تَدَبُرَ القُرْآنَ العَظِيم
الحلقة (326)
تدبر الآيات من (172) الى (175) من سورة "النِسَاء"(ص 105)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
في الآية السابقة ذكر تعالى القول الفصل في شأن الْمَسِيح -عَلَيْهِ السَّلَام- فقال تعالى (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ)
ثم يستكمل الله تعالى الحديث عن الْمَسِيحعِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَام- فيقول تعالى
(لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)
(لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ)
الاستنكاف، من " النَّكْف" وهو أن يزيل الانسان دمعة عن خده بإصبعه، لأن الرجل العربي يأنف ويستعر أن يراه أحد يبكي، ثم انتقلت هذه الكلمة إلى أي مجال فيه استعلاء، فمثلًا يستنكف انسان أن يجلس بجوار رجل آخر، أو يستنكف أن يطلب شيء من رجل آخر وهكذا.
اذن فمعنى قوله تعالى (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ)
يعنى أن الْمَسِيحُ الذي تزعمون أنَّه إِلهٌ لا يَأْنَفَ ولا يجد غضاضة ولا يستعر أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وقبل في سبب نزول هذه الآية أن وفد نجران وهو وفد من كبار علماء النصارى جاء الى المدينة من اليمن وظل في المدينةعدة أيام يجادلون في الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكان مما قالوه للرسول صلى الله عليه وسلم : يا محمد إنك تعيب صاحبنا فتقول:إنه عبد الله، فقال النبي:إنه ليس بعار لعيسى عليه السلام أن يكون عبداً لله.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وهذا الأمر نسمعه من النصارىحتى الآن فهم يأنفون من كلمة عبد لله، ويقولون نحن أبناء الله، وأبانا الذي في السماء، واسم الله عندهم هو (الآب)
مع أن أول كلمة نطق بها المسيح هي أن أعلن عبوديته لله تعالى، يقول تعالى (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا *قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا)
وعلى النقيض نحن المسلمون نفتخربعبوديتنا لله تعالى، ونراها شرفًا
وفي أعظم مواقف تكريم وتشريف الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو العروج الى السماء وصف الله تعالى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالعبودية فقال (سبحان الذي أسري بعبده) وقال في سورة النجم (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ * فأَوْحَىٰإِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ)
يقول القاضي عياض:
ومـما زادني شـرفـاً وتـيــهـاًوكدت بأخمصي أطأ الـثريا
دخولي تحت قولك يا عباديوأن صـيَّرت أحمد لي نـبيـا
والسبب لأن العبودية بين البشر أن السيد يأخذ خير عبده، والعبد لا يأخذ شيئًا، أما العبودية لله فالعبد هو الذي يأخذ سيده، والسيد وهو الله لا يأخذ من عبده شيئًا.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) ولا يستكبر –كذلك- الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ لله، والذين هم حول العرش، مثل جبريل وميكائل واسرافيل، أن يكونوا عبيدًا لله تعالى.
وهذه الآية فهم منها بعض العلماء بأن الملائكة أفضل من الأنبياء، لأن هذاالأسلوب في اللغة يطلق عليه الارتقاء في النفي، كما يقول الموظف: لا يستطيع المدير أن يأمرني بذلك ولا رئيس مجلس الادارة.
فحين يقول تعالى (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) فمعنى هذا أن الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ أفضل من الْمَسِيحُ.
ونقول أن الأمر ليس ارتقاء في النفي، ولكن قوله تعالى (وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) لأن الآيات تتناول عقيدة النصارى وهي عقيدة الثالوث، أي أن الله ثلاثة: الآب والابن والروح القدس، والروح القدس هو أحد الملائكة
ولذلك كان يجب أن يذكر أن الضلع الثالث في الثالوث وهو روح القدس، لا يَسْتَنْكِفَ هو أيضًا أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا)
وَمَنْ يستكبر على أن يكون عبدًا لله، فانه سيحشر بين يدي الله تعالى يوم القيامة عبدًا ضعيفًا ذليلًا لا يملك من أمر نفسه شيئًا.
وهذا مثل قوله تعالى (إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) أي أذلاء.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ما الفرق بين (يَسْتَنْكِفْ) وَ(يَسْتَكْبِرْ) ؟
قالوا أن الاستنكاف من أعمال القلوب والاستكبار من أعمال الجوارح، يعنى تظهر في المشية وفي الجلسة في طريقة الكلام.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)
يخبر تعالى عن منزلة عباده المؤمنين ومنزلة المستنكفين عن عبادته يوم القيامة
فيقول تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ)
فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ: اي فسيعطيهم جزاء أعمالهم وَافِيًا تَامًّا.
(وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) قال البعض أن هذا الفضل هو مضاعفة الحسنات الى عشرة أضعاف وإِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ والى أضعاف كثيرة، وقيل أن هذه الزيادة هو الشفاعة لمن وجبت له النار.
وقيل هو النظر الى وجه الله تعالى.
كأن العبد بعمله لا يمكن أن يصل الى أن ينظر الى وجه الله، فكان النظر الى وجه الله تفضلًا على عباده المؤمنين.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) عَذَابًا مؤلمًا موجعًا.
(وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا) يعنى من يتولى أمرهم ويدفع عنهم (وَلَا نَصِيرًا) يعنى ينصرهم وينجيهم من عذاب.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)
)يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) البُرْهَانٌ هو الدليل الواضح.
ما المقصود بالبرهان هنا ؟
قال بعض العلماء أن المقصود بالبرهان هنا هو القرآن العظيم، وقال البعض أن البرهان هم الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
نقول أن المعنى واحد وهو: قَدْ جَاءَكُمْ الدليل الواضح مِنْ رَبِّكُمْ وهو القرآن العظيم على يد نبيكم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا) النور المبين، هو القرآن، وشبه القرآن بالنور لأن القرآن يُتبين به الأمور كما يُتبين بالنور.
وهذا التشبيه هام جدًا لأننا في زمن فتن وزمن شبهات ولا نجاة من هذه الفتن والشبهات الا بالقرآن العظيم، لأن القرآن كالنور الذي نري به الحق من الباطل.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)
(فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ) الاعتصام هو التمسك بشدة، وأصلها أن الانسان اذا وقع في هوة، وجاء انسان ليجذبه حتى يخرج منها، فانه يقبض بشدة على معصم يده
(فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ) يعنى آَمَنُوا بِاللَّهِ وتمسكوا بدين الله، أو وتمسكوا بالقرآن، والمعنى واحد.
(فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ) يعنى سيتغمدهم الله تعالى برحمة خاصة بهم، وفضل خاص بهم،لأن الله -تَعَالي- له رحمة وفضل تعم جميع الخلائق، ولكن هؤلاء سيدخلهم الله -تَعَالي- في رحمة خاصة بهم، وفضل خاص بهم
وقوله تعالى (فَسَيُدْخِلُهُمْ) يعنى الرحمة ستعمهم وتشملهم وتحيط بهم.
(وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) يعنى يوفقهم الى الطريق الموصل اليه تعالى، وهذه الهداية في الدنيا والآخرة، فهي في الدنيا هداية الى الطاعة، وفي الآخرة الثبات على الصراط حتى الوصول الى جنات النعيم، يقول ابن القيم على قدر ثبوت قدم العبد على الصراط في الدنيا، يكون ثبوت قدمه على الصراط المنصوب على متن جهنم.
ويقول ابن تيمية "أعظم الكرامة لزوم الاستقامة"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وقد ذكرت الآية ثواب الذين آمنوا بالله واعتصموا به ، ولم تذرك عقاب الذين كفروا إهمالا لهم.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
لِمُطَالَعَة بَقِيَةِ حَلَقَات "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم"
لِمُشَاهَدَة حَلَقَاتِ "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم" فيديو
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
|