تَدَبُر القُرْآن العَظِيم
الحلقة (382)
تدبر الآيات من (14) الى (18) من سورة "الأَنْعَام" (ص 129)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
قلنا أن المقصد الأساسي لسورة "الأنْعَام" هو تركيز العقيدة الاسلامية، وفي سبيل ذلك فان سورة "الأنعام" تناقش وتحاج وتواجه المشركين، وهؤلاء المشركون يؤمنون بوجود الله تعالى، ولكنهم يشركون معه في العبادة آلهة أخري، فيقول تعالى في هذه الآية الكريمة مخاطبًا مشركي قريش:
(قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)
(قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) الولي لغة: هو القريب والمحب والناصر.
يقول تعالى (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) وهذا سؤال تقريري استنكاري، يعنى قُلْ يا محمد لهؤلاء المشركين: أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ إلهًا معبودًا، قريبًا محبًا ناصرًا يتولى أمري ؟
(فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ) وقد تكرر قوله تعالى (فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ) في القرآن ستة مرات، وهناك سورة اسمها سورة "فاطر"
معنى (فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: خالق السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، ولكن ما الفرق بين فاطر وبين خالق ؟ نقول أن فَاطِرِ أو خالق يعنى الايجاد من عدم.
ولكن كلمة فاطر تشتمل على معنى آخر يزيد على الايجاد من عدم، فكلمة "فطر" في اللغة تعنى: شق الشيء.
يقول ابن عباس: كنت لا أدري ما فاطر حتى اختصم إليّ أعرابيان في بئر، فقال أحدهما: أنا فَطَرْتُهَا، يعنى أنا الذي ابتدأت شقها وحفرها.
ومنه قول الله تعالى (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ) يعنى انشقت، وقوله تعالى (تَكَادُ السَّـمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ) أي يتشققن، وقوله تعالى (هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ) يعنى شقوق.
وهكذا فان قوله تعالى (فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ) يعنى خالق السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، ولكنها تعنى أيضًا أن السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ في بداية الخلق كانت شيئًا واحدًا ثم انشقت بعد ذلك.
وهذه هي النظرية التي استقر عليها العلماء أخيرًا عن بداية الكون، وهي نظرية "الانفجار العظيم" أو "الانفجار الكبير" أو Big band والتي تقول أن هذا الكون كان كتلة واحدة شديدة الكثافة، ثم انفجرت وتباعدت أجزاؤها لتكون الكون الموجود الآن.
وهذه النظرية ذكرت بدقة في قوله تعالى في سورة الأنبياء (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا)
ولذلك كانت هذه الجملة المعجزة والتي تكررت ستة مرات في القرآن العظيم، وهي قول الله تعالى (فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ) يعنى خالق السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وموجدها ومبدعها على غير مثال سابق، وتعنى في نفس الوقت أن السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ في بداية الخلق كانت شيئًا واحدًا ثم انشقت بعد ذلك.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ)
يعنى وَهُوَ تعالى يُطْعِمُ خلقه ولا يطعمه أحد، وما دام أن الله تعالى يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ، فجميع المخلوقات تحتاج الى الله، وهو تعالى لا يحتاج الى أحد.
ولذلك عندما احتج القرآن العظيم على النصاري في قولهم أن المسيح وأمه السيدة مريم آلهة، قال تعالى ( كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ) يعنى طالما أنهما يأكلان الطعام فهما في حاجة الى غيرهما، واذا كانا في حاجة الى غيرهما فانهما لا يمكن أن يكونا آلهة.
(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) قُلْ –يا محمد- لهؤلاء المشركين (إِنِّي أُمِرْتُ) يعنى أمرني ربي (أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) يعنى: أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ استسلم لله تعالى، وخضع له بالعبودية، أي من هذه الأمة التي بعث اليها الرسول ﷺ
(وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي وقيل لي: وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
أي قُلْ يا محمد لهؤلاء المشركون إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ الله في الدنيا عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ، أي يَوْمٍ عَظِيمٍ الأهوال، وهو يوم القيامة
وهذا فيه أشد التخويف لهؤلاء المشركون من يوم القيامة، فاذا كان النبي ﷺ وهو نبي مرسل، يخاف من العذاب اذا عصى الله تعالى، فكيف بمن أشركوا مع الله آلهة أخري.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
يعنى مَنْ يَصْرَفْ الله عَنْهُ العذاب يوم القيامة فَقَدْ رَحِمَهُ.
كأن العذاب يكون مقبلا على العبد يوم القيامة، والله تعالى هو الذي يصرف هذا العذاب عن عبده المؤمن برحمته.
وهذا مثل قوله تعالى في سورة آل عمران (فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ)
وقوله تعالى في سورة الملك (إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُور) والشهيق –كما نعلم- قوة تسحب الهواء الى داخل الصدر، فأخبرنا تعالى أن جهنم لها شهيق يسحب الذين وقع عليهم الأمر بالعذاب.
(وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) يعنى ذَلِكَ الْفَوْزُ الحقيقي، وهو النجاة من النار ودخول الجنة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ) كالمرض أو الفقر أو غير ذلك.
(فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) لا يقدر على كشفه الا الله تعالى، لا هذه الآلهة التي يعبدونها من دول الله ولا غيرها.
(وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ) كالصحة والغنى وغير ذلك.
(فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فَهُوَ تعالى القادر عَلَى ايصال هذا الخير لك، وهو القادر على ادامته.
وهذا دليل آخر على أنه لا يجوز للعاقل أن يتخذ غير الله ولياً، ودليل على ضعف عقول من يشرك بعابدة الله ألهه أخري، وهي لا تملك أن تنفع أحد أو تضر أحد ، ولا تملك حتى ان تنفع نفسها أو تدفع الضر عن نفسها.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وقد ذكر الرسول ﷺ هذا المعنى في الحديث الصحيح الذي روي عن "عبد الله بن عباس" كنت رديف رسول الله ﷺ فقال لي يا غُلامُ إنِّي أعلِّمُكَ كلِماتٍ: احفَظِ اللَّهَ يحفَظكَ، احفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تجاهَكَ ، إذا سأَلتَ فاسألِ اللَّهَ ، وإذا استعَنتَ فاستَعِن باللَّهِ ، واعلَم أنَّ الأمَّةَ لو اجتَمعت علَى أن ينفَعوكَ بشَيءٍ لم يَنفعوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ لَكَ ، وإن اجتَمَعوا على أن يضرُّوكَ بشَيءٍ لم يَضرُّوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ عليكَ ، رُفِعَتِ الأقلامُ وجفَّتِ الصُّحفُ .
وفي الصحيح: أن رسول الله ﷺ كان يقول في دعائه: "اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت"
وكان على –رضى الله عنه- يقول "اطلبوا الحاجات بعزة نفس فان بيد الله قضاءها"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
روي أن الحجاج عندما أراد أن يقتل سعيد بن جبير قال له: والله لأبدلنك بدنياك ناراً تلظى. قال سعيد: لو أعلم أن بيدك ذلك لاتخذتك إلهاً.
دخل الخليفة الأموي "هشام بن عبد الملك" الى الكعبة، فرأي بسالم بن عبد الله بنعمر بن الخطاب، فقال له: سلني حاجة. قال: إني أستحيي من الله أن أسأل في بيته غيره. فلما خرجا، قال: الآن فسلني حاجة. فقال له سالم: من حوائج الدنيا، أم من حوائج الآخرة؟ فقال: من حوائج الدنيا. قال: والله ما سألت الدنيا من يملكها، فكيف أسألها من لا يملكها؟)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول العلماء أن الله تعالى قد ذكر إمساس الضر على ذكر إمساس الخير، اشارة الى أن الشر يكون بعده ان شاء الله الخير والسلامة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
لم يقل تعالى (وَإِنْ يصبك اللَّهُ بِضُرٍّ) وانما قال (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ) والمس يعنى شيء يسير.
لأن العبد لا يتحمل أن يضره الله تعالى، لأن قوة الله غير متناهية.
حتى في جانب الخير قال تعالى (وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ) لأن العبد المؤمن لا ينال كل الخير في الدنيا، وانما ينال مس الخير، أما الخير كله فمدخر في الآخرة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)
(الْقَاهِرُ) يعنى الغالب المقتدر.
يقول ابن كثير في تفسيره "هو الذى خضعت له الرقاب، وذلت له الجباه. وعنت له الوجوه، وقهر كل شىء، ودانت له الخلائق، وتواضعت لعظمة جلاله وكبريائه الأشياء، وتضاءلت بين يديه وتحت قهره وحكمه".
فالله تعالي قهر جميع خلقه، بحاجتهم الى الطعام، وحاجتهم الى الماء، وحاجتهم الى الهواء، وقهرهم بالمرض، وقهرهم بالموت، وقهرهم تعالى بقدره فلا يستطيع أحد يرد قدره تعالى.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)
أي (الْحَكِيمُ) في أمره (الْخَبِيرُ) بأعمال عباده.
وقد ذيل الله تعالى الآية بقوله (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) ليدل على أن قهره تعالى ليس قهر استعلاء وبطش، وانما قهر بحكمة وعلم.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
لِمُطَالَعَة بَقِيَةِ حَلَقَات "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم"
لِمُشَاهَدَة حَلَقَاتِ "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم" فيديو
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
|