Untitled Document

عدد المشاهدات : 1310

الحلقة (451) من "تَدَبُرَ القُرْآنَ العَظِيم" تفسير وتدبر الآيات من (103) الى (112) من سورة "الأَعْرَاف" )ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى ….

الحلقة رقم (451)
تفسير وتدبر الآيات من (103) الى (112) من سورة "الأَعْرَاف" (ص 163)

        

(ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآَيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (11) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) 

        

ومع القصة السادسة من قصص الأنبياء التي ذكرت في سورة الأعراف، وهي قصة موسي -عليه السلام- وقد ذكرتها السورة في نحو سبعين آية.
يقول تعالى (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)
(ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى) يعنى ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِ الأنبياء الذين جاء ذكرهم في هذه السورة، وهم: نوح وهود وصالح ولوط وشعيب، بَعَثْنَا بَعْدِ هؤلاء الأنبياء (مُوسَى) -عَلَيْهِ السَّلامُ-
(ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا) يعنى بمعجزاتنا وهي تسع معجزات وهي: العصا، واليد التي تصبح بيضاء، والسنين أي القحط، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد والقمل والضفادع والدم.
(إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ) يعنى إِلَى فِرْعَوْنَ (وَمَلَئِهِ) وهم حاشيته ورجال دولته الذين كانوا أعوان له في الظلم.
ولم يقل تعالى الى قومه كما في قصص الأنبياء السابقة، قصص: نوح وهود وصالح ولوط وشعيب، لأن فِرْعَوْنَ وحكومته كانوا مسيطرين على الشعب سيطرة كاملة، فلو آمن فِرْعَوْنَ آمن قومه، ولو كفر فِرْعَوْنَ كفر قومه.

        

بقول تعالى (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا)
(فَظَلَمُوا بِهَا) يعنى فَظَلَمُوا بالآيات التي أرسل بها موسي. 
وهذه فيها ثلاثة أقوال:

(فَظَلَمُوا بِهَا) يعنى ظَلَمُوا الناس بسبب هذه الآيات، لأنهم آذوا من آمن بها وقتلوه وعذبوه.
أو
(فَظَلَمُوا بِهَا) يعنى ظَلَمُوا أنفسهم بسبب هذه الآيات لأنهم كفروا بها.
أو (فَظَلَمُوا بِهَا) يعنى كفروا بِهَا، لأن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، وهم قد جعلوا الكفر بدل الإيمان.
(فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)
فَانْظُرْ -نظر اعتبار- كَيْفَ كَانَت نهاية هؤلاء الْمُفْسِدِينَ وهي أنهم أهلكوا وأغرقوا في البحر جميعًا.

        

(وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104)
"فِرْعَوْنُ" هو لقب كل حاكم لمصر في ذلك الوقت، كما أن "قيصر" كان هو لقب حاكم الرومان، و"كسري" كان لقب حاكم الفرس، و"النجاشي" لقب حاكم الحبشة، ولم يذكر القرآن في أي موضع ما هو اسم هذا الفرعون، بالرغم من أن ذكر "فِرْعَوْنُ" قد تكرر في القرآن 74 مرة، ومع ذلك لم يذكر القرآن في أي من هذه المواضع الـ 74 ما اسم هذا الفرعون.
لماذا؟ لسببين: السبب الأول: لأن على الراجح أن مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلامُ- عاصر أكثر من "فِرْعَوْنُ" واحد. السبب الثاني: -وهو المهم- حتى يكون "فِرْعَوْنُ" في قصة موسي هو رمز لكل حاكم ظالم متكبر متجبر.
لو كان القرآن قد ذكر -مثلًا- أن فرعون الذي تربي موسي في قصره هو "رعمسيس الثاني" وأن الذي حصل في زمنه الخروج فهو "منفتاح" فسينصرف ذهن القارئ للقرآن الى هذه الأشخاص بعينها، والقرآن العظيم لا يعنيه هذه الشخصيات بعينها، وانما يعنيه العبرة من القصة، ولذلك تعمد القرآن عدم ذكر اسم "فرعون" بالرغم من تكرر ذكره في القرآن 74 مرة.

        

(وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
يعنى: وَقَالَ مُوسَى عندما دخل على فِرْعَوْنُ "يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ" 
وقول موسي
(إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) أفاد أمرين: 
أولًا: لأن فِرْعَوْنُ كان قد ادعي لنفسه الألوهية، فقال موسي ذلك لينزع عن فِرْعَوْنُ الوصف الذي ادعاه لنفسه.
وثانيًا: لأن المصريين عبدوا آلهة كثيرة: إله خصوبة، واله حرب، واله للأسماك، واله للصحراء الغربية، واله لفيضان النيل، والهة تساعد النساء على الولادة، فقال موسي أنه رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ليثبت أن الله اله واحد وأنه تعالى رب كل الْعَالَمِينَ.

        

(حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105)
قيل ان موسي لما دخل على فرعون وقال له (يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
قال له فِرْعَوْنُ: كذبت.
فقال له موسي
(حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) وقرأت (حَقِيقٌ عَلَىَّ أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ)
(حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) يعنى حق عَلَى، وواجب عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ، يعنى الصدق.

        

(قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) يعنى قَدْ جِئْتُكُمْ من الله تعالى بدليل واضح يدل على صدق نبوتي، وهي العصا واليد، أو (بِبَيِّنَةٍ) هي الحجة الواضحة.
(فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) 
هذا هو طلب موسي من فرعون، وهو أن يطلق سراح بَنِي إِسْرَائِيلَ، وأن يتركه يخرج بهم من مصر.
الى أين كان موسي يريد أن يذهب ببنى إسرائيل بعد أن يخرج من مصر؟ 
كان موسي يريد أن يخرج ببنى إسرائيل من مصر وأن ينطلق بهم لفتح الأرض المقدسة بالشام كما أمره الله تعالى، والتي كانت تحت حكم الكنعانيين في ذلك الوقت.


        

والشام هي الموطن الأصلي لبنى إسرائيل، فما قصة انتقال بنى إسرائيل من الشام الى مصر؟ 
بدأ دخول بنى إسرائيل الى مصر في عهد نبي الله يوسف -عليه السلام- عندما كان يوسف عزيز مصر، وأصاب المنطقة قحط شديد (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) فأرسل يوسف الى أبيه يعقوب -عليه السلام- والى أخوته الإحدى عشر، حتى ينتقلوا من الشام الى مصر، يقول تعالى (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ)  
فجاء يعقوب -عليه السلام- وجاء اخوة يوسف مع زوجاتهم وابنائهم واستقروا في مصر، وكان عددهم عندما دخلوا مصر خمسة وسبعون رجلًا وامرأة وطفلًا، يقول تعالى (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) 
هؤلاء هم بنى إسرائيل عندما دخلوا الى مصر، لأن كلمة إسرائيل هو لقب يعقوب -عليه السلام- وهو يعنى بلغتهم العبرية "عبد الله" وأبناء يعقوب وهم يوسف وأخوته، وذريتهم بعد ذلك هم ابناء إسرائيل، أو بنى إسرائيل.

        

وكان دخول بنى إسرائيل الى مصر في عهد الهكسوس. 
ولذلك من دقة أداء القرآن أنه أشير الى حاكم مصر في قصة يوسف بأنه "الملك" لأن الهكسوس هم الذين كانوا يحكمون مصر في هذه الفترة، وهؤلاء لم يكونوا فراعنة بل كانوا ملوكًا، بينما في قصة موسي، تحدث القرآن عن حاكم مصر بأنه "فِرْعَوْنُ" لأن الفراعنة كانوا قد عادوا الى حكم مصر.
اذن دخول بنى إسرائيل الى مصر كان في عهد الهكسوس، والذين احتلوا مصر فترة طويلة، قيل 108 سنة، وقيل مائتي سنة، وقيل أكثر، وكثرت أعداد بنى إسرائيل في مصر في هذه الفترة، وكان بنو إسرائيل خلال هذه الفترة يتعاونون مع الهكسوس، ويتولون مناصب قيادية في الدولة، خاصة أن كبيرهم وهو يوسف -عليه السلام- كان عزيز مصر في فترة طويلة من فترات حكم الهكسوس، ويوسف قبل هذا المنصب، او هو الذي طلب هذا المنصب حتى يحمي مصر، بل يحمي المنطقة من الجفاف والقحط الذي استمر لمدة سبعة سنوات.
وهناك أسباب أخري أدت الى اعتماد الهكسوس على بنى إسرائيل في حكم مصر، وهي أنهم ليسوا مصريين، والمصريون يعتبرون الهكسوس محتلين للبلاد، إضافة الى أن الهكسوس وبنو إسرائيل كلاهما جاء من منطقة واحدة وهي منطقة الشام، وأن الهكسوس وبني إسرائيل كلاهما من أصحاب البشرة البيضاء، والمصريين من أصحاب البشرة السمراء، كل هذا جعل هناك تقارب بين الهكسوس وبين بنى إسرائيل في فترة احتلال الهكسوس لمصر، وجعل الهكسوس يعتمدون على بنى إسرائيل في حكم مصر، بل ويقلدوهم مناصب قيادية رفيعة في فترة حكمهم.

        

بعد أن نجح الفراعنة في طرد الهكسوس بعد سنوات من القتال، بقيادة "أحمس الأول" انقلب الفراعنة على بَنِي إِسْرَائِيلَ، انتقامًا منهم على تعاونهم مع الهكسوس، بالرغم من أن كثير من المصريين تعاونوا مع الهكسوس، ولكن هؤلاء ذابوا في الشعب، بينما كان بنو إسرائيل عرق مميز، فسهل تمييزهم.
استعبد الفراعنة بنو إسرائيل، منذ عهد "أحمس الأول" طارد الهكسوس وأصبح بَنِو إِسْرَائِيلَ عبيد عند الفراعنة، واستخدموهم في الأعمال الشاقة كالبناء والزراعة، والصناعات المختلفة والخدمة في المنازل وغير ذلك. 
وعندما كثرت أعدادهم في مصر، قيل إنها وصلت الى 600 ألف، خشي الفراعنة من انقلابهم عليهم، فأمر أحد الفراعنة، وهو الفرعون الذي ولد موسي في عهده بأن يقتل كل مولود ذكر في أحد الأعوام، وان تترك المواليد في العام الذي يليه، وبذلك يحافظ على العدد الموجود من بنى إسرائيل، فلا يزيد العدد فيشكل خطورة على الدولة، ولا يقل العدد لأن الدولة في حاجة إليهم في الأعمال المختلفة.

        

استمر هذا الاضطهاد الشديد لبنى إسرائيل والاذلال والتعذيب، حتى أرسل الله تعالى إليهم موسي حتى يخلصهم من هذه العبودية وهذا الاضطهاد، يقول تعالى (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ )
وقيل كان بين يوسف وبين موسي -عليهما السلام- أربعمائة سنة.

        

يقول تعالى (حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) طلب موسي من فرعون أن يحرر بنى إسرائيل من العبودية، وأن يترك بنى إسرائيل حتى يخرجوا من مصر، وكان رد فرعون هو الرفض الشديد لهذا الطلب، لأن فرعون يعتبر بنى إسرائيل عبيد في دولته لا يملكون أنفسهم، فلا يحق لهم الخروج كما يريدون، وكان المصريون يعتمدون اعتمادًا شبه كامل عليهم في الأعمال الشاقة من زراعة وصناعة وبناء وخدمة في البيوت، فكان خروجهم يمثل مشكلة اقتصادية كبيرة في الدولة.
        

طرح العلماء سؤال: هل دعوة موسي موجهة الى بنى إسرائيل فقط، أم الى بنى إسرائيل والمصريين؟
قال البعض أن دعوة موسي كانت موجهة فقط الى بنى إسرائيل، واحتجوا بهذه الآية (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ)
ولكن هناك آيات أخري تقول ان موسي توجه بدعوته الى فرعون، يقول تعالى في سورة الذاريات (اذهب الى فرعون انه طغي * فقل هل لك الى أن تزكي وأهديك الى ربك فتخشي)

والحقيقة أن دعوة موسي كانت موجهة بالأصالة وبصفة خاصة الى بنى إسرائيل، ومع ذلك أمر الله -تعالى- موسي أن يعرض دعوته على فرعون، لأن فرعون كان مسيطرًا على المصريين، فكان ايمان فرعون يعنى ايمان المصريين، ولم يكن مطلوبًا من موسي أن يسير بدعوته بين المصريين، وأيضًا لم يكن مطلوبًا من موسي أن يصر أو أن يلح في دعوته على فرعون، فاذا رفض فرعون دعوته فانه يتركه وشأنه.
يقول تعالى (حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) كانت مهمة موسي مع "فِرْعَوْنُ" أمرين: أولًا: أن يدعوه الى عبادة الله وحدة، وترك عبادة الأوثان، وثانيًا: أن يحرر بنى إسرائيل من عبودية المصريين، وأن يتركهم حتى يخرجوا من مصر.


        

(قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآَيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) 
لأن موسي قال له (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) يعنى معجزة مِنْ رَبِّكُمْ، فقال له فرعون (إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآَيَةٍ) إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بمعجزة (فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) وقال البعض أن البَيِّنَةٍ غير الآية، وأن البَيِّنَةٍ هي الحجة الواضحة، فقول موسي لفرعون (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) يعنى قد جئتكم بحجة واضحة، كأن الايمان بالله وحده وترك عبادة الأوثان أمر لا يحتاج الى معجزة، ولكن رد فرعون أنه لم يقتنع بهذه الحجج، ولذلك طلب آية يعنى معجزة (إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآَيَةٍ) يعنى بمعجزة (فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)


        

(فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) 
قيل إن موسي أمسك عصاه وقال لفرعون ما هذه؟ فقال فرعون: هذه عصا، فالقاها موسي فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ.
(ِإِذَا) يطلق عليها إِذَا الفجائية.
هناك إذا الشرطية وهناك إذا الفجائية، كما تقول: خرجت من البيت فَإِذَا السماء تمطر.
فقوله تعالى
(فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ) يعنى انقلبت العصا الى ثُعْبَانٌ فجأة، والثُعْبَانٌ هو ذكر الحية، والذكر أجرأ وأشرس من الأنثى.
و
(مُبِينٌ) يعنى ثُعْبَانٌ حقيقي وليس يخيل الى الناس أنه ثعبان، كما سيكون من فعل السحرة بعد ذلك.
وهناك روايات عن ضخامة هذا الثعبان، وقيل إن الثعبان اتجه الى فرعون فاغرًا فاه، فنزل فرعون عن عرشه وفر منه.
وهذه الروايات على ضعفها فنحن نصدقها، لأن موسي عندما واجه هذه المعجزة لأول مرة أصابه الخوف الشديد وفر هاربًا، يقول تعالى (فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرًا ولم يعقب) مع أنه ألقي العصا بأمر من الله تعالى، وهو كان في مناجاة مع الله.


        

(وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) 
وهذه هي المعجزة الثانية التي جاء بها موسي -عليه السلام- (وَنَزَعَ يَدَهُ) النزع هو السحب بعسر وصعوبة، و"يَدَهُ" يعنى كف يَدَهُ.
وفي آية أخري أن موسي كان يدخل يده في جيبه يعنى في فتحة قميصه، وفي آية أنه كان يضم يده الى جانحه يعنى تحت عضده، اذن معجزة اليد أن موسي -عليه السلام- وكان أسمر اللون يدخل يده في فتحة قميصه، ويضم عليها عضده، ثم ينزعها يعنى يخرجها بصعوبة من تحت عضده فتخرج بيضاء ناصعة البياض ثم يعيدها فتعود الى لونها الأسمر كما كانت.
وقيل إن يَدَهُ كانت يخرج لها نور وشعاع كشعاع الشمس، وقيل انها كانت تخرج لها لمعان مثل لمعان البرق.
وقوله تعالى
(لِلنَّاظِرِينَ) يعنى بياضها واضح بحيث أنه ظاهر لكل النَّاظِرِينَ وليس لبعضهم.
وفي التوراة المحرفة في سفر التكوين: ثُمَّ قَالَ لَهُ الرَّبُّ أَيْضًا: «أَدْخِلْ يَدَكَ فِي عُبِّكَ». فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي عُبِّهِ ثُمَّ أَخْرَجَهَا، وَإِذَا يَدُهُ بَرْصَاءُ مِثْلَ الثَّلْجِ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: «رُدَّ يَدَكَ إِلَى عُبِّكَ». فَرَدَّ يَدَهُ إِلَى عُبِّهِ ثُمَّ أَخْرَجَهَا مِنْ عُبِّهِ، وَإِذَا هِيَ قَدْ عَادَتْ مِثْلَ جَسَدِهِ.
وقد صحح القرآن هذا التحريف، فقال تعالى في سورة "النمل" (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) يعنى: من غير برص


        

(قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) 
يعنى بعد أن خرج موسي -عليه السلام- من قصر فرعون، استشار فرعون (الْمَلَأُ) وهم الحاشية ورجال دولته، فاجتمعوا جميعًا على أن موسي -عليه السلام- (سَاحِرٌ عَلِيمٌ) يعنى سَاحِرٌ ماهر وحاذق.
وكلمة (سَاحِرٌ) يعنى أن العصا لم تنقلب الى الحية، ولا اليد أصبحت بيضاء، وانما هذا من تخييل السحرة.
في سورة الشعراء أن الذي اتهم موسي بالسحر هو فرعون وليس الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ، يقول تعالى (قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ) يعنى (قَالَ) فرعون (لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ) 

فهل الذي قال ذلك فِرْعَوْنَ أم (الْمَلَأُ) الحاشية ورجال الدولة؟ 
الإجابة أن الذي قال ذلك أولًا هو فِرْعَوْنَ: (قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ)
ثم أعاد الْمَلَأُ هذا الكلام خلف فِرْعَوْنَ: (قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ)
وهذا هو شأن الأنظمة الديكتاتورية دائمًا، أن يلقي الحاكم الكلام، ثم تتلقف وسائل الاعلام هذا الكلام وتظل تردده وتزينه.

        

لأن البعض الذي يقرأ القرآن بدون تدبر يعتقد أن هناك تناقض بين الآيات، أو يعتقد أن القصة تتكرر، ولكن الحقيقة أن كل آية تأتي بلقطة من لقطات القصة تتناسب مع سياق السورة، ثم إذا وضعنا هذه اللقطات بجوار بعضها تتكامل القصة التكامل الذي نحتاجه للعبرة من هذه القصة. 
        

(يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) 
توقف العلماء كثيرًا أمام هذه الآية، من الذي تحدث؟ والي من قالها؟
السياق أن (الْمَلَأُ) هو الذي قال هذا الكلام.
ولأنه قال (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) يعنى يتوجه بالخطاب الى بنى إسرائيل.
كيف؟!
هناك جزء من حاشية فرعون ورجال دولته، من بنى إسرائيل، بدليل أن "قارون" وهو من بنى إسرائيل، كان من حاشية فرعون (ان قارون كان من قوم موسي فبغي عليهم) بل كان هو وهامان أكثر المقربين لفرعون 
وهناك جزء آخر من حاشية فرعون ورجال دولته، وهم الغالبية، من المصريين.
فهذا الجزء من حاشية فرعون المصريين، توجهوا بالخطاب الى الجزء من حاشية فرعون من بنى إسرائيل، وقالوا لهم بأسلوب يقصدون به استمالتهم (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) كأن ارض مصر هي أرضهم، ثم قال (فَمَاذَا تَأْمُرُونَ) يعنى فَمَاذَا تَأْمُرُونَ فيهم؟ وهكذا واجهوا بنى إسرائيل ببنى إسرائيل!

        

قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) 

)قَالُوا (يعنى قال الحاشية من بنى إسرائيل، أو قال الحاشية ورجال الدولة بصفة عامة.
(أَرْجِهْ وَأَخَاهُ) وقرأت أَرْجِئهْ وَأَخَاهُ
يعنى: أجل التصرف فيه، لا تأخذ قرار في شأنه الآن.

(وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ)
(وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ) يعنى في كل مدائن مصر التي تحت سلطان فرعون
(حَاشِرِينَ) يعنى من يحشرون السحرة، والحشر هو السوق بإكراه.

        

(يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112)
يعنى يَأْتُوكَ بأمهر السحرة.
في سورة الشعراء (يأتوك بكل سحار عليم)
والسحار هو صيغة مبالغة من ساحر.
كأنهم طلبوا أولًا أن يكون ساحرًا عليمًا، ثم قالوا إن موسي ساحر، ونحن نريد من يتفوق عليه، فطلبوا أن يكون (سحار عَلِيمٍ) وليس (سَاحِرٍ عَلِيمٍ)
أو أنهم جمعوا السحرة المتقنين (سَاحِرٍ عَلِيمٍ) ثم انتقوا من هؤلاء السحرة أكثرهم مهارة (سحار عَلِيمٍ) 
واختلفوا في عدد السحرة الذين جمعهم فرعون، على أثني عشر قولاً:
فقيل ثمانون ألف، وقيل: اثنان وسبعون ألفاً، وقيل: سبعون ألفاً، اختار منهم سبعة آلاف، وقيل: بضعً وثلاثون الفا، وقيل: خمسة وعشرون ألفاً، وقيل: تسعة عشر ألفاً، وقيل: اثنا عشر ألفا، وقيل تسعمائة، وقيل سبعمائة، وقيل أربعة مائة، وقيل: اثنان وسبعون، والثالث: سبعون.
والله أعلم بالعدد ولكن الظاهر أنهم جمعوا أعداد كثيرة جدًا
(سَاحِرٍ عَلِيمٍ) ثم انتقوا من هذه الأعداد الكثيرة أكثرهم مهارة (سحار عَلِيمٍ) 
        

وكان السحر منتشرًا في مصر انتشارًا كبيرًا، وكان السحر من العلوم التي يتعلمها المصريين مع غيرها من العلوم الأخرى، وكان لها معاهد خاصة بها.  وهذا هو السبب في أن أبرز معجزات موسي كانت هي العصا واليد، لأن سنة الله تعالى أن تكون معجزة كل رسول من جنس ما نبغ فيه قومه، لأن المعجزة اذا كانت من جنما نبغوا فيه، وهم يعلمون أن النبوغ بين البشر محصورًا فيما بينهم، علموا أنه لم يأت بهذه المعجزة من عند نفسه، وانما من عند الله تعالى، ولذلك كانت معجزة عيسي -عليه السلام- أنه يبرأ الأكمه -وهو الذي ولد كفيفًا، والأبرص، لأن قومه كانوا نابغين في الطب، ومعجزة الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو القرآن العظيم، لأن العرب كانوا مشهورين بالفصاحة، ومعجزة موسي -عليه السلام- هي أمور تشبه السحر، وهي ليست سحر في الحقيقة، لأن الساحر يخيل الى الناس، ولا يستطيع أن يغير طبيعة الأشياء، أما معجزة موسي فهو يقلب العصا الى حية حقيقية، ثم يعيدها الى عصا مرة أخري.س
        

وطلب موسي ان يكون هذه المباراة بينه وبين السحرة، في يوم الزينة، وهو أحد أعياد المصريين، وأن يكون في وقت الضحى، وهو وقت طلوع الشمس، حتى تكون الرؤية واضحة تمامًا، يقول تعالى في سورة طه (قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) وكلمة (يُحْشَرَ) وقلنا إن الحشر هو السوق بإكراه، يعنى أن من لا يريد أن يأتي، يؤتي به رغمًا عنه.

❇        

لِمُطَالَعَة بَقِيَةِ حَلَقَات "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم"

لِمُشَاهَدَة حَلَقَاتِ "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم" فيديو

❇