الحلقة رقم (473)
تفسير وتدبر الآيات من (189) الى (198) من سورة "الأَعْرَاف" (ص 175)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) يعنى هُوَ تعالى الَّذِي خَلَقَكُمْ أيها البشر (مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) وهو آدم -عَلَيْهِ السَّلامُ-
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وهذا من عظيم قدرة الله تعالى، أن كل هذه الأعداد الكبيرة جدًا من البشر جاءت من انسان واحد فقط.
يقول العلماء أن عدد الذين عاشوا على الأرض منذ خُلِّقَ آدم -عَلَيْهِ السَّلامُ- وحتى الآن أكثر من مئة مليار انسان، كل هذه الأعداد الكبيرة جدًا، وغيرها الى قيام الساعة جاءت من انسان واحد فقط، وهذا من عظيم قدرة الله تعالى.
وقلنا في الحلقة السابقة أن هذا أمر انفرد به الله تعالى، لأن الانسان مهما بلغ به العلم، فانه لم ولن يستطع أن يصنع شيئًا يأتي بمثله، بينما خلق الله تعالى الانسان -مثلًا- وجاء منه كل هذه الملايين والمليارات من البشر، وغير الإنسان سائر المخلوقات.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالي (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا)
يعنى وخلق الله تعالى حَوَّاءُ من جسد آدم، مِنْ ضِلْعٍ مِنْ أَضْلاعِه.
وقوله تعالى (لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) اللام لام السببية، يعنى خلق الله تعالي حواء من جزء من أجزاء آدم حتى يَسْكُنْ إِلَيْهَا، ويتعلق بها، كما يتعلق الانسان بابنه لأنه جزء منه.
أو أن المعنى أن الله تعالى خلق حواء من جنس آدم ومن طينته، أيضًا حتى يَسْكُنْ إِلَيْهَا، لأن الأشياء تميل وتحن الى ما يماثلها في الطبيعة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
قوله تعالى (لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) إشارة الى حاجة الزوج من زوجته، وحاجة المرأة من زوجها، وهو "السكن"، يعنى أن الرجل تكون حياته خارج بيته في اضطراب، ثم يعود الى بيته فيسكن الى زوجته، ولذلك سمي البيت مسكن -أيضًا- من السكون، ولذلك نقول إن البيت إذا فقد السكينة انهدم البيت.
ولذلك من أعظم ما يحل المشاكل الزوجية، هو جلسات الذكر بين الرجل وزوجته وأولاده، تكون هناك مقرأة يومية أو أسبوعية في البيت، فتنزل على هذه الأسرة السكينة، وتغشاهم الرحمة، وتحفهم الملائكة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالي (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ)
قوله تعالى (فَلَمَّا تَغَشَّاهَا) تَغَشَّاهَا من الغشاء وهو الغطاء، وهي كناية عن الجماع.
واختيار هذه الكناية إشارة الى أحد أهم أسس العلاقة بين الزوج والزوجة، وهي أن كل واحد منهما يجب أن يكون غطاء للآخر.
وهذا مثل قوله تعالى في سورة البقرة (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ)
(كما نقول كل واحد ستر وغطاء على الآخر)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ) يعنى فَلَمَّا جامعها، (حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا) وهذا يكون في بداية الحمل، وهو أن يكون خفيفًا، وقد تظل المرأة حامل لعدة أشهر دون أن تعلم أنها حامل.
ولذلك قال تعالى (فَمَرَّتْ بِهِ) يعنى تروح وتجيء بهذا الحمل دون مشقة، لأنه يكون خَفِيفًا في أوله، وهذا من صور رحمة الله -تعالى- بكل المخلوقات.
(فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) يعنى فَلَمَّا ثقل عليها الحمل، بعد عدة أشهر من بداية الحمل.
(دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا) اما أن المقصود هو أن آدم وحواء دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا.
أو ان المقصود هو: مطلق الزوج والزوجة.
(لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)
يعنى لَئِنْ آَتَيْتَنَا بشرًا سويًا مثلنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وروي عن بعض الصحابة والتابعين في تفسير هذه الآية أن حواء لما كبر بطنها، جاءها ابليس وجعل يوسوس لها، ويقول لها: مَا يُدْرِيكِ مَا فِي بَطْنِكِ كَلْبٌ أَوْ خِنْزِيرٌ أَوْ حِمَارٌ؟ وَمَا يُدْرِيكِ مِنْ أَيْنَ يَخْرُجُ مِنْ دُبُرُكِ فَيَقْتُلَكِ، أَمْ يَنْشَقَّ بَطْنُكِ فَيَقْتُلَكِ؟ فأخبرت حواء آدم بهذا، فركبهما الهم لذلك، وأخذا يدعوان الله تعالى ويتضرعان اليه: (لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا) يعنى بشرًا سويًا (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم يقول تعالى (فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)
الآية السابقة تحدثت عن آدم -عَلَيْهِ السَّلامُ- وحواء، ثم تستطرد هذه الآية وما بعدها في الحديث عن المشركين من ذرية آدم، فيقول تعالى: (فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا)
يعنى فَلَمَّا آَتَاهُمَا الله -تعالى- وهما الأبوين المشركين- بشرًا سويًا سليمًا، كما كانا يطلبان.
(جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا)
جَعَلَا لَله تعالى شُرَكَاءَ فِيمَا أعطاهما، وفِيمَا رزقهما وهو هذا الولد.
وكان من صور ذلك عند العرب في الجاهلية، أن الرجل كان اذا رُزقَ بولد ذبح للأصنام، وكانوا يسمون أولادهم بأسماء مثل: "عبد العزي" "عبد شمس" "عبد قيس" "عبد مناف".
(فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) تنزّه وتقدّس الله -تعالى- عما ينسبه إليه هؤلاء المشركون
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ملاحظة: بعض كتب التفسير ذهبت الى أن كل هذه الآيات خاصة بآدم وحواء، وذكروا في ذلك قصص مطولة، فقالوا إن حواء ولدت ولد فسمته "عبد الله" فمات ولدها، ثم ولدت ولد آخر وسمته "عبيد الله" فمات، ثم حملت بثالث فوسوس لها ولآدم وقال لهما: أتظنان أن الله تارك عبده عندكما؟ والله ليذهبن به كما ذهب بالآخرين، ولكن سمياه "عبد الحارث" فانه يعيش، وكان اسم ابليس في السماء قبل أن يُطْرَد من الجنة "الحارث" فأدرك آدم وحواء حب الولد، فسمياه "عبد الحارث"
فروي عن النبي ﷺ أنه قال: "خدعهما مرتين خدعهما في الجنة وخدعهما في الأرض"
وهذا الاتجاه في التفسير فيه اتهام لآدم وحواء بنوع من أنواع الشرك، وهو شرك التسمية، ولذلك رفضه بعض المفسرون، وقالوا إن هذا هو أمر مستبعد في حق آدم وحواء، وقالوا أن الآثار التي وردت في هذا الشأن غير صحيحة، وأنها من الاسرائيليات.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم يقول تعالى (أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)
الاستفهام للتوبيخ والتقريع يعنى أَيُشْرِكُونَ مع الله تعالى في العبادة آلهة أخري، لم تخلق أي شيء، بل ان هذه الآلهة مخلوقة لله تعالى، ساء كانت اصنام، أو حيوان، أو انسان.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم يقول تعالى (وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192)
يعنى ولا تستطيع هذه الأوثان والأصنام أن تنصر من يعبدها، ولا حتى تستطيع أن تنصر نفسها.
يعنى إذا كان أحد المشركين يعبد صنمًا من الحجارة، وجاء أحدهم وكسر هذا الصنم -كما فعل إبراهيم -عليه السلام- فان هذه الأصنام لا تستطيع أن تدافع عن نفسها، وإذا كان بعض المشركين يعبدون شجرة، كما كان يفعل قوم شعيب، وجاء أحدهم وقطع هذه الشجرة، فان الشجرة لا تستطيع أن تمنعه، وهكذا.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)
يعنى إذا طلبت من هذه الأصنام الهداية فانهم لا يستجيبون لكم.
ومن أهم صفات الإله المستحق للعبادة هو أن يهدي الى الطريق المستقيم.
أو أن الآية فيها التفات الى خطاب المشركين، يعنى وان تدعوا المشركين إِلَى الْهُدَى، وهو الإسلام، فانهم لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُون.
وهذا مثل قوله تعالى في سورة البقرة (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194)
يعنى هذه الأصناف التي تعبدونها من غير الله تعالى، وتتوجهون اليها بالدعاء من غير الله تعالى.
(عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ) يعنى هي مخلوقة ومملوكة ومسخرة ومذللة لله تعالى، مثلها مثلكم.
(فَادْعُوهُمْ) يعنى فاطلبوا منهم.
(فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)
وهذا أمر على وجه التعجيز والتحدي
يعنى إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ في أنها آلهة تنفع أو تضر فاجعلوهم يَسْتَجِيبُوا لدعائكم.
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: يُجَاءُ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُلْقَيَانِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ، وَيُجَاءُ بِمَنْ كَانَ يعَبُدُهُمَا فَيُقَالُ: فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
روي أن رجلًا كانوا يدعو صنمًا في زمن موسي -عَلَيْهِ السَّلامُ- ويقول: يا صنم، فكان لا يستجيب له، فأخطأ يومًا وبدلًا من أن يقول "يا صنم" قال "يا صمد" فاستجاب الله تعالى، فقال موسي: يا رب انه أخطأ، فقال تعالى: يا موسي إني كريم أستحي ان ناداني أحد أن أرده صفرًا
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)
هذا تبكيت بعد التبكيت.
يعنى هذه الأصنام ليس َلهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا، ولا أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا، ولا أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا، ولا آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا، يعنى هذه الأصنام أقل منكم في الخلق، فكيف تعبدون من هو أقل منكم في الخلق؟
قلنا من قبل أن الأجناس الموجودة في هذا العالم هي: الانسان والحيوان والنبات والجماد، وبالاستقراء وجدنا ان الانسان يخدمه الحيوان والنبات والجماد، والحيوان يخدمه النبات والجماد، والنبات يخده الجماد، أما الجماد فلا يخدمه أحد، بل هو يخدم النبات والحيوان والانسان، اذن فالإنسان هو سيد هذا الكون، وكل الأجناس خلقت لخدمته، والجماد فهو أقل هذه الموجودات، وهو يخدم كل الأجناس التي فوقه، فكيف تصل الحماقة ببعض الناس الى عبادة الجماد والذي هو يخدم خادم خادمه.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وقال البعض أن قوله تعالى (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا) يعنى هذه الأصنام ليس لهم أرجل يمشون بها في مصالحكم.
(أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا) ليس لَهُمْ أَيْدٍ يدفعون بِهَا عنكم، (أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا) يعنى ليس أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ أعمالكم فيجازونكم بها، (أَمْ لَهُمْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا) يعنى ليس لَهُمْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا دعاءَكم وتضرعكم.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ)
روي في سبب نزول الآية أن المشركون كانوا يخوفون الرسول ﷺ بآلهتهم، فقال تعالى (قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ) يعنى قُلِ يا محمد لهؤلاء المشركين نادوا هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله
وقوله تعالى (شُرَكَاءَكُمْ) يعنى التي في عرفكم وفي اعتقادكم أنها شركاء لله تعالى.
(ثُمَّ كِيدُونِ) يعنى ثُمَّ حاولوا ايذائي أو حاولوا قتلى أنتم وهذه الآلهة.
كانت العرب تقول: غزا فلم يلق كيدًا، فالكيد في اللغة تفيد الإيذاء وتفيد الحرب.
(فَلَا تُنْظِرُونِ) من الإنظار والإمهال، يعنى افعلوا هذا الآن فوراً ولا تنتظروا.
يقول العلماء أن القرآن فيه ثلاث تحديات: هذا التحدي.
وتحدي نوح لقومه (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ)
وتحدي هود لقومه (إِنّى بَرِيء مّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(ِإنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)
من أين جئت بهذه القوة يا محمد حتى تتحدي كل قومك؟ يقول تعالى (ِإنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ) يعنى: أن من يتولى أمري ويتولى حفظي، ويتولى نصرتي، هو الله.
(الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ) جملة معترضة، يعنى الذي يتولى أمري هو الذي نَزَّلَ هذا القرآن العظيم، والذي أنزل هذا الكتاب المعجز، لابد أن تكون من صفته العلم والقدرة والقوة.
أو أن قوله (الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ) يعنى أن الله أنزل علىَّ الكتاب وأمرني بابلاغه الى الخلق، ولا يمكن أن يسلمنى الى عدو يمنعنى من تمام البلاغ عن الله.
(وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ)
يعنى هذه الولاية وهذه النصرة ليست خاصة فقط بالرسول ﷺ، ولكن الله تعالى يَتَوَلَّى جميع الصَّالِحِينَ من عباده ولا يخذلهم.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
قال العلماء في قوله تعالى (ِإنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ) أن هذه إشارة الى أن ولاية العبد، ومدي قربه من الله، هي بقدر قربه من كتابه، كما قال تعالى (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
روي أن "عمر بن عبد العزيز" لم يكن يدخر لأولاده شيئا، فقيل له في ذلك فقال: ولدي إما أن يكون من الصالحين أو من المجرمين، فإن كان من الصالحين، فقد قال تعالى (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) فمن كان وليه الله، فلا حاجة له إلى مالي، وإن كان من المجرمين فقد قال تعالى: (فلن أكون ظهيرا للمجرمين)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197)
يعنى أنا وَلِيِّيَ اللَّهُ وهو نصيري وهو ظهيري، أما أنتم فان الأصنام التي تَدَّعُون وتقولون انها آلهة، لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا يَسْتَطِيعُونَ حتى أن ينصروا أنفسهم.
بعد الهزيمة النسبية للمسلمين في الجزء الثاني من معركة أحد، أشرف "أبو سفيان" على الجبل ونادي "لنا العزي ولا عزي لكم" فقال الرسول ﷺ "ألا تجيبونه" قال الصحابة: ما نقول" قال ﷺ قولوا: "الله مولانا ولا مولى لكم"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
في الآية رقم (92) قال تعالى نفس المعنى، قال تعالى (وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ)
وفي هذه الآية قال تعالى (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ)
قال العلماء: هناك فرق بين الآية (92) وهذه الآية، لأن في الآية (92) ذكر تعالى هذا المعنى على جهة التوبيخ والتقريع
أما في هذه الآية (197) ذكر تعالى هذا المعنى على وجه الفرق بين صفة من تجوز عبادته ومن لا تجوز، وأن هذه الآلهة من الضعف والعجز بحيث لا تستطيع أن تنصر أحد ولا حتى تنصر نفسها.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)
(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا)
يعنى وإذا طلبتم من هذه الأصنام الهداية والرشد، فانهم لَا يَسْمَعُوا كلامكم ولَا يَسْمَعُوا دعائكم.
(وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ)
يعنى وَتَرَي هذه الأصنام تنظر اليك بأشكال العيون التي فيها، ولكنها في الحقيقة لا تبصر.
فهي من نحو قول العرب: هذه الشقة تنظر على الشارع أو تنظر على الحديقة.
اذن المقصود بالآية هو توبيخ المشركين -مرة أخري- على عبادة هذه الجمادات التي لا تسمع ولا تري.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وقيل أن المقصود بهذه الآية هم المشركون، فانهم مع هذه البراهين وهذه الأدلة على ان هذه الأصنام لا تضر ولا تنفع، فكأنهم لا يسمعون كلامك، وكأنهم لا يرون الحق، مع أنهم ينظرون الى هذا الحق بأعينهم.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
لِمُطَالَعَة بَقِيَةِ حَلَقَات "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم"
لِمُشَاهَدَة حَلَقَاتِ "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم" فيديو
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
|