Untitled Document

عدد المشاهدات : 1276

الحلقة (446) من "تَدَبُرَ القُرْآنَ العَظِيم" تفسير وتدبر الآيات من (73) الى (79) من سورة "الأَعْرَاف" (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ….

الحلقة رقم (446)
تفسير وتدبر الآيات من (73) الى (79) من سورة "الأَعْرَاف" (ص 159)

                

(وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) 
        

تحدثنا في الآيات السابقة عن قوم عاد، وقلنا إن الله تعالى أرسل إليهم "هود" عليه السلام نبيًا، فلم يؤمن معه الا القليل، فلما أصروا على الكفر، أرسل الله تعالى عليهم ريحًا شديدة فاستأصلنهم عن آخرهم، ونجي الله هود عليه السلام ومن آمن معه.
تحرك هود عليه السلام -بعد ذلك- ومن معه من المؤمنين الى مكة المكرمة، وقد ورد في الأثر أنه ما عوقب قوم الا ولجأ نبيهم بمن آمن معه الى مكة، وعاش هود في مكة حتى مات ودفن هناك.

بعد قوم (عاد) جاء قوم (ثمود) وهم من نسل من نجا من المؤمنين من قوم (عاد) ولذلك يطلق على (ثمود) عاد الثانية، ويطلق على عاد ارم "عاد الأولى" 
عاش قوم "ثمود" في مكان في شمال غرب المملكة العربية السعودية، وهذا المكان يطلق عليه اسم (الْحِجْرِ) وهناك سورة في القرآن اسمها سورة (الْحِجْرِ) وقال تعالى عنهم (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ)
ويطلق على هذا المكان أيضًا "وادي القرم" وما زال المكان الذي كانوا يسكنونه يسمى بمدائن صالح إلى اليوم
أطلق على قوم "ثمود" هذا الاسم نسبة الى جدهم: ثمود بن غاثر بن إرم بن سام بن نوح

وكان قوم ثمود عمالقة الأجسام أقوياء، وكانت أعمارهم طويلة، فكان الرجل يبنى مسكنه فيهدم في حياته، فكانوا ينحتون بيوتهم في الجبال، وهذا يدل على قوتهم، بل كانوا من قوتهم يأتون الى بطن الوادي بكتل صخرية ضخمة، ويجعلونها مقرات للحكم.
وكان قوم ثمود أهل زراعة وماشية، وكانوا في سعة ورخاء من العيش، وكانوا في أول أمرهم على التوحيد، ولكنهم بمرور الوقت تركوا عبادة الله وحده، وعبدوا الأصنام، وأفسدوا في الأرض، فأرسل الله تعالى إليهم نبيهم (صالح) ليدعوهم الى ترك عبادة الأصنام وعبادة الله وحده، والكف عن الظلم والفساد 


        

يقول تعالى (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)
يعنى وأرسلنا إِلَى قوم (ثَمُودَ) نبي الله (صالح)
وقوله تعالى
(أَخَاهُمْ) يعنى واحد منهم، يعرفون نسبه ويعرفون أخلاقه وصدقه وأمانته. 
(قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) 
هذه هي أساس دعوة كل الأنبياء، وهي افراد الله بالعبادة.
(قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً)
طلب قوم "ثمود" من نبيهم "صالح" أن يأتي لهم بعلامة تدل على صدق نبوته، فقال لهم "صالح" عليه السلام: ما تريدون، فقام أحد اشرافهم وكان اسمه "مَخْدَعُ بْنُ عَمْرٍو" وأشار الى صخرة منفردة في ناحية الجبل، واسمها "الكاثبة" وقال له: أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة، وأن تكون هذه الناقة عشراء، (مضى على حملها عشرة أشهر) فأخذ عليهم صالح العهود والمواثيق ان فعل يؤمنوا بالله تعالى ويصدقوه، قالوا: نعم، فقام صالح وصلى ودعا الله تعالى، فتحركت الصخرة كما تتحرك المرأة عند الولادة، ثم انشقت وخرجت منها ناقة عظيمة عشراء.

الصخرة التي خرجت منها الناقة
        

فلما وقعت هذه المعجزة العظيمة، آمن "مَخْدَعُ بْنُ عَمْرٍو" نفسه الذي طلب هذه الآية، وآمن معه القليل من "ثمود" بينما ظل أكثرهم على الكفر.
        

قوله تعالى (قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً)   
(قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) يعنى: جَاءَتْكُم معجزة من الله تدل على صدق نبوتي.
(هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً) يعنى هذه الناقة (آَيَةً) يعنى علامة تدل على وجود الله تعالى ووحدانيته، لأنها لم تكن ناقة عادية، بل كانت هائلة الحجم، رائعة المنظر، فلم يكن لها مثيل بين الإبل، وكانت تسقي القبيلة كلها من لبنها، ولم يكن هناك ألذ ولا أحلى من لبنها.
        

انظر الى دقة الأداء: يقول تعالى (قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً)
(قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) يعنى معجزة مِنْ رَبِّكُمْ وهي خروج الناقة من الصخرة وعشراء كما طلبتم.
ثم قال (هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً) يعنى النَاقَةُ في حد ذاتها معجزة، وهي معجزة تتحرك أمام اعينكم وتعيش بينكم.
اذن صالح يقول لهم هناك معجزتان: معجزة خروج الناقة من الصخرة، وهي نفسها في خلقها معجزة.

        

وسماها (نَاقَةُ اللَّهِ) يعنى أضاف الناقة الى الله تشريفًا وتعظيمًا لشأنها، كما أضاف الله الكعبة اليه تعالى فقال "بيت الله" تشريفًا وتعظيمًا للكعبة، وفيها تحذير من أن يتجرأ عليها أحد، لأن من يتعرض لها فكأنه قد تعرض لله تعالى.
        

(فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ)
يعنى ليس عليكم من رزقها ولا مؤنتها شيء، وليس مطلوبًا منكم الا أن تتركوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ
في موضع آخر في سورة "الشعراء" يقول تعالى (هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) يعنى أخبر صالح قومه أن ماء البئر الذي تشرب منه القبيلة قسمة بينهم وبين الناقة، فالناقة لها يوم تشرب فيه من البئر، والقبيلة كلها هم ودوابهم لهم يوم يشربون منه، فكانت الناقة تشرب في يومها، ثم يحلبون منها في ذلك اليوم، فتسقيهم كلهم ويدخرون من لبنها الى يومهم التالي، حتى اذا كان الغد يشربون ويدخرون الى يوم الناقة، فهم من ذلك في سعة.

        

(وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) يعنى اياكم أن تُذْبَح هذه الناقة فان فعلتم فسينزل بكم عَذَابٌ أَلِيمٌ.
وقوله تعالى
(وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ) فيه مبالغة في التحذير، مثل اثنان في مشاجرة يقول أحدهما للآخر: اياك تلمسني
        

وهذا فيه قمة التحدي، فهذه الناقة هي ناقة الله، الذي أدعوكم الى الإيمان به، وهذه الناقة تفرض على جميع القبيلة أسلوب حياتها هي، فهي التي تحدد متى تشرب ومتى هم يشربون، ومتى يسقون دوابهم، والماء هو قوام حياة أي كائن حي، فكأنها تتحكم في أهم عنصر من عناصر الحياة. 
وهي مع ذلك مخلوق مسالم لا يستطيع أن يدافع عن نفسه، فاذا أراد أحدهم أن يذبحها ويتخلص منها فيمكنه أن يفعل ذلك، ومع ذلك تحداهم أن يذبحوها، وأخبرهم أنهم إذا تجرؤا على ذلك فسينزل بهم عقاب الله تعالى.
كأن صالح يخبرهم بانكم يا قوم ثمود أنتم في قرارة أنفسكم تؤمنون بالله تعالى، وتؤمنون بصدق نبوتي، والا ما خضعتهم لهذا التهديد الواضح.


        

(وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)
(وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ) 
يعنى وَاذْكُرُوا نعم الله عليكم في أن (جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ) يعنى جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ لعاد في أنكم الآن أقوي شعوب الأرض.
(وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) يعنى وأنزلكم واسكنكم في هذا المكان من الأرض، وهي من أخصب الأراضي في الجزيرة العربية الى الآن.
(تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا) يعنى أنتم في سعة من العيش ورخاء، حتى جعلتم لأنفسكم قصورًا في سهول الأرض، والقصر هو البناء الضخم المرتفع، وجعلتم لأنفسكم -الى جانب القصور- بيوتًا أخري تنحتونها داخل الجبال.
فقيل ان هذه القصور كانوا يسكنون فيها في الصيف، ويسكنون البيوت التي في الجبال في الشتاء، وهذا يدل على أنهم كانوا متنعمين مترفهين.

وقيل كانوا ينحتون الجبال لطول أعمارهم: قال وَهْبُ بنُ مُنَبِّهِ: كان الرجل منهم يبني البنيان، فتمر عليه مائة سنة، فيخرب، ثم يجدده، فتمر عليه مائة سنة، فيخرب، ثم يجدده، فتمر عليه مائة سنة، فيخرب، فأضجرهم ذلك، فأخذوا من الجبال بيوتاً. "حضارة عمرانية"


        

(فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ) 
يعنى فَاذْكُرُوا نعم اللَّهِ تعالى عليكم، وذكرها يكون بأن لا تستخدم نعمه تعالى في معصيته، بل تستعمل في طاعته تعالى.
        

(وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)
العَيْثُ: هو الفساد الشديد.
والمعنى: توقفوا عن ارتكاب المعاصي، وتوقفوا عن نشر الفساد في الأرض.

        

(قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75)
(الْمَلَأُ) هم السادة والرؤساء والأشراف، أطلق عليهم ذلك لأنهم يملئون العين بزينتهم وهيئتهم، ويملئون القوب بهيبتهم.
(قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) يعنى كان سبب كفرهم هو الكبر، ورفض أن يكونوا أتباعًا لغيرهم،  
(لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ) يعنى ليس كل المستضعفين آمنوا مع "صالح" ولكن الآية تقول إن الغالبية من أتباع صالح كانوا من المستضعفين.
وطالما أنهم مستضعفون فهذا يدل على أنهم لاقوا من هؤلاء الكفار المتكبرين الأذى والتعذيب ليفتنوهم عن دينهم، وهذا مثلما حدث مع فقراء المسلمين في مكة.

(أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ)
أنتم مصدقين أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ.
فهو استفهام بمعنى: الانكار والاستهزاء والاستخفاف

        

(قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) لم يكتفوا بأن يقولوا: نعم نعلم أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ، ولكنهم أرادوا أن يأكدوا ايمانهم ويقينهم بدعوة صالح، فقالوا: (إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ)
وهذا يدل على شجاعة هؤلاء الذين آمنوا مع صالح في الجهر بالحق، بالرغم من أنهم مستضعفون ومستذلون من هؤلاء المتكبرين

        

(قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) 
قابلوا تأكيد ويقين المؤمنين بدعوة صالح، بأن أكدوا كفرهم بدعوته -عليه السلام- وكفرهم بالله تعالى فقالوا (إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ)
ومن فصاحتهم -لأنهم عرب- لم يقولوا: إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ كَافِرُونَ، لأن ذلك يتضمن الاعتراف برسالة صالح، ولكنهم قالوا (إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ)
وإعادة قوله تعالى
(قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) تأكيد على أن الكبر هو الذي منعهم من اتباع صالح.
وكذلك كان صناديد قريش


        

(فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) 
(فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) يعنى قتلوا النَّاقَةَ.
والآية تبين كيفية قتل هذه الناقة العظيمة، لأن الجمل حيوان ذكي وقوي واذا اكتشف أن أحدًا يريد قتله فانه يغضب غضبًا شديدًا.
ولذلك فان الجزار اذا أراد ذبح جمل فانه يتحايل على الأمر ويخفي السكين.
يقول تعالى (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) وعقر الناقة يعنى ضربها بالسيف على عرقوبها، وهو مكان الركبة في قوائمها الخلفية.
فقيل أن أحدهم رماها بسهم، ثم جاء آخر فضربها بالسيف على عرقوبها، فلما سقطت، طعنها بالسيف في لبتها وهو اسفل رقبتها وأعلى صدرها. 
ومن ايجاز القرآن أنه لم يذكر الذبح، لأن ذبح الناقة معروف عند العرب، ولكن ذكر ما فعلوه قبل الذبح.

        

(وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) الليل العاتي: هو الليل الشديد الظلمة وفي سورة مريم (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً) 
فقوله تعالى (وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) هم بقتلهم الناقة غالوا في البعد عن أوامر الله تعالى، كما نقول (فجروا قوي) 

(وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)
يعنى ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا من العذاب الذي توعدتنا به إِنْ كُنْتَ فعلا مِنَ الْمُرْسَلِينَ كما تدعي.
لأن صالح قال لهم عندما جاءت الناقة من الصخرة حذرهم من ايذائها وقال (وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)

        

من قتل الناقة ؟ وما هي تفاصيل قتل الناقة؟ 
هناك روايتين:
الوراية الأولى: أن رجلًا من سادة ثمود كان اسمه "قُدارًا بن سالف" كان يشرب الخَمْرَ، وطلب ماءًا ليمزجه بالخمر، فلم يجدوا ماء لأن هذا هو يوم شرب الناقة، فقام وقد قرر أن يذبحها، فكَمَنَ لَها ورماها بحربة، ثم ضربها بالسيف على عرقوبها، ثم طعنها في لبتها 
الرواية الثانية: قيل أن هذه الناقة كانت اذا خرجت ترعي في الصيف، ترعي في أماكن الظل والهواء الطيب، فكانت الأنعام اذا رأتها كانت تهرب منها لأنها كانت هائلة الحجم، فنرعي الأنعام في الأماكن الحارة، واذا كان الشتاء ترعي في الماكن الدافئة وتهرب الأنعام الى الأماكن الباردة، فتضررت بذلك أنعام ثمود.
وكانت هناك امرأتان غنيتان، ومن أكثر ثمود ابل وبقر وغنم، وكانتا كافرتان وشديدي الكراهية لصالح، وهما: "صَدُوفُ بِنْتُ المُحَيّا" و"عُنَيْزَةُ بِنْتُ غَنْمٍ" وكانت "صَدُوفُ بِنْتُ المُحَيّا" امرأة جَمِيلَةٌ فدَعَتْ ابْنَ عَمٍّ لَها يُقالُ لَهُ "مُصَدَّعُ بْنُ مُهَرِّجِ بْنِ المُحَيّا" وجَعَلَتْ لَهُ نَفْسَها ان قتل الناقة فَأجابَها الى ذلك، وأما "عُنَيْزَةُ بِنْتُ غَنْمٍ" كانت امرأة عجوز ولها أربعة بنات حسان، فدعت رجلًا اسمه "قُدارٌ بن سالف" الى قتل الناقة عَلى أنْ تُعْطِيَهُ أيَّ بَناتِها شاءَ.
فَأجابَ قُدارٌ ومُصَدَّعٌ واسْتَغْوَيا سَبْعَةَ نَفَرٍ، فَكانُوا تِسْعَةَ رَهْطٍ -كما قال القرآن العظيم- وكان هؤلاء التسعة رؤساء في قومهم، فاستمالوا القبيلة كلها، ووافقوهم على قتل الناقة، فَرَصَدُوا النّاقَةَ حِينَ صَدَرَتْ عَنِ الماءِ وكَمَنَ مُصَدَّعٌ في أصْلِ صَخْرَةٍ، وقُدارٌ في أصْلِ صَخْرَةٍ أُخْرى، فَمَرَّتْ عَلى مُصَدَّعٍ فَرَماها بِسَهْمٍ فسقط في عَضَلَةَ ساقِها، ثم مرت الناقة بقُدارٍ بن سالف، فضربها بالسيف على عرقوبها، فسقطت ورَغَتْ رُغاةً واحِدَةً لتحذر فصيلها، ثم طعنها في لَبَّتِها بالسيف فماتت، وخَرَجَ أهْلُ البَلْدَةِ فاقْتَسَمُوا لَحْمَها وطَبَخُوهُ 


        

(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) 
لما رغت الناقة تحذر فصيلها، انطلق فصيلها هاربًا، وقيل أنهم اتبعوه فعقوره كما فعلوا مع أمه، وقيل أنه صعد الى أعلى جبل، ورغا ثلاث مرات، يقول الحسن البصري: قال يا رب أين أمي؟ ثم دخل في صخرة فغاب فيها.
        

فلما بلغ الخبر صالحا عليه السلام جاء فلما راي الناقة بكي وقال "تمتعوا في داركم ثلاثة أيام" الآية.
فلما كان المساء عزم هؤلاء التسعة على قتل صالح، وقالوا: إن كان صادقا عجلناه قبلنا، وإن كان كاذبا ألحقناه بناقته، يقول تعالى "قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم" الآية.
فلما جاء الليل وخرجوا لقتل صالح رمتهم الملائكة بالحجارة فقتلتهم، فتجمعت ثمود كلها تريد قتل صالح، وقالوا لَهُ أنْتَ قَتَلْتَهم، فقامت عَشِيرَتُهُ فَحَمَتْهُ، وقالُوا: وعَدَكم أنَّ العَذابَ نازِلٌ بِكم بَعْدَ ثَلاثٍ فَإنْ صَدَقَ لَمْ تَزِيدُوا رَبَّكم عَلَيْكم إلّا غَضَبًا، وإنْ كَذِبَ فَأنْتُمْ مِن وراءِ ما تُرِيدُونَ، فلما مر اليوم الأول أصبحت وجوههم مصفرة، ولما كان اليوم الثاني أصبحت وجوههم محمرة، فلما كان اليوم الثالث أصبحت وجوههم مسودة. 
فلما كان اليوم الثالث وارتفع الضحى، نزل بهم العذاب.
يقول تعالى
(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) في موضع آخر يقول تعالى (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) والمعنى أن هناك صيحة عظيمة جبارة انقضت عليهم من السماء رجفت منها أجسامهم.
(فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ) أي هامدين لا يتحركون
        

(فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)
(فَتَوَلَّى عَنْهُمْ) خرج صالح هو والمؤمنون معه في ليلة اليوم الثالث وهو يوم نزول العذاب بثمود، وقيل ان عددهم كان مِائَةٍ وعِشْرِينَ، وقيل كان عددهم أربعة آلاف، وكان المشركون من "ثمود" ألْفًا وخَمْسِمِائَةِ دار، فكانوا آلافًا كثيرة.
ثم قال صالح قال في أسف وحسرة
(يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ)
وكانت مدة دعوة صالح لقومه عِشْرِينَ سَنَةً
قيل أن صالح هو والمؤمنون معه اتجهوا الى مكة، ومات صالح هناك، وقيل أنهم نزلوا في الشام في مكان قريب من القدس الآن، وقيل إنهم نزلوا حَضْرَمَوْتَ فَلَمّا دَخَلُوها ماتَ صالِحٌ فَسُمِّيَ المَكانُ حَضْرَمَوْتَ.
ومات صالح وهو ابْنُ ثَمانٍ وخَمْسِينَ سَنَةً، مع أن قومه كانوا يعمرون مئات السنين، فالعبرة ليست بطلول العمر ولكن بحسن العمل.

        

يقول تعالى ﴿فَعَقَرُوا النّاقَةَ﴾ وفي موضع آخر يقول تعالى (فكذبوه فعقروها) فنَسَبَ الله تعالى قتل الناقة الى جميع الكفار من قوم ثمود، مع أن الذي قتلها واحد فقط، وهو "قُدارٌ بن سالف" أو "قُدارٌ" و "مُصَدَّعُ بْنُ مُهَرِّجِ" 
ذلك أن جميع الكفار من "ثمود" رضوا ما فعله "قُدارٌ" و "مُصَدَّعُ" كأن الذي يري الظلم، ويوافق على الظلم، ويصفق للظالم، فهو معه في نفس درجته.
عندما حبس الإمام "أحمد بن حنبل" جاءه السجان وقال له يا امام: ترى أنّي من أعوان الظلمة؟ قال له الإمام أحمد: لا أنت من الظلمة أنفسهم، أما أعوان الظلمة فهو من يخيط لك ثوبك.

        

قلنا ان آثار ثمود قوم صالح لا زالت باقية الى اليوم، ومر بها الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو في طريقه الى غزوة "تبوك" فأراد المسلمون أن يدخلوا على هذه الديار بقصد الفرجة عليها، فنهاهم الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأسرع بالمشي وقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ ثُمَّ تَقَنَّعَ بِرِدَائِهِ وَهُوَ عَلَى الرَّحْلِ) 
وقرأت بعض الفتاوي تستند الى هذا الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم وتقول ان زيارة آثار الفراعنة محرم شرعًا، ونقول اذا كنت تقصد آثار فرعون موسي نقول نعم، ولكن من قال لك أن آثار الفراعنة الكثيرة جدًا هي لفرعون موسي، الفراعنة كانوا واحد وثلاثين اسرة حكموا مصر لآلاف السنين، فمن قال لك أن هذه الآثار لأقوام نزل بهم اعذاب.


        

وأخيرًا من إشارات القرآن العلمية هو أن ذكر أن عقاب ثمود كان بالصيحة، ولم يكن أحد يتخيل في ذلك الوقت أن الصوت له قوة تدميرية، وأنه يمكن أن يدمر شعب بأكمله. 
والآن يقول العلماء أن الصوت عبارة عن اهتزازات تنتقل في الهواء على شكل موجات صوتية، فاذا زاد الصوت عن حد معين فان هذه الاهتزازات تؤدي اهتزاز الأعضاء الداخلية لجسم الانسان، واذا زاد الصوت أكثر فانه يدمر أجهزة الجسم ويؤدي الي الوفاة.
ولذلك فان من دقة أداء القرآن أنه عبر عن عذاب قوم ثمود مرة بالصيحة يعنى الصوت المرتفع، وعبر عنه في موضع آخر بالرجفة وهو ما أحدثه هذا الصوت المرتفع من رجفة في أجساد قوم ثمود ثم هلاكهم.

❇        

لِمُطَالَعَة بَقِيَةِ حَلَقَات "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم"

لِمُشَاهَدَة حَلَقَاتِ "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم" فيديو

❇