الحلقة رقم (475)
تفسير وتدبر الآيات (200) و(201) و(202) من سورة "الأَعْرَاف" (ص 176)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)
تحدثنا في الآية السابقة عن قوله تعالى (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)
وقلنا أن معنى الآية هو أن تقابل السيئة بالإحسان
فلما نزلت هذه الآية الكريمة، قال الرسول ﷺ: يا رب فكيف بالغضب؟
يعنى أنت تأمرنا يا رب أن نقابل السيئة بالحسنة، وتأمرنا بأن نعرض عن الجاهلين، يعنى لا نقابل السفاهة بسفاهة مثلها، فماذا نصنع بالغضب؟ فقال تعالى في هذه الآية: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)
ولذلك قال بعض المفسرون في نزع الشيطان أنه الغضب.
ولكن الحقيقة أن نزغ الشيطان هو وسوسة الشيطان.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ما هو النزغ؟
والنزغ هو النغز، و النغز كلمة عربية فصحية.
والنغز يكون بشيء ويكون من مسافة.
وبعد النزغ او النغز يكون المس، وبعد المس يكون اللمس.
اذن هناك ثلاثة مراحل: نزغ، ثم مس، ثم لمس.
فاستخدم تعالى التعبير " نزغ" وهو أول مرحلة ليفيد أن نسرع الى الاستعاذة بالله تعالى مع أقل وسوسة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ليس هذا فقط؟
جاءت كلمة "نزغ" نكرة، والتي تفيد أقل نزغ، يعنى الله تعالى يأمرنا بأن نسرع الى الاستعاذة به تعالى مع أقل نزغ.
لا تنتظر حتى يتمكن لشيطان منك
لأن وسيلة الشيطان هو أن يأخذ الى المعصية خطوة خطوة.
ولذلك كان التعبير القرآني (لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم يقول تعالى (إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)
(إِنَّهُ) تأكيد
(سَمِيعٌ) لاستعاذتك
(عَلِيمٌ) يعنى الله -تعالى- عَلِيمٌ بما يحميك وبما ينقذك من وسوسة الشيطان وهو الاستعاذة، ولذلك أرشد وامرك بالاستعاذة به تعالى عند وسوسة الشَّيْطَان.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)
(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا) يعنى من صفات المتفين أنهم:
(إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ) وقرأت (إِذَا مَسَّهُمْ طَيْفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ) والطائف هو الشيء الذي يمر بك دون أن تشعر به، والمقصود إِذَا وسوس لهم الشَّيْطَانِ.
وقوله تعالى (إِذَا) يعنى بمجرد.
(مَسَّهُمْ) يعنى لم يصل الأمر الى اللمس.
يعنى لم ينتظروا حتى يتمكن منهم الشيطان.
ولكن بمجرد المس: انتفضوا (تَذَكَّرُوا)
(تَذَكَّرُوا) يعنى تَذَكَّرُوا الله تعالى، و تَذَكَّرُوا ثوابه وعقابه، ووعده ووعديه.
وقيل أنها إشارة إلى الاستعاذة المأمور بها في الآية السابقة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)
(إِذَا) الفجائية
كأنه كان أعمي ثم أبصر فجأة، أو كأنه كان مغمي على عينه ثم رفع الغطاء عن عينه فجاة وأبصر.
(فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)
يعنى مُبْصِرُونَ لقبح المعصية، وسوء عاقبتها.
يقول مجاهد في هذه الآية: "هو الرجل يهمّ بالذنب فيذكر الله فيتركه"
وعن سعيد بن جبير: "هو الرجل يغضب الغضبة فيذكر الله تعالى فيكظم غيظه".
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
اذن هذه هي صفة المتقين، لأن الآية بدأت (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا) فصفة المتقين أنهم اذا جائهم أقل نزع من الشيطان، وأقل وسوسة من الشيطان، يتذكروا أوامر الله ونواهيه، ويبصروا السداد، ولا يقعون في المعصية.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وقد جاء في تفسير ابن كثير في هذه الآية الكريمة ما ذكره الحافظ ابن عساكر أن شابا كان يتعبد في المسجد، فهويته امرأة، فدعته إلى نفسها، فما زالت به حتى كاد يدخل معها المنزل، فتذكر هذه الآية "إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون" فخر مغشيا عليه، ثم أفاق فأعادها فمات، فجاء عمر فعزى فيه أباه، وكان قد دفن ليلا، فذهب فصلى على قبره بمن معه، ثم ناداه عمر فقال: يا فتى "ولمن خاف مقام ربه جنتان" فأجابه الفتى من داخل القبر: يا عمر قد أعطاني ربي -عز وجل- جنتين.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ)
وقلنا أن هذا الطائف هو وسوسة الشَّيْطَانِ، كأن الشيطان يطوف بالإنسان، مثل العدو اذي يطوف بأحد القلاع يبحث عن ثغرة في أسوار القلعة، أو ضعف في أحد أجزاء أسوار القلعة، أو أحد الحراس غير موجود، أو نائم أو في غفلة، او حارس ضعيف.
كان العلماء يقولون: الشيطان كاللص الذي يطوف حول البيت، ثم ينظر بعينيه على الضي في البيت
هكذا الشَّيْطَانِ في وسوسته للإنسان، فهو يطوف بقلب الإنسان يبحث عن نقاط ضعف الإنسان، ويترقب أوقات غفلة الإنسان، حتى ينتهز الفرصة وينفذ الى قلبه.
أيضًا فان تشبيه وسوسة الشَّيْطَانِ بالطواف، فيه اشارة الى احاطة الشَّيْطَانِ بالإنسان، وفيه اشارة الى همة الشيطان ونشاطه.
فكأنه يقول لك لابد أن تقابل همة الشيطان بهمة أعلى من همته، وأنك في معركة لا تتوقف مع الشيطان.
(يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا واتقوا الله لعلكم تفلحون)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
نختم بقصة عن الحسن بن على -رضى الله عنهما- حفيد الرسول ﷺ يروي هذه القصة، رجل اسمه "عصام بن المصطلق" يقول: دخلت المدينة فرأيت الحسن بن علي, فأعجبني سمته وحسن روائه، فأثار مني الحسد، مع ما كان يجنه صدري لأبيه من البغض، فقلت : أنت ابن أبي طالب ! قال نعم ، يقول: فشتمته وبالغت في شتمه وشتم أبيه، فنظر الىَّ نظرة عاطف رءوف، ثم قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين " فقرأ إلى قوله : " فإذا هم مبصرون " ثم قال لي: خفض عليك، أستغفر الله لي ولك، إنك لو استعنتنا أعناك، ولو استرشدتنا أرشدناك
يقول: فتوسم في الندم، فقال : " لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين" ثم قال: أمن أهل الشأم أنت ؟ قلت نعم.
فقال : شنشنة أعرفها من أخزم، حياك الله وبياك، وعافاك، انبسط إلينا في حوائجك وما يعرض لك، تجدنا عند أفضل ظنك، إن شاء الله
قال عصام : فضاقت علي الأرض بما رحبت، ووددت أنها ساخت بي، ثم تسللت منه لواذا، وما على وجه الأرض أحب إلي منه ومن أبيه .
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وقوله "شنشنة أعرفها من أخزم" مثل عربي، له قصة، والذي قاله هو "أبو أخزم الطائي" وهو جد "حاتم الطائي" أو جد جده، المهم أن "أبو أخزم الطائي" مات ابنه "أخزم" وترك بنين، ثم اعتدي هؤلاء الأبناء على جدهم حتى أدموه، فقال الجد وهو "أبو أخزم الطائي" شعرًا، وقال في هذا الشعر: " شنشنة أعرفها من أخزم" يعنى سجية وطبيعة أعرفها من ابنه أخزم.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
فقال الحسن بن على "شنشنة أعرفها من أخزم" يعنى هذه هي طبيعة أهل الشام، وهذا أمر ملفت، انظر ما الذي يمكن أن تصنعه الدعاية الفاسدة؟ كيف يمكن أن تجعل الدعاية الفاسدة أناس يبغضون الحسن والحسين وعلى بن أبي طالب، ويسبونهم، يقول الرسول ﷺ ان من البيان لسحر.
أحدهم يقول ان "معاوية بن أبي سفيان" كانت له انجازات عظيمة جدًا للدولة الإسلامية، بينما "الحسن" أو الحسين" ليس عندهما أي انجازات، وهذا قياس غير صحيح على الإطلاق، لأن "معاوية" تولى خلافة الدولة الإسلامية 19 سنة، وهذا لم يحدث لا للحسن ولا للحسين.
والموضوع يمكن أن نتحدث فيه كثيرًا، ولكن لا داعي على الإطلاق في أن نخوض في مثل هذه الأمور، لا نريد أن نقلد الشيعة في هذا الأمر.
هذه أحداث وقعت من 1400 سنة، لماذا نشغل أنفسنا بها الآن؟
مذهب أهل السنة والجماعة أن تلتزم بمقوله عمر بن عبد العزيز الشهيرة: "تلك فتنة عصم الله منها سيوفنا فلنعصم منها ألسنتنا"
"تلك دماء قد طَهّر الله منها يَدِي، فلا أخْضِبُ بها لساني"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
هؤلاء المتقون: (إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)
الغير متقين؟
يقول تعالى (وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)
يعنى وَالغير متقين (إِخْوَانُهُمْ) من الشياطين (يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ)
سماهم (إِخْوَانُهُمْ) ليه؟ لأن همه الإثنين شياطين: هؤلاء شياطين جن، وهؤلاء شياطين انس.
يقول تعالى (وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ)
يعنى شياطين الجن بيكونوا مدد لشياطين الإنس.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ولم يقل تعالى (يَمُدُّونَهُمْ بالْغَيِّ) وانما قال (يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ) لأنهم في الْغَيِّ أصلًا، هم في مستنقع الْغَيِّ، ومستنقع المعصية.
وهؤلاء الشياطين من الجن، فقط (يَمُدُّونَهُمْ) يعنى يعطونهم أفكار جديدة في المعصية، ويشجعونهم على المعصية، ويزينون لهم المعصية.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ) يعنى الشياطين الذين يمدون شياطين الإنس من أهل الشرك والمعاصي، لا يقصرون في عملهم، ولا تسأم ولا تفتر ولا تكل ولا تمل.
وهذا -مرة أخري- يحفز المؤمن، ويعلى همته في مواجهة الشيطان، ومواجهة وسوسة الشيطان، فاذا كان هو لا يقصر في وسوسته، فالواحب على المؤمن ألا يقصر بدوره في الطاعة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وأخرج الحكيم الترمذي عن عمر بن الخطاب قال: "أتاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا أعرف الحزن في وجهه، فأخذ بلحيتي فقال إنا لله وإنا إليه راجعون، أتاني جبريل آنفاً فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون. قلت: أجل، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فما ذاك يا جبريل؟! فقال: إن أمتك مفتتنة بعدك بقليل من الدهر غير كثير، قلت: فتنة كفر أو فتنة ضلالة؟ قال: كل ذلك سيكون. قلت: ومن أين ذاك وأنا تارك فيهم كتاب الله...! قال: بكتاب الله يضلون، وأول ذلك من قبل قرائهم وأمرائهم، يمنع الأمراء الناس حقوقهم فلا يعطونها فيقتتلون، وتتبع القراء أهواء الأمراء فيمدونهم في الغي ثم لا يقصرون، قلت: يا جبريل فيم يسلم من سلم منهم؟ قال: بالكف والصبر، إن أعطوا الذي لهم أخذوه، وإن مُنَّعُوه تركوه"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
لِمُطَالَعَة بَقِيَةِ حَلَقَات "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم"
لِمُشَاهَدَة حَلَقَاتِ "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم" فيديو
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
|