الحلقة رقم (444)
تفسير وتدبر الآيات من (59) الى (64) من سورة "الأَعْرَاف" (ص 158)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
تبدأ السورة الكريمة في هذه الآيات في ذكر قصص بعض الأمم الخالية والقري المُهْلَكَة والتي جاء ذِكْرُها في مطلع السورة، في قول الله تعالى (وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ) فتتحدث السورة عن مصارع قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب، ثم حديثا مستفيضا عن قصة موسى مع فرعون ومع بنى إسرائيل.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وهذه القصص فيها تهديد وتخويف للمكذبين بالرسل، وفيها تثبيت لقلب الرسول ﷺ وقلوب أتباعه من المؤمنين، لأنها تقص عليهم أن كل رسالة سماوية، وكل دعوة من دعوات الله تعالى لأهل الأرض لابد أن تلقي عنتًا وتضيقًا وايذاءًا، فكل ما يمر به الرسول ﷺ ويمر به المؤمنون معه من عنت وايذاء وتضييق وتعذيب، هو امر خبره ومر به جميع رسل الله -تعالى- وأتباعهم من المؤمنين.
وهذه القصص ليست فقط لتثبيت قلب الرسول ﷺ وصحابته المعاصرين له، ولكنها تثبيت لقلوب جميع المؤمنين في كل زمان ومكان، لأن الصراع بين الحق والباطل صراع مستمر الى يوم القيامة، وايذاء أتباع الشيطان في الأرض لأهل الحق هو أمر مستمرٌ الى يوم القيامة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)
(لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ)
اللام لام القسم، كأن الله تعالى يقول: وعزتي وجلالي َقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ، و(قَوْمِهِ) يعنى من يعيش معهم.
ونوح -عَلَيْهِ السَّلامُ- هو أول نبي أرسل بعد ادريس -عَلَيْهِ السَّلامُ- وقيل أن ادريس هو جد نوح، ونوح -عَلَيْهِ السَّلامُ- هو واحد من أولى العزم الخمسة من الرسل، ومن فضله انه ذكر في القرآن الكريم في ثلاث وأربعين موضعا.
يقول ابن عباس: بُعث نوح وهو ابن أربعين سنة، وقيل خمسين سنة، وقيل أكثر، وكان يعمل نجارًا، وسمي نوحاً لكثرة ما ناح على نفسه.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
واستمر نوح -عَلَيْهِ السَّلامُ- في دعوته الى قومه ألف سنة الى خمسين عامًا، ثم كان الطوفان، وعاش نوح بعد الطوفان ستين سنة، وجميع الخلق الآن من ذرية نوح -عَلَيْهِ السَّلامُ- كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره، ولذلك يطلق على نوح الأب الثاني للبشرية، ويطلق عليه آدم الأصغر، كما يطلق عليه شيخ الأنبياء.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وأسوأ جيل عرفته البشرية هو جيل نوح -عَلَيْهِ السَّلامُ- لأن كل ما في العالم الآن من شرور وجرائم هو بعد أن نقي الله تعالى البشرية من الكافرين من قوم نوح، قال تعالي يقارن قوم بغيرهم منن كفار الأمم الأخري (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى) ولو لم يحدث الطوفان وتنقية الله تعالى البشرية من هذه الجينات الخبيثة لكانت الحياة على الأرض جحيمًا لا يطاق.
ومع ذلك فقد عاش نوح -عَلَيْهِ السَّلامُ- هذا الجحيم وواجه هذا الجيل الأسوأ في تاريخ البشرية، وكان –عليه السلام- حليمًا صبورًا، وتحمل هذا العبأ الثقيل لمدة تسعمائة وخمسون سنة، وهي مدة دعوته لقومه، فلم يلق نبي من الأذى من قومه مثل ما لقيه نوح من قومه، ولذلك استحق نوح -عَلَيْهِ السَّلامُ- أن يكون واحد من خمسة من أولى العزم من الرسل –صلوات الله وسلامه عليهم جميعًا-
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)
كان قوم نوح يعبدون الأصنام، وكانوا أول من عبد الأصنام على وجه الأرض، وذلك أنهم كان فيهم قومًا صالحين وماتوا، فجعلوا لهم تماثيل حتى يتذكروا حالهم ويتشبهوا بهم، فلما طال الزمان عبدوا هذه الأصنام، وسموها بأسماء أولئك الصالحين والذين ورد ذكرهم في سورة نوح: وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسرا، ثم بعث الله - تعالى – إليهم نوحًا فأمرهم بنبذ عبادة الأصنام وعبادة الله وحده.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)
دعا نوح -عَلَيْهِ السَّلامُ- قومه الى ثلاثة أمور، وهي أساسيات العقيدة في أي رسالة سماوية: أولًا: وجود الله تعالى ووجوب طاعته (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ) وثانيًا: أنه إله واحد لا شريك له (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) وثالثًا: أن هناك يوم جزاء، وفيه ثواب وعقاب (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)
وقول نوح (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) وهذا فيه تلطف في مخاطبة قومه.
وقوله تعالى (عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) المقصود به اما عَذَابَ يَوْمٍ القيامة، أو أن الله تعالى قد أعلم نوح -عَلَيْهِ السَّلامُ- بأنه سيهلكهم ويستأصلهم ان أصروا على تكذيبه، لأن هذا أمر لم يحدث قبل نوح، فيكون المقصود باليوم العظيم هو يوم الإغراق.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60)
هذا هو رد قوم نوح عليه
(قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ( (الْمَلَأُ) هم القادة والأشراف والكبراء، سموا بذلك لأنهم يملئون العين بهيئتهم وزينتهم، ويملئون القلوب بهيبتهم.
(إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) يعنى نحن نراك يا نوح فِي ضَلَالٍ بين وواضح.
وهذا هو حال شياطين الانس في كل وقت أنهم يستخدمون الدعاية المضلة، ويتهمون أهل الحق بما هم فيه، يعنى هم في ضلال، ويتهمون أهل الحق بأنهم (فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) كما قال كفار مكة عن المؤمنين (وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ (إلى غير ذلك من الآيات.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61)
رد عليهم نوح -عَلَيْهِ السَّلامُ- في رفق وصبر وحلم وتلطف وسعة صدر.
(يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ) وقال (ضَلَالَةٌ) بالمفرد ولم يقل (ضَلَالٍ) بالجمع، وهذا أبلغ في النفي، يعنى ليس بي شيء من الضلالة.
كمن قيل له: هل عندك تمر، فرد: ما عندي تمرة.
(وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
يعنى حقيقة أمري أني (رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) وطالما رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ يعنى أنا على هدي وليس على ضلالة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)
(أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي) يعنى وهذه هي وظيفتي كرسول أن أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ الله تعالى اليكم.
(وَأَنْصَحُ لَكُمْ)
النصح هو الارشاد الى ما فيه الصلاح وما فيه المصلحة.
ولم يقل أنصحكم، وانما قال (أَنْصَحُ لَكُمْ) لأن أنصحكم يحتمل أن يكون فيها نفع لى ونفع لكم، فتكون نصيحة متهمة، ولكن (أَنْصَحُ لَكُمْ) يعنى هذه النصيحة ليس فيها نفع لى، وانما هي نصيحة خالصة يعود نفعها عليكم أنتم فقط.
(وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)
يعنى وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ من الأمور الغيبية التى لا يعلمها الا أنبياء الله ورسله عن طريق الوحي.
ولذلك فأنتم في حاجة الىَّ- في حاجة الي رسول مثلي.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)
(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ) يعنى أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَتكُمْ الرسالات والوحي من الله تعالى على واحد مثلكم من البشر.
(لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)
(لِيُنْذِرَكُمْ) عذابه وعقوبته
(وَلِتَتَّقُوا) محارمه ومعصيه
(وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ولكي تُرْحَمُونَ بهذا الوحي.
والألف في (أَوَعَجِبْتُمْ) للإنكار والتوبيخ، يعنى لا ينبغي أن تتعجبوا من انزال الوحي عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ.
وقد ذكر القرآن الكريم في موضع آخر أن قوم نوح أنكروا من أن يختار الله تعالى رسولا منهم، فقال –تعالى-
(فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَآءَ الله لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً مَّا سَمِعْنَا بهذا في آبَآئِنَا الأولين)
ونفس هذه القضية أثارها كفار قريش، قال تعالى (بَلْ عجبوا أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الكافرون هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ)
وقد رد عليهم القرآن العظيم بالمنطق والعقل فقال تعالى (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ) يعنى لو أرسلنا ملكًا، لجاءهم هذا الملك في صورة بشرية حتى يستطيعون التعامل معه، (وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ) سيقولون عندئذٍ كيف نتأكد أنه ملك وليس بشر؟!
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64).
(فَكَذَّبُوهُ) فَكَذَّبُوا نوح -عَلَيْهِ السَّلامُ-
(فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ) فَأَنْجَيْنَا نوح من الغرق وَالَّذِينَ مَعَهُ من المؤمنين (فِي الْفُلْكِ) وهي السفينة.
وهؤلاء الذين كانوا مع نوح كان عددهم قَلِيلٌ جدًا، قال تعالى (وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ)
قيل أنهم كانوا ثمانين رجلًا وامرأة، وقيل أربعين رجلًا وامرأة.
وقيل كان عددهم عشرة رجال مع زوجاتهم وأبنائهم، وهؤلاء الرجال العشرة هم: نوح وأبنائهم الثلاثة (سام وحام ويافث) وهؤلاء جاء منهم كل البشر، ثم ستة رجال مؤمنين آخرين.
فتوطن (سام) بلاد آسيا، و(حام) افريقيا، و(يافث) أوروبا.
(وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا) أي بالطوفان
(إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ) أي عَمِينَ عن الحق، فلا يرون الحق.
ولفظ (عَمِينَ) خاص بعمي القلوب والبصائر.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
لِمُطَالَعَة بَقِيَةِ حَلَقَات "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم"
لِمُشَاهَدَة حَلَقَاتِ "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم" فيديو
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
|