تَدَبُر القُرْآن العَظِيم
الحلقة (341)
تدبر الآيات من (20) الى (26) من سورة "المائدة" (ص 111)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(إِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
"بنى اسرائيل" يعنى أبناء اسرائيل، وإسرائيل هو لقب يعقوب -عليه السلام- ومعنى اسرائيل في لغتهم العبرية "عبد الله" اسرا يعنى عبد، لأن الذي يؤخذ اسيرًا كان يصبح عبدًا عند من أسره، و"إيل" يعنى الله.
في التوراة المحرفة اسرائيل يعنى "مصارع الرب" فهم يقولون أن يعقوب صارع الله، وهذا من تحريفهم الواضح، وكفرهم واجترائهم على الله تعالى.
وكان يعقوب أو اسرائيل –عليه السلام- يعيش مع أسرته في قرية في منطقة الخليل في فلسطين حاليًا، وكان له من الأبناء اثنى عشر ولدًا، وكان منهم نبي الله يوسف –عليه السلام- وحقد اخوة يوسف عليه وقرروا التخلص منه والقائه في البئر، وانتهت قصة يوسف بأن أرسل يوسف في طلب أبيه وأمه وأخوته الإحدى عشر من منطقة الشام الى مصر، يقول تعالى على لسان يوسف (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ)
وكان دخول يعقوب أو اسرائيل وأبناءه الى مصر في زمن الهكسوس، الذين احتلوا شمال مصر، حوالى مائة عام.
وعاش بنو اسرائيل في مصر في كنف يوسف–عليهالسلام- وبعد وفاة يوسف معززين مكرمين، حتى تمكن المصريون في الجنوب بعد سنوات طويله من المعارك من طرد الهكسوس، فلما تم طرد الهكسوس انقلب المصريون على بنى اسرائيل واتخذوهم عبيدًا لهم وعذبوهم، وكانت حجتهم في ذلك أنهم كانوا يتعاونون مع الهكسوس، واستمر هذا التعذيب والاضطهاد والعبودية لبنى اسرائيل سنوات طويلة، حتى أرسل الله موسي –عليه السلام-
وكانت دعوة موسي أمرين: أولًا أن يدعو فرعون وقومه الى عبادة الله وحده، والأمر الثاني أن يخرج ببنى اسرائيل من أرض مصر الى بيت المقدس بالشام لتكون هي ديارهم وأرضهم، وهذه الأرض هي أرضهم التي جاؤوا منها في زمن نبي الله يعقوب
ورفض فرعون التوحيد، كما رفض خروج بني اسرائيل من مصر، لأن المصريين كانوا يعتبرون بنى اسرائيل عبيدًا لهم، وكانوا معتمدين عليهم في أكثر الأعمال الشاقة، وانتهت المواجهة –كما نعلم- بين موسي -عليه السلام- وبين فرعون، بغرق فرعون وجنوده، ونجاح موسي وبنى اسرائيل في اجتياز ما يطلق عليه اليوم "خليج السويس" ووصوله الى أرض شبه جزيرة سيناء.
وبعد غرق فرعون وجنوده، أصبح هناك في مصر–ما يطلق عليه في اصطلاح السياسة- فراغ سياسي وفراغ عسكري، فعاد موسي ومن معه من بنى اسرائيل الى داخل أرض مصر مرة أخري، يقول تعالى في سورة الشعراء (فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ) وقيل أن موسي حكم مصر في هذه الفترة، وأطلق على هذه الدولة "الدولة الموسوية"
وهذه النظرية التاريخية ليس لها ما يدعمها من آثار أو نقوش لأن المصريين كانوا يسجلون انتصاراتهم فقط، وكان مواجهتهم مع موسي –عليه السلام- وبنى اسرائيل هزيمة مريرة للمصريين، ولذلك تجاهلت الآثار المصرية هذه الفترة تمامًا، بل تجاهلت ذكر موسي تمامًا.
ثم خرج موسي مع بنى اسرائيل مرة ثانية، ولكنه لم يخرج مطاردًا هذه المرة، ولكنه خرج امتثالًا لأمر الله تعالى بدخول الأرض المقدسة لتكون هي ديار وارض بنى اسرائيل، وكانت أعداد بنى اسرائيل عندما خرجوا من مصر –كما في التوراة- 600 ألف نفس.
وكان بنو اسرائيل مقسمين الى اثنى عشر سبطًا، أي اثنى عشر قبيلة، وكلمة "سبط " يعنى ابن البنت، فكان كل سبط أو قبيلة هم ذرية ابن من أبناء يعقوب–عليه السلام- وكان ابناء يعقوب اثنى عشر، ولذلك كان عدد الأسباط اثنى عشر، وأمر الله موسي –عليه السلام- أن يجعل على كل سبط من أسباط بنى اسرائيل نقيبًا، أي مسئولًا عنها.
فلما كان بنو اسرائيل قريبين من بيت المقدس أرسل موسي –عليه السلام- هؤلاء النقباء الاثني عشر ليتحسسوا ويطلعوا على أحوال ساكني بيت المقدس، يقول تعالى (وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ بَنِيۤإِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ ٱثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) فلما ذهبوا وجدوا أن ساكني بيت المقدس من الكنعانيين في غاية القوة والبطش وعظم الأجسام، وكان يطلق عليهم "العماليق" فرجعوا الى قومهم، ونصح عشرة منهم قومهم بعدم القتال، وقالوا لهم (إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ) ونصح اثنان من النقباء قومهم بطاعة نبيّهم موسى وبقتال الكنعانيين معه، وهما: "يوشع بن نون" و"كالب بن يوقنّا"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (إِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)
(إِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ)
مخاطبة موسي لبنى اسرائيل (يَا قَوْمِ) فيها تلطف لبنى اسرائيل
(اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ (يعنى تذكروا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، واشكروا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بطاعته فيما سآمركم به.
(إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ)
والمقصود بالأنبياء هو موسي نفسه وأخيه هارون وقبل موسي وهارون هناك يعقوب ويوسف وأيوب وذو الكفل ويونس وغيرهم من الأنبياء الذين جائوا قبل موسي –عليه السلام-
يقول الرسول ﷺ"كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي" تسوسهم الأنبياء يعنى تقودهم الأنبياء و"كلما هلك نبي خلفه نبي" وربما كان أكثر من نبي في الوقت الواحد.
(وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا) يعنى جَعَلَكُمْ مُلُوكًا تملكون أمر أنفسكم، أي أحرارًا بعد أن كنتم عبيدًا للمصريين.
وأيضًا جَعَلَكُمْ مُلُوكًا على مصر بعد غرق فرعون، يقول تعالى (فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ )
(وَآَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) يعنى آَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ عالمي زمانهم مثل: فلق البحر، وإغراق العدوّ، وتظليل الغمام، واخراج الماء من الحجر، وإنزال المنّ والسلوى، وغير ذلك من الأمور والعجائب
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)
(يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ)
الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ هي بيت المقدس وما حولها، من فلسطين وأجزاء من سوريا والأردن.
و(الْمُقَدَّسَةَ) يعنى المطهرة المباركة.
(الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) يعنى الله –سبحانه وتعالى- كتبها لكم في قضاءه وقدره في اللوح المحفوظ، أي أن هناك وعد أكيد من الله لكم بالنصر ودخول الأرض المقدسة.
أو (كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) يعنى أمركم وفرض عليكم دخولها.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
واليهود يحتجون بهذه الآية في أن فلسطين ملك لهم لأن الله تعالى (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) ونقول أن الله تعالى قد كتب الأرض المقدسة لبنى اسرائيل لأن بنى اسرائيل هم الذين كانوا يحملون راية التوحيد في الأرض في ذلك الوقت، فلما جاء الاسلام أصبح المسلمون هم الذين يحملون راية التوحيد في العالم، وأصبحت الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ حق لهم بل فرض عليهم أن تكون لهم، كما فرض الله على بنى اسرائيل أن تكون لهم.
والى هذا كانت الاشارة الواضحة في رحلة الاسراء والمعراج، فالرسول ﷺ لم يعرج به الى السماء من مكة، ولكن اسري به من مكة الى بيت المقدس، ثم صلى بجميع الأنبياء أمامًا في بيت المقدس، ثم عرج به الى السماء من بيت المقدس، وكل ذلك اشارة واضحة، الى أن الأمة الاسلامية تسلمت راية التوحيد وتسمت قيادة العالم من الأمم السابقة، لأن القدس مقدسة عند أهل جميع الديانات الثلاثة.
(وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ)
الارتداد هو الرجوع للخلف، والدبر هو الظهر
والمعنى اياكم أن تجبنوا عن القتال وتحاولوا العودة الى أرض مصر التي خرجتم منها.
(فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ) فتعودون بالخسران في الدنيا والآخرة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)
رفض بنو اسرائيل الامتثال لأمر موسي بعد أن خوفهم النقباء العشرة من ساكني بيت المقدس، و(قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ) وهم الكنعانيين ساكني البيت المقدس، وكان يطلق عليهم "العمالقة"
و(جَبَّارِينَ) جمع جبار، وهو طويل القامة القوى العاتى، الذي يجبر غيره على ما يريد.
وكانت العرب تقول " نخلة جبارة" أي طويلة.
وروي أنهم أخذوا يبكون ويقولن "كنا عبيدًا للمصريين أسهل من قتال هؤلاء"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ)
يعنى طالما أنك نبي ولك معجزات، اجعلهم يَخْرُجُوا من القرية بأي سبب من الأسباب بلا قتال، ثم ندخلها نحن بعد ذلك.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)
(قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ) يعنى قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ الله –عز وجل-
والرجلان هما اثنين من النقباء، اللذان أرسلهما موسي للاطلاع على ساكني بيت المقدس، وهما "يوشع بن نون" و"كالب بن يوقنا" فأما "يوشع بن نون" فهو الذي قاد بنى اسرائيل بعد موت موسي، وهو فتى موسي في قصة الخضر، وهو الذي جاءته النبوة بعد وفاة موسي، وقاد بنى اسرائيل بعد وفاة موسي.
وأما "كالب بن يوقنا" فقد كان زوج أخت موسي، وكان اسمها "مريم"وهو الذي قام بأمور بني إسرائيل بعد موت "يوشع بن نون" وقيل أنه كان نبيًا وقيل انه كان رجلًا صالحًا.
(أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا) أي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا بالإيمان وبالشجاعة وعدم الخوف.
كما قيل "أعظم كرامة لزوم الاستقامة"
أو (أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا) بعد ذلك بالنبوة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ) أي باب المدينة
(فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ) قالوا ذلك ثقة بوعد الله لهم، لأن الله تعالى وعدهم بالنصر، لأن موسي قال لهم (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ)
(وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)
وقدم المفعول به (وَعَلَى اللَّهِ) للاختصاص يعنى على الله وحده
وقوله تعالى (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) يعنى اذا لم تتوكلوا على الله في هذا الأمر فان ذلك مرجعه هو ضعف ايمانكم.
وقيل أنهما لما قالا ذلك كاد بنو اسرائيل أن يفتكوا بهما، وقالا لهما: نصدّقكما وندع قول عشرة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وهناك قراءة، وهي ليست قراءة سبعية (قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يُخَافُونَ) بضم الياء، وعلى هذه القراءة ذهب بعض المفسرون الى أن المعنى: قال رَجُلَانِ من الكنعانيين (مِنَ الَّذِينَ يُخَافُونَ) يعنى مِنَ الَّذِينَ يخاف منهم بنو اسرائيل (أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا) أي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا بالإيمان.
يعنى هناك رجلان من الكنعانيين جائوا الى موسي وآمنوا به وانضموا الى صفوف بنى اسرائيل، ثم نصحوهم وقالوا لهم (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ) يعني شجعوهم على القتال، وقالوا لهم أن أجسام أعدائهم من الكنعانيين العماليق ضخمة ولكن قلوبهم ضعيفة وجبناء
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)
كانت هذه هي نهاية المناقشة بين موسي من جهة وبنو اسرائيل من جهة أخري، يعنى كانت هناك مناقشات كثيرة وأحذ ورد حتى انتهت هذه المناقشة بهاذا الرد الذي يحمل كل معاني الجبن والتخاذل والضعف والعصيان وسوء الأدب
ندائهم لنبيهم باسمه فيه سوء أدب، وهكذا كانوا يخاطبون الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيقولون له: يا محمد، وقولهم (أَنْتَ وَرَبُّكَ) ولم يقولوا "وَرَبنا" فيه سوء أدب.
أكد بنو اسرائيل امتناعهم عن القتال بثلاثة مؤكدات وهي:
إن، ولن، وكلمة أبدا، (إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا)
ثم أكدوا مرة أخري امتناعهم عن القتال فقالوا (إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)
وقولهم (مَا دَامُوا فِيهَا) يعنى العيب ليس فينا، ولكن فيك أنت يا موسي، لأنك كان يجب أن تأتي بمعجزة من السماء فيخرجوا من غير قتال، ثم ندخل نحن.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وفي يوم بدر عندما استشار الرسول ﷺالصحابة في قتال قريش وكان عدد المسلمون 313 وعدد المشركون حوالى الألف، وكانوا بكامل سلاحهم وعتادهم، والمسلمون لا يحملون الا سلاح المسافر فقط، وقال الرسول ﷺ"أشيروا على أيها الناس" فقام أبو بكر فأحسن، وقام عمر فأحسن ثم قام المقداد وقال: يا رسول الله نقاتل عن يمينك وعن شمالك ومن أمامك ومن خلفك، فوالله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى:(فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاۤ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) ولكن نقول لك: "إذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون".
يقول عبد الله بن مسعود "فسر النبي حتى أشرق وجهه"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)
قد يكون موسي –عليه السلام- قد قال هذا الدعاء في مواجهته مع بنى اسرائيل، وسمعه بنو اسرائيل، وقد يكون دعاء بينه وبين الله تعالى.
(قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) لأن أخيه هارون نبي، والنبي معصوم، وهذا من دقة الصدق في الحديث الى الله تعالى.
(فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)
يعنى افصل بيننا فاذا أنزلت عليهم عقابك فلا تشملنا معهم في هذا العقاب
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
هنا وقف متعانق، يعنى: اذا وقفت على الأولى لا تقف على الثانية واذا وقفت على الثانية لا تقف على الأولى.
وكل وقف يعطي معنى مختلف:
لو وقفت على الأولى وقلت (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) يعنى دخول الأرض المقدسة محرم الى الأبد على الذين خاطبهم موسي ودعاهم الى القتال، ثم رفضوا القتال وردوا عليه هذا الرد.
أما اذا وقفت على الثانية وقلت (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً) أي دخول الأرض المقدسة محرم عليهم أَرْبَعِينَ سَنَةً فقط ثم يمكنهم دخول الأرض المقدسة بعد ذلك.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ)
يعنى في هذه الأربعون سنة يضلون في الأرض، وهي من التيه، وهي الحيرة.
كما نقول "مالك تايه" يعنى متحير.
فكانوا يظلون يسيرون طوال النهار أو طوال الليل، ثم يجدون أنفسهم في نهاية الأمر عند نفس النقطة التي انطلقوا منها.
وهذه كانت عقوبة لهم في الدنيا على رفضهم القتال والامتثال لأمر الله تعالى وأمر نبيهم.
والحكمة في هذا التيه لهذه المدة –كما يقول ابن خلدون في مقدمته- حتى يفنى هذا الجيل الذين خرج من قبضة الذل والقهر والمهانة، وينشأ في هذا التيه جيل آخر عزيز لا يقبل القهر والذل والمهانة.
ثم قال ابن خلدون أن أقل ما يأتي فيه فناء جيل ونشأة جيل هو أربعون سنة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وقد يكون بنو اسرائيل حاولوا بعد رفضهم قتال الكنعانيين أن يرجعوا الى أرض مصر التي خرجوا منها، لأن معنى التوهان أنه يريد المرء أن يصل الى مكان معين ولكنه لا يستطيع أن يصل اليه، ومن الطبيعي بعد أن تراجعوا عن دخول الأرض المقدسة التي خرجوا لفتحها أن يعودوا الى المكان الذي خرجوا منه وهو أرض مصر.
وقد يكون الله تعالى قد خاطب بنى اسرائيل من خلال نبيهم موسي فقال تعالى (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) ولم يخاطبهم بقوله (أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) وانما هذا من اخبار الله لموسي –عليه السلام- واخبار الله لنا مما كتب عليهم، لأنهم لو علموا أن الله قد كتب عليهم أن يتيهون أَرْبَعِينَ سَنَةً لما تحركوا من مكانهم وما حالوا الوصول الى النقطة التي أرادوا الوصول اليها وهي أرض مصر.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) يعنى فلا تحزن عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ.
أشد الناس رأفة بأي أمة هو نبي هذه الأمة، كما قال تعالى عن الرسول ﷺ (عزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) ولذلك يواسي الله تعالى نبيه موسي، ويقول له لا تحزن على هؤلاء فانهم قوم فاسقين، وأنهم يستحقون هذه العقوبة من الله تعالى
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
هناك مسألة: كيف يقول تعالى في هذه الآية (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً) مع أن الله تعالى قد وعدهم هذه الأرض فقال تعالى في آية سابقة (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ)
والرد: أن قوله تعالى (الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) يعنى فرض عليكم دخولها، وعلى المعنى الآخر كتبها الله لكم يعنى كتبها لبنى اسرائيل، ليس شرطًا الذين يخاطبهم موسي ولكن تشمل الذين سيأتون بعدهم.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول الامام "محمد عبده" في ختام تفسيره لهذه الآيات:
إن الشعوب التي تنشأ فى مهد الاستبداد والظلم والاضطهاد، تفسد أخلاقها، وتذل نفوسها، وإذا طال عليها أمد الظلم تصير هذه الأخلاق موروثة ومكتسبة، حتى تكون كالغرائز الفطرية، وإذا أخرجت صاحبها من بيئتها، ألفيته ينزع بطبعه إليها ويتفلت منك ليقتحم فيها.
لقد أفسد ظلم فرعون فطرة بنى إسرائيل، وطبع عليها بطابع المهانة والذل، ولذلك عندما امرهم الله تعالى بدخول الأرض المقدسة لم تطاوعهم أنفسهم المهينة على دخول أرض الجبارين، فعاقبهم الله بالتيه أربعون سنة، حتى يهلك ذلك الجيل الذى نشأ في الوثنية والعبودية، وينشأ بعده جيل جديد في حرية البداوة، وعدل الشريعة، ونور الآيات الإِلهية.
فعلينا أن نعتبر بهذه الأمثال التى ضربها الله لنا، وأن نعلم أن إصلاح الأمم من بعد فسادها بالظلم والاستبداد إنما يكون بإنشاء جيل جديد جمع بين حرية البداوة واستقلالها وعزتها، وبين معرفة الشريعة والفضائل والعمل بها.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
لِمُطَالَعَة بَقِيَةِ حَلَقَات "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم"
لِمُشَاهَدَة حَلَقَاتِ "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم" فيديو
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
|