كأنهم يطوفون حولها، فهي ليست مطلق جماعة، ولكنها جماعة تطوف حول فكرة معينة.
يقول أَبو طَلْحَةَ: غشينا النعاس، فكان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه، ثم يسقط فيأخذه.
(وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) والفرقة الثانية وهم المنافقون، وهؤلاء لم يهتموا لا بالرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا بأصحابهم، وانما لم يكن لهم هم الا أَنْفُسُهُمْ.
وهذه الطَائِفَةٌ الثانية من المنافقين لم ينزل عليهم النوم
كأن الله تعالى ميز بارسال النوم بين المؤمنين والمنافقين، فالمؤمنين أرسل الله عليهم النوم، والمنافقين لم يناموا.
وهذا يدل على أن الجيش كان فيه منافقون، بالرغم من أن "عبد الله بن أبي سلول" رجع بثلاثمائة من المنافقين، ولكن ظل بعض المنافين في الجيش، اما طمعًا في الغنيمة أو حتى لا ينكشف امرهم.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ)
أي يَظُنُّونَ أن الله تعالى لن ينصر رسوله ولن ينصر عباده المؤمنين كما وعد تعالى.
(ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ)
أي أنهم في ظنهم هذا كأنهم في فترة جاهليتهم قبل الاسلام، لأنهم وان دخلوا في الاسلام ظاهريًا بأنهم نطقوا الشهادتين، ولكن الإسلام والإيمان لم يدخل في قلوبهم.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ)
يَقُولُونَ هؤلاء المنافقون: هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ ؟
أي: لنا من أمر النَّصْرِ والظَّفَرِ على أعدائنا -كما وُعِّدْنا- شيءٌ ؟
وهذا استفهام للإنكار بمعنى النفى
أو أن هذا هو قول بعض المنافقين أيضًا، مثل "عبد الله بن أبى بن سلول" يعنى ليس لهم من أمر الخروج لقتال المشركين يوم أحد شيء، لأنهم كانوا يرون عدم الخروج للقتال، وانما كان رأيهم التحصن في المدينة، فخالفهم الرَسُول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ونزل على رأي الغالبية من صحابته في الخروج للقتال.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ)
قال لهم ان النصر والغلبة لله تعالى ولأوليائه المؤمنين.
وكان يمكن أن يقول (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ لِلَّهِ)
ولكن قوله تعالى (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) للتأكيد.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ)
هذه هي صفة المنافقين أنهم يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ الكفر والشَّكِّ، وتكذيب الوَعْدِ بالاستعلاء على أهل الشر، مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ من الايمان.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا)
أي يقول المنافقون لو كان النصر والغلبة لنا كما وعد الله، لم غلبنا وأصيب وقُتِلَ اخواننا.
يقول الزُّبَيْرُ بن العوام: لَقَدْ رَأَيْتُنِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ اشْتَدَّ الْخَوْفُ عَلَيْنَا، أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْنَا النَّوْمَ، فَمَا مِنَّا مِنْ رَجُلٍ إلا ذقنه في صدره، قال: فو الله إِنِّي لأَسْمَعُ قَوْلَ مُعَتِّبِ بْنِ قُشَيْرٍ، مَا أَسْمَعُهُ إِلا كَالْحُلْمِ: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ)
(قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ)
يعنى لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ ولم تخرجوا الى القتال
(لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ) أي لخرج الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ من بيوتهم
والبروز هو الخروج من المكان الذى يستتر فيه الإنسان
كلمة "بَرَزَ" تدل على اندفاع حركي، كمن يقول: بَرَزَ من الصف
كأن الميت عنده حرص ويتحرك مندفعًا للقاء الموت.
(إِلَى مَضَاجِعِهِمْ) الى الأماكن التى كتب الله تعالى أن يموتوا فيها فيموتون فيها.
فالقعود في البيوت وعدم الخروج للقتال لم يكن لينجيهم من الموت، بل وفي نفس المكان الذي قتل فيه من قتل يوم أحد.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
دخل ملك الموت على سليمان –عليه السلام- وكان يأتيه في صورة رجل، وجعل ملك الموت يديم النظر الى رجل شيخ من جلساء سليمان –عليه السلام- ، فلما انصرف ملك الموت قال الشيخ لسليمان، يا نبي الله من هذا الرجل ؟ فقال سليمان: هذا ملك الموت، ففزع الشيخ: وقال والله لَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْظُرُ إِلَيَّ كَأَنَّهُ يُرِيدُنِي، ثم قَالَ: أسالك بحقِّ الله -تَعَالي- يا نبي الله الا أمرت الريحَ ان تحملني وتلقيني بأقصى مكانٍ من أرض الهند، فأمر سليمان الريح ففعلت.
فلما كان الغد دخل موت الموت على سليمان، فقال له سليمان: قد أفزعت الشيخ مِنْ جُلَسَائِي بالأمس، كنت تديم اليه النظر، فقال ملك الموت: أمرني الله أمس أن أقبضَ روحهُ اليوم مع طلوع الفجر بأقصى مكانٍ من أرض الهند، فلما وجدته عندك جعلت أنظر اليه وأتعجب، وقد هبطتُ عليه اليوم مع طلوع الفجر حيث أمرني الله، فوجدتُّه بأقصى مكانٍ من أرض الهند ينتفض! فقبضتُ روحه.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ)
أي أن ما حدث يوم أحد من هزيمة وقتل وجراح، حتى (يَبْتَلِيَ اللَّهُ) أي يَختبر اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ
(وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ)
التمحيص هو تخليص الشيء، مما يخالطه مما هو عيب فيه.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
فحين عاد "عبد الله بن أبي سلول" بثلث الجيش، أصبح معروفًا أن هؤلاء الثلاثمائة من المنافقين، وعندما انهزم الجيش وقال البعض ارجعوا الى دينكم واخوانكم، عرف أن هؤلاء منافقون، وعندما قال البعض (لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا) عرف أنهم منافقون، وعندما فر البعض حتى وصل الى المدينة أو عندما قال بعضهم نأخذ أمانًا من أبي سفيان عرف أنهم ضعيفي الإيمان، والذين ثبتوا مع النَبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عرف أن ايمانهم قوي.
والذي نزل عليه النعاس عُرِّف أنه من طائفة المؤمنين، والذين لم ينزل عليهم النعاس عُرِّف أنهم من طائفة المنافقين.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)
أي بما في القلوب من خير وشر.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
لِمُطَالَعَة بَقِيَةِ حَلَقَات "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم"
لِمُشَاهَدَة حَلَقَاتِ "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم" فيديو
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
|