الحلقة رقم (468)
تفسير وتدبر الآيات من (175) الى (178) من سورة "الأَعْرَاف" (ص 173)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)
طالما قال تعالى (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا) اذن الآية تتكلم عن شخص بعينه.
وليس هناك حديث صحيح عن النبي ﷺ في تحديد هذا الشخص
فذهب أكثر المفسرون الى أنها نزلت في رجل من بنى اسرائيل اسمه "بَلْعَام بن باعوراء" أو "بِلْعَام بن باعوراء" أو "بلعم بن باعورا" وهم قالوا هذا نقلًا عن التوراة، وقصة "بَلْعَام بن باعوراء" جائت في سفر "العدد" الفصول 22 و23 و24 ، والنقل عن كتب بنى اسرائيل لا شيء فيه، لأن الرسول ﷺ قال في حديث رواه البخاري وغيره "حدثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج" ولكن قصة "بلعام بن باعوراء" في التوراة فيها اختلاف، ولذلك نجد اختلاف في قصة "بلعام بن باعوراء" في كتب التفسير.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
فقيل أن هذا الرجل كان في زمن موسي -عَلَيْهِ السَّلامُ- وكان من أكثرهم علمًا، ولذلك قال تعالى (آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا) يعنى علم التوراة، فلما مات موسي -عَلَيْهِ السَّلامُ- بُعِّثَ يوشع بن نون -عَلَيْهِ السَّلامُ- فحقد "بِلْعَام" على "يوشع بن نون" لأنه كان يطمع أن يكون هو النبي بعد موسي، فلما دعا "يوشع بن نون" بنى اسرائيل الى قتال الجبارين ودخول بيت المقدس، خالفه " بِلْعَام بن باعوراء" ولحق بالجبارين ودعاهم الى قتال بنى اسرائيل.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وقيل في شأن "بلعام بن باعوراء" قصة أخري وهي ان موسي -عَلَيْهِ السَّلامُ- أرسله الى ملك "مدين" ليدعوه الى عبادة الله وحده، فاستماله ملك "مدين" بالمال والنساء، حنى كفر بموسى -عَلَيْهِ السَّلامُ- بل وكان يلعن موسي -عَلَيْهِ السَّلامُ-
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وقيل أن هذه الآية الكريمة نزلت في "أمية بن ابي الصلت" وكان من رؤساء "ثقيف" وشعرائها المعروفين، وكان في الجاهلية على الحنيفية، ومن الدعاة الى التوحيد ونبذ الأصنام، وقرأ كثيرًا من كتب اليهود والنصاري، وتعلم العلم، فلما بعث الرسول ﷺ قالوا له: "بعث النبي الذي كنت تنتظر" ولكنه حسد الرسول ﷺ على النبوة ولم يؤمن به ومات على الكفر.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وهناك قول ثالث أنها نزلت "أبي عامر الراهب" وكان من الخزرج، وكان قد تنصر في الجاهلية، وقيل أنه كان على الحنيفية، فلما قدم الرسول ﷺ الى المدينة حقد عليه وكفر به وخرج الى مكة، وأخذ يحرض المشركين على قتال الرسول ﷺ ، وقاتل المسلمين في حنين، فلما انهزم المشركون في حنين يئس وخرج الى الشام ومات هناك.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
اذن هناك خلاف في كتب التفسير في تعيين الشخص المقصود في هذه الآية الكريمة، ولكن الغالب أنه "بلعام بن باعوراء" وان كانت قصته تنطبق على "أمية بن ابي الصلت" وتنطبق على "أبي عامر الراهب" فهي تبدو وكأنها قصة واحدة: رجل آتاه الله العلم والهداية، وطمع أن يكون نبيًا، فلما جائت النبوة الى غيره، ارتد من الايمان الى الكفر.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وقد تعمد القرآن الكريم ألا يعين اسم هذا الشخص، ولا عينه الرسول ﷺ، حتى لا ينصرف ذهن القارئ الى هذا الشخص بالتحديد، لأن المهم هو العبرة من ذكر قصة هذا الشخص.
ومحور القصة التي يريد القرآن العظيم أن يلفتنا اليها، أن رجلًا ما، آتاه الله العلم الكثير النافع، وهداه الى التوحيد، ولكنه لم ينتفع بهذا العلم، وانقلب من الايمان الى الكفر، ومن الهدي الى الضلال.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا)
يعنى وَاتْلُ يا محمد على قومك خبر هذا الرجل، الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا، يعنى آَتَيْنَاهُ العلم الكثير النافع (فَانْسَلَخَ مِنْهَا) يعنى ولكنه لم ينتفع بهذا العلم، بل نبذه وراء ظهره وتركه، كما تنسلخ الحية من جلدها وتتركه.
وهذا التعبير بالانسلاخ فيه عدة اشارات: اشارة إلى أنه كان متمكنًا من العلم.
اشارة الى أن الشخص الذي يترك التدين بعد أن كان متدينًا، يعاني معاناة شديدة كمعاناة الحيوان الذي يسلخ جلده.
يعنى الشخص البعيد عن الله يعاني في حياته، ولكن الذي كان قريبًا من الله تعالى، ثم سار بعد ذلك في طريق الضلال، فان معاناته أكبر.
سمعت بالأمس أحد العلماء يقول: إذا كنت في طريق الله فأنت انسان سعيد في حياتك، وليس هناك أحد أسعد منك الا شخص أقرب الى الله منك.
سألوا مرة أحد العلماء هل أنت سعيد، قال جدًا، فقال له: ليس عندك مشاكل في حياتك قال عندي مشاكل كثيرة، ولكن أقول لك: لو أن شخصًا فقيرًا جدًا شديد الفقر، يعيش في غرفة صغيرة تحت السلم، عنده سبعة أولاد، لا يجد عمل، ولا يجد ما يطعم به أولاده، ولا أن يدخلهم مدارس، ولا أن يحضر مصاريف العلاج لأنه التي تعيش معه، ثم قيل له فجأة أن عمك الذي يعيش في البرازيل توفي، وأنت الوريث الوحيد، وترك ثروة عشرة ملايين دولار، قال لهم متى أستلم هذه الثروة، قالوا له الإجراءات ستستغرق ثلاثة أشهر، تخيل كيف سيكون في هذه الشهور الثلاثة؟ هل سيكون سعيد أم تعيس؟ سيكون سعيدًا، لأنه يعلم أن معاناته ستنتهي قريبًا جدًا، كذلك المؤمن مهما مر به من مشاكل في حياته وصعوبات وابتلاءات، هو يعلم أن هذه المعاناة ستنتهي سريعا جدًا وسيكون مصيره الجنة التي فيها ولا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى، (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ)
يعنى فلحق به الشيطان وأدركه، لأنه هو الذي اختار طريق الضلال، وهو الذي سار في طريق الضلال، فلما رآه الشيطان يسير في طريق الضلال لحق به وصحبه وتمكن منه.
وقال بعض المفسرين أن التعبير بقوله تعالى (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ) مبالغة في ذم هذا الانسان، حتى أنه صار امامًا للشيطان والشيطان يتبعه، فهو كما قال الشاعر:
وكنتُ فتًى مِن جُندِ إبليسَ فارتقى ... بيَ الأمرُ حتى صار إبليسُ مِن جُندي
(فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ)
أي فأصبح من الضالين ومن المضلين لغيره.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)
(وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَذا العلم.
(وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) ولكن آثر حطام الدنيا وزينتها.
(وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) وسار خلف شهوات نفسه ولذاتها.
(فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ)
فَهذا الرجل مَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ (إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ) يعنى ان تُطارده وتُهاجمه فانه يجري منك ويلهث، (أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) وإذا تركته فانه يلهث كذلك
يلهث يعنى ينهج ويخرج لسانه.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
أولًا: ما سبب هذه الظاهرة عند الكلب؟
يقول علماء الأحياء أن الانسان عندما يبذل مجهودًا كالجري مثلًا، فان الغدد العرقية في الجلد تقوم بإفراز العرق لخفض درجة حرارة الجسم، أما الكلب فان جلده ليس به غدد عرقية ولذلك فهو يفتح فمه ويخرج لسانه ويلهث، حتى يعرض أكبر مساحة من الفم واللسان للهواء حتى يخفض حرارة جسمه، ويفعل ذلك سواء في فترات التعب أو الراحة.
اذن الكلب وهو متعب يلهث، وهو مرتاح يلهث كذلك.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
فشبه الله تعالى ذلك الرجل الذي ترك الآخرة، وجعل شغله الشاغل هو جمع حطام الدنيا وزينتها، بالكلب الذي يلهث دائمًا سواء كان متعبًا أو مرتاحًا، لأن الذي همه الدنيا يكون متعبًا دائمًا، ومهما جمع من حطامها وزينها فهو لا يرتاح أبدًا.
يقول الرسول ﷺ "لَوْ كانَ لاِبْنِ آدَمَ وادِيانِ مِن مالٍ لابْتَغَى وادِيًا ثالِثًا"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا)
يعنى وهذا مَثَلُ كل من كَذَّب برسل الله، فهم في هم دائب متصل ولا راحة لهم في الدنيا أبدُا.
(فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)
فَاقْصُصِ على أمتك هذا الْقَصَصَ رجاء ان يتفكروا ويتدبروا ويتعظوا.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا)
أي بئس مثلاً مثلُ القوم المكذبين بآيات الله
لأن الله تعالى شبههم أولًا بالحية التي تغير جلدها، ثم شبههم بالكلب الذي يلهث دائمًا سواء كان مرتاحًا أو متعبًا.
يقول مجاهد "هذه في كل من يقرأ القرآن ولا يعمل به"
فكل من يقرأ القرآن ولا يعمل به له نصيب من هذا التشبيه
ولذلك فقد تسمع البعض حين يتحدث عن علماء السوء يقول أنهم بلاعيم
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)
يعنى هؤلاء الذين كذبوا بآيات الله، وهؤلاء الذين يبيعون دينهم بدنياهم، يَظْلِمُونَ أنْفُسَهُمْ لأنهم يعرضونها الى العذاب.
يقول ابن عباس "أن الله أعز من ان يظلمه أحد"
ويقول الله تعالى في الحديث القدسي "يا عبادي انكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)
هذه الجملة تذييل للقصة، وفيها تلقين للعبد بأن يتوجه الى الله تعالى بطلب الهداية منه، والعصمة من مزالق الضلال.
يقول تعالى (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي) يعنى مَنْ يوفقه اللَّهُ للهداية فَهُوَ الْمُهْتَدِي حقًا
(وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) وَمَنْ يحرم هذا التوفيق فهو الضال الذي يخسر الدنيا والآخرة.
فالهداية هي أعظم مطلوب، ولذلك فنحن ندعو الله تعالى ونطلب منه الهداية في اليوم سبعة عشر مرة على الأقل، فنقول في الصلاة في سورة الفاتحة (اهدنا الصراط المستقيم) سبعة عشر مرة على الأقل.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
لِمُطَالَعَة بَقِيَةِ حَلَقَات "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم"
لِمُشَاهَدَة حَلَقَاتِ "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم" فيديو
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
|