الحلقة رقم (460)
تفسير وتدبر الآيات من (148) الى (154) من سورة "الأَعْرَاف" (ص 168)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآَمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ما زالت الآيات الكريمة تتناول قصة موسي -عَلَيْهِ السَّلامُ- مع بنى إسرائيل، وتبدأ الآيات الكريمة في ذكر قصة هذا الذنب العظيم وذلك الجرم الكبير الذي ارتكبه بنو اسرائيل، وهو عبادة بنو إسرائيل للعجل.
والقصة أن مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلامُ- عندما ترك قومه وذهب لمناجاة ربه، كان قد أخبر قومه بأنه سيغيب عنهم ثلاثين ليلة، فلما مد الله تعالى في الأجل الى أربعين ليلة، قال بنو اسرائيل أن موسي قد هلك في الجبل، فقام أحد بنو اسرائيل وهو "السامري" بصنع عجل من ذهب، وعبده بنو إسرائيل.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)
(وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى) وهم بنو إسرائيل.
(مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد ما تركهم مُوسَى وذهب لمناجاة ربه وتلقي التوراة في جبل الطور.
(مِنْ حُلِيِّهِمْ)
(مِنْ حُلِيِّهِمْ) وقرأت (مِنْ حِلِيِّهِمْ) بكسر الحاء، أي مِنْ حُلِيِّ بنى إسرائيل، والحلي تكون من الذهب أوالفضة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
من أين جاء بنو اسرائيل بهذه الحلى، وهم كانوا فقراء عبيدًا عند المصريين؟
فقيل أن بنو إسرائيل قد أخذوا هذه الحلي من المصريين قبل خروجهم من مصر عن طريق الاحتيال، ذلك أن نساء بنى إسرائيل كانوا يعملن خدمًا في بيوت المصريين، فلما أخبرهم موسي-عَلَيْهِ السَّلامُ- بالخروج من الليل، جعلت كل امرأة من بنى إسرائيل تقول لسيدتها المصرية أن عندها عرسًا أو عيدَا هذه الليلة، وتطلب منها ان تعيرها هذه الحلي، ثم خرجن بهذه الحلي من مصر.
وقيل إن بنو إسرائيل لم يقصدوا الاستيلاء على حلى المصريين، وانما هم استعاروا هذه الحلي من المصريين لأحد أعيادهم، وكانوا ينوون اعادتها اليهم، ثم أخبرهم موسي بالخروج، فلم يستطيعوا ردها الى أصحابها خوفًا من انكشاف سرهم.
ايًا كان سبب وجود هذه الحلي مع بنى اسرائيل، فان هذه الحلي لم تكن ملكًا لبنى اسرائيل، وانما كانت هي حلى المصريين، ولم يكن لا موسي ولا هارون -عَلَيْهِما السَّلامُ- يعلمان بوجود هذه الحلي مع بنى اسرائيل.
فلما خرج موسي للقاء الله تعالى، علم هارون بطريقة أو بأخري بأمر هذه الحلي، فقال لهم هارون: لَا تكُونُ لَنَا وَلا لَهُمْ، يعنى لا يجوز أن نأخذ هذه الحلي أو ننتفع بها، كما لا يمكن ردها الى المصريين، وأمر هارون بنى إسرائيل أن يتخلصوا من هذه الحلي، فأمر هارون بحفر حفرة، وأن يلقي كل من عنده شيء من هذا الحلي أن يلقيه في هذه الحفرة ثُمَّ أَوَقَدَ عَلَيْهِ النَّارَ فَحَرَقَهُ.
فجاء "السامري" وهو أحد بنى إسرائيل -والسامري لقب، واسمه موسي، ولقب بالسامري، لأنه من مدينى سامراء بالعراق- وكان يعمل صائغًا، فصنع لهم عجلًا من هذا الحلي، والعجل هو ولد البقر، وجعل السامري هذا التمثال له خوار، يعنى جعله يصدر صوتًا يشبه صوت البقر.
ثم قال لهم هذا السامري كما قال تعالى في سورة طه (هَٰذَآ إِلَٰهُكُمْ وَإِلَٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ) يعنى هذا العجل هو الإله الذي يعبده مُوسَى، ولكنه نسيبه عندما خرج الى جبل الطور، ثم دعا بنى اسرائيل الى عبادته، فأجابوه الى ذلك.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
لماذا أطاع بنو اسرائيل السامري بهذه السرعة؟
أولًا: لأن السامري كان رجلًا مطاعًا وذا قدر في قومه. (عَمْرَو بنَ عامِرِ بنِ لُحَيٍّ الخُزاعِيَّ)
وثانيًا: لأن بنو اسرائيل كان عندهم الاستعداد لقبول عبادة العجل، بديل أنهم طلبوا من موسي بعد أن جاوز الله بهم البحر، طلبوا منه أن يجعل لهم الاهًا يتقربون بعبادته الى الله تعالى، قال تعالى (قالوا ياموسى اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة) وقال تعالى في موضع آخر (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ) يعنى هذا التمثال من العجل كان يصدر صوتًا يشبه صوت العجل الحقيقي!
السؤال هو: كيف كان هذا التمثال من العجل يصدر هذا الصوت الذي يشبه صوت العجل الحقيقي؟ فيها ثلاثة آراء:
الرأي الأول: قيل أن السامري قد رأي جبريل -عليه السلام- وهو على فرسه وهو يجاوز ببنى إسرائيل البحر، فلاحظ السامري أن فرس جبريل لا يطيء أرضًا الا حلت فيها الحياة واخضرت، فأخذ قبضة من هذا التراب الذي وطأه فرس جبريل بحوافره، وحمله معه، وقد علم أن هذا التراب لا يكون في شيء الا حلت فيه الحياة.
فلما القي بنو اسرائيل حليهم في الحفرة وأوقدها عليها النار -كما أمرهم هارون- وذابت هذه الحلي ألقي السامري فيها هذه القبضة من التراب، ثم صنع تمثالًا على هيئة العجل، فحلت في تمثال العجل نوع من الحياة، فصار يخور كما يخور العجل.
يقول تعالي في سورة طه (قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَٰلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وهنا سؤال: كيف تتحقق للسامري هذه الكرامة، وهي أن يري بعينيه جبريل -عليه السلام- وهو يجاوز ببنى اسرائيل البحر، ثم يقع -بعد ذلك- في هذه المعصية العظيمة، وهذا الجرم الكبير، وهو أن يغوي جميع بنى اسرائيل بعبادة غير الله تعالى؟
نقول أن الآية في سورة طه لا تثبت أن السامري قد رأي جبريل، يقول تعالى (بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) يعنى رايت شيئًا لم يره أحد، ولاحظت شيئًا لم يلاحظه أحد، والذي لاحظه السامري ولم يلاحظه احد، هو أثر فرس جبريل على الأرض، لاحظ السامري أن هناك أجزاء من الأرض تخضر -دون أن يري لا جبريل ولا فرس جبريل- ولكنه علم أن ذلك لأن جبريل قد وطئها بفرسه.
وهذا الذي رآه "السامري" لم يكن أمرًا خاصًا به، ولم تكن كرامة له، بل كان أمر يمكن أن يشاهده اي واحد من بنى اسرائيل، ولكن لم ينتبه أحد من بنى اسرئيل الى ذلك ، لأنهم كانوا منشغلين بمطاردة فرعون لهم، وكانوا منشغلين بمشاهدة هذه المعجزة العظيمة، وهي انشقاق البحر، وكل فرق كالطود العظيم، وكان "السامري" هو الوحيد الذي لاحظ هذا الأمر.
يقول تعالى في سورة طه (قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَٰلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
الرأي الثاني: أن "السامري" قد صنع العجل أجوف، وصنع في جوفه أنابيب، وكان -كما قلنا- صائغًا، وكان ماهرًا بحيث جعل الهواء عندما يدخل من دبره، ثم يمر في الأنابيب التى صنعها في جوفه، ثم يخرج من فيه، فيحدث صوتًا يشبه صوت العجل.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وهناك راي ثالث أن ذلك الخوار كان عملا يشبه عمل الحواة، يعنى صنع في بطن العجل بابًا، يدخل فيه غلام صغير، أو تحت العجل مكانًا يدخل فيه رجل، فيصدر هذا الغلام أو هذا الرجل صوتًا يشبه صوت البقر، ويتوهم الناس أن هذا الصوت صادر من التمثال.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ)
كلمة (جَسَدًا) يعنى جثة لا روح فيها.عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كان الثور إِذَا خَارَ سَجَدُوا وَإِذَا سَكَتَ رَفَعُوا رُؤُسَهُمْ.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم يقول تعالى (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا)
يبين الله لهم فساد عقولهم، بأنهم اتخذوا هذا التمثال من العجل الاهُا، وهو فاقد لأهم صفة من صفات الإله وهو أن يكلم البشر -عن طريق رسله- وأن يهديهم ويرشدهم الى الطريق الحق، وأن يقول لهم افعلوا ولا تفعلوا.
وهذا العجل لَا يُكَلِّمُهُمْ ولم يقل لهم افعلوا أو لا تفعلوا، فكيف يكون الاهُا وهو لا يأمرهم ولا ينهاهم.
بينما الله تعالى كلمهم من خلال موسي -عليه السلام- وهداهم بأن أنزل عليهم من التوراة.
يقول تعالى (اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ) أي بالرغم من ذك اتَّخَذُوهُ إلهًا.
وكلمة (اتَّخَذُوهُ) تدل على التكلف في اتخاذ هذا العجل إلاهًا، وأنه أمر يتعارض مع الفطرة السليمة.
(اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ) يعنى وَكَانُوا ظَالِمِينَ أنفسهم بعبادتهم غير الله تعالى.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)
هذا الموقف بعد رجوع موسي اليهم من الميقات، البعض يعتقد أن هذا الندم على عبادة العجل كان قبل رجوع موسي من الميقات، لأن الآية التالية يقول تعالى (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا) ونحن نقول ان ذلك الندم كان بعد رجوع موسي من الميقات، بدليل أن هارون عندما نصحهم قالوا له (لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى)
يقول تعالى (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) يعنى ولما ندموا على عبادتهم للعجل، وكانت العرب تقول للنادم على الشيء، أو العاجز عن الشيء "سُقِطَ فِي يده" واصله أن الرجلان اذا تصارعا، وصرع أحدهم صاحبه فان المهزوم يسقط في يد الفائز.
فقوله تعالى (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) يعنى فلما ندموا على عبادتهم العجل بعد رجوع موسى إليهم من الميقات.
(وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا) يعنى تبينوا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا.
وقوله تعالى (وَرَأَوْا) يعنى تبينوا ضلالهم واضحا كأنهم أبصروه بعيونهم.
(قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)
يعنى قَالُوا متحسرين: لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا (وَيَغْفِرْ لَنَا) يعنى هذا الذنب العظيم (لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) أي يوم القيامة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)
قبل أن يعود موسي -عليه السلام- الى قومه أخبره تعالى بأن قومه قد وقعوا في ذنب عظيم، قال تعالى في سورة طه (قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنۢ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ ٱلسَّامِرِىُّ) فعاد موسي -عليه السلام- الى قومه وهو في شدة الغضب، وفي شدة الحزن، يقول تعالى
(وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا)
الأسف تأتي بمعنى الغضب، وتأتي بمعنى الحزن الشديد، جاء الأسف بمعنى الغضب في قوله تعالى في سورة الزخرف ( فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين) وجاء الأسف بمعنى الحزن الشديد في قوله تعالى في سورة يوسف (وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَٰٓأَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَٱبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ ٱلْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ)
في هذه الآية الأسف بمعنى الحزن الشديد، يقول تعالى (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا) يعنى: وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى من الطور إِلَى قَوْمِهِ وهو غَضْبَانَ وحزين.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي)
"بئس" أداة ذم
يعنى: بِئْسَ مَا فعلتم مِنْ بَعْدِي، وبئس ما فعلتم في غيبتي.
(أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ)
(أَعَجِلْتُمْ) يعنى استعجلتم (أَمْرَ رَبِّكُمْ) يعنى موتي.
يعنى يقول لهم موسي منكرًا: هل استعجلتم موتي؟!
لأن موسي عندما تأخر قال بنو اسرائيل أنه قد هلك في الجبل.
كأن بنو اسرائيل كانوا ينتظرون ويترقبون ويتمنون موت موسي لقوته، ويريدون ولاية أخيه "هارون" وكان "هارون" ألين من موسي وأحب الى بنى اسرائيل من موسي.
فقوله تعالى (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ) يعنى موسي يقول لهم في انكار: هل استعجلتم موتي؟!
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ) يعنى وَأَلْقَى ْأَلْوَاحَ التوراة من يديه.
كيف يمكن لنبي الله موسي أن يلقي الواح التوراة من يده؟
تكملة الآية (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) يعنى موسي من شدة انفعاله وغضبه لله تعالى يريد أن يمسك برأس اخيه بيديه، وهو يحمل التوارة في يديه، وهو يريد أن يسرع في افراغ يديه من التوراة حتى يمسك برأس اخيه، وهذا الذي جعله بدلًا من أن يضع الْأَلْوَاحَ أن يلقي الْأَلْوَاحَ.
فقوله تعالى (وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ) صورة للعجلة الناشئة من الغضب والغيرة لله تعالى.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى لَيْسَ الْمُعَايِنُ كَالْمُخْبَرِ، أَخْبَرَهُ رَبُّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّ قَوْمَهُ فُتِنُوا، فَلَمْ يُلْقِ الأَلْوَاحَ فَلَمَّا رآهم وَعَايَنَهُمْ أَلْقَى الْأَلْوَاحَ .
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وغضب موسي هذا الكبير جدًا ليس غضبًا مذمومًا، لأنه غضب لله تعالى، وقد قلنا أن أشبه الصحابة بموسي هو "عمر بن الخطاب" يقول الرسول ﷺ في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده "وان مثلك يا عمر كمثل موسي" ولم ينكر الرسول ﷺ على عمر -رضى الله عنه- ولو مرة واحدة غضبه لله تعالى، قد ينكر عليه فعل ناشي من غضبه، كما قال ﷺ في قصة "زيد بن سَعْنَة" اذهَبْ بهِ يا عُمرُ، وأَعْطهِ حقَّهُ، وزِدْهُ عشرينَ صاعًا مِن تمرٍ مكانَ ما رُعْتَهُ"
فالله - تعالى- لم ينكر على موسي غضبه، لأنه غضب لله تعالى، وانما أنكر عليه هذا الفعل الناشيء من الغضب وهو القاء اللواح.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ)
يعنى أخذ يجر هارون من ذوائبه، وفي سورة طه أنه جذب أَخِيهِ هارون من شعر لحيته وشعر رأسه.
وكان غضب موسي من هارون لأنه اقام معهم وهم على هذه المعصية، كأنه راض بما هم فيه من معصية، وكان يجب على هارون -من وجهة نظر موسي- أن يردعهم عن هذا الأمر -كما فعل موسي بعد ذلك عندما حرق العجل وألقاه في اليم- وان لم يستطع أن يتركهم وأن يتبع موسي الى جبل الطور، لا أن يظل مقيمًا معهم وهم على هذه المعصية، كأنه راض بما هم فيه من معصية، قال تعالى في سورة طه (مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلا تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي)
خاطب هارون أخيه موسي وقال له (ابْنَ أُمَّ) استعطافًا له.
في سورة طه قال تعالى (قَالَ يا ابْنَ أُمَّ) اشارة الى أن هارون لم يقل هذه الجملة مرة واحدة، كأن هارون قال لموسي: ابْنَ أُمَّ يا ابْنَ أُمَّ، يعنى أخذ يكررها استعطافًا لأخيه.
قال بعض المفسرون أن هارون كان أخيه لأمه، وقال البعض أن هارون كان أخيه لأمه وأبيه، ولكنه ذكر أمه، لأنه ذكر الأم يستدعي معاني العطف والرحمة.
(إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي)
يعنى أنا لست مثلك، وأنا لست في قوتك، فلا تحكم على ما كان يجب أن أفعله قياسًا على نفسك.
(إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي)
يعنى قربوا أن يَقْتُلُونَنِي، واذا كانوا قد قربوا أن يَقْتُلُونَنِي، يعنى أنا بذلت معهم أقصي ما أستطيع.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ) ما تفرحهمش فيه.
وكان الرسول ﷺ يتعوذ من شماتة الْأَعْدَاءِ فكان من دعائه ﷺ "اللهمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ الْقَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ" أخرجه البخاري وغيره .
(وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) لا تضعنى أنا وهؤلاء الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وهم عبدة العجل في خانة واحدة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)
لما سمع موسي عذر اخيه قَالَ (رَبِّ اغْفِرْ لِي) أي اغْفِرْ لِي القاء الألواح (وَلِأَخِي) واغفر لأخي ان كان وقع منه تقصير.
(وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ) يعنى اجعل رَحْمَتِكَ تغمرنا.
(وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) توسل الى الله بأحد صفاته تعالى.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(إنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)
(إنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) يعنى إنَّ الَّذِينَ عبدوا الْعِجْلَ من بنى اسرائيل.
(سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ) أي عذاب يوم القيامة.
(وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) وَهوان وصغار فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
(وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) يعنى وبمثل هذا العقاب نعاقب المفترين على الله في كل زمان حتى يوم القيامة.
والإفتراء على الله يكون بالكفر بالله تعالى وبالإبتداع في الدين.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وهذه الاية خاصة بمن ظلت قلوبهم متعلقة بعبادة العجل، يقول تعالى في سورة البقرة (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ)
أما أكثر بنى اسرائيل فقد تابوا الى الله تعالى توبة نصوح عظيمة، حيث قدموا أنفسهم للقتل توبة الى الله تعالى، يقول تعالى في سورة البقرة (فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)
ولذلك قال تعالى في الاية التالية
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآَمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)
(وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ) والمقصود بها هنا سيئة الشرك، وعبادة العجل.
(ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآَمَنُوا) ثُمَّ تَابُوا الي الله تعالى وأخلصوا الإيمان بالله.
(إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) إِنَّ الله تعالى مِنْ بَعْدِ توبتهم لَغَفُورٌ لذنوبهم، رَحِيمٌ بهم.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)
(وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ)
التعبير بسكت يدل على الهدوء، يعنى هدأ غضب موسي.
وقيل ان هذا تشبيه كأن الغضب شخص له قوة ورياسة على موسي، وهذا الشخص يأمر موسي ويحثه على أن يلقي الألواح وعلى أن يأخذ براس أخيه، ويقول هل افعل كذا وكذا، ثم سكت هذا الشخص فهدأ موسي -عليه السلام-
فقوله تعالى (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) يعنى: وَلَمَّا هدأ غضب موسي.
متى هدأ غضب موسي؟ هدأ غضب موسي عندما استعطفه هارون واعتذر له، وبعد أن شاهد ندم قومه وتوبتهم.
يقول تعالى (أَخَذَ الْأَلْوَاحَ) يعنى أَخَذَ الْأَلْوَاحَ التى كان قد ألقاها.
(وَفِي نُسْخَتِهَا) يعنى وَفِيما نُسْخَ في هذه الألواح، يعنى فِيما كُتِبَ في هذه الألواح.
(هُدًى) هداية الى الطريق الحق.
(وَرَحْمَةٌ) من الله تعالى.
(لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ)
الرهب هو شدة الخوف، يعنى لِلَّذِينَ يخافون من خالقهم أشد الخوف.
وهذه ناخذ منها أن الذي يستفيد من المنهج هو الذي يخاف من الله تعالى، وكلما اشتد خوفك من الله كلما عظمت استفادتك من المنهج.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
آخر خطارة في هذ الدرس حول قوله تعالى (أَخَذَ الْأَلْوَاحَ) وقلنا أن المعنى يعنى أَخَذَ الْأَلْوَاحَ التى كان قد ألقاها.
ذهب بعض العلماء الى أن موسي -عليه السلام- عندما القي الْأَلْوَاحَ تكسرت، فلما تكسرت الْأَلْوَاحَ رفعت ولم يبقي الا سدسها فقط.
وقالوا أن الله تعالى عندما تحدث عن الألواح قال (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ) يعنى ألواح التوراة كان فيها: مَوْاعِظَ وَتَفْصِيل أحكام الحلال والحرام، فلما ألقاها موسي ثم أخذها، قال تعالى (أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ) يعنى المواعظ ولم يذكر أحكام الحلال والحرام، كأن الذي رفع من التوراة هي تفصيل أحكام الحلال والحرام، والذي بقي منها هي أحكام الحلال والحرام مجملة.
اذن بالرغم من توبة بنى اسرائيل هذه التوبة النصوح العظيمة كما ذكرنا، فان هناك عقاب نزل على بنى اسرائيل، وهو رفع خمسة اسداس التوراة، والتى فيها الأحكام مذكورة بالتفصيل
والذي نستفيده من هذا التفسير: أن كل معصية لابد لها من عقاب، ولابد لها من شؤم، حتى لو تاب الإنسان عن هذه المعصية، فالتوبة من المعصية فيها النجاة من العذاب يوم القيامة، ولكن هذا لا يمنع شؤمها في الدنيا.
مثلًا: رجل كان يسرق ثم تاب توبة نصوح، يغفر الله له هذا الذنب، ولكن سيظل يعاني من السمعة السيئة.
شاب كان له علاقات خارج اطار الزواج، ثم تاب توبة نصوح، ستظل هناك آثار سلبية من جراء هذه العلاقات على علاقته بزوجته بعد ذلك.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
لِمُطَالَعَة بَقِيَةِ حَلَقَات "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم"
لِمُشَاهَدَة حَلَقَاتِ "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم" فيديو
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
|