الحلقة رقم (521)
(تًدَبُر القُرْآن العَظِيم)
تفسير وتدبر الآيتين (73) و(74) من سورة "التوبة" ص 199
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ جَٰهِدِ ٱلۡكُفَّارَ وَٱلۡمُنَٰفِقِينَ وَٱغۡلُظۡ عَلَيۡهِمۡۚ وَمَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ ﴿٧٣﴾ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ جَٰهِدِ ٱلۡكُفَّارَ وَٱلۡمُنَٰفِقِينَ وَٱغۡلُظۡ عَلَيۡهِمۡۚ وَمَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ ﴿٧٣﴾
(يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ جَٰهِدِ ٱلۡكُفَّارَ وَٱلۡمُنَٰفِقِينَ وَٱغۡلُظۡ عَلَيۡهِمۡ)
كلمة الجهاد مأخوذة من بذل الجهد، وبذل أقصى جهد.
وجهاد ٱلۡكُفَّارَ معروف أنه بالسيف، وَلكن جهاد ٱلۡمُنَٰافِقِينَ بالسيف غير ممكن لأنهم غير معروفين، لأنهم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، وحتى الذين علم الرسول ﷺ نفاقهم عن طريق الوحي لم يقتلهم النبي ﷺ حتى لا يخاف أو يتردد الذي يريد الدخول في الإسلام، كما قال الرسول ﷺ لعمر "لا يتحدّث الناس أنّ محمّداً يقتل أصحابه" لأن الرسول ﷺ لو كان قد قتل أحد من المنافقين فان دعاة الفتنة سيقولون أن محمدًا يقتل أصحابه، فيخاف الناس من الدخول في الإسلام.
ولذلك قال المفسرون أن قوله تعالى (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ جَٰهِدِ ٱلۡكُفَّارَ وَٱلۡمُنَٰفِقِينَ وَٱغۡلُظۡ عَلَيۡهِمۡ)
يعنى: جاهد ٱلۡكُفَّارَ السيف، واغلظ على ٱلۡمُنَٰافِقِينَ بالكلام.
والغلظة هي الشدة والخشونة في المعاملة.
عن ابن عباس قال: جهاد الكفار بالسيف، وجهاد المنافقين باللسان
ووجه هذا الأمر إلى الرسول ﷺ لأنّه ﷺ جُبل على الرحمة فأمره -تعالى- أن يتخلّى عما جُبِلَ عليه في حقّ الكفار والمنافقين.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَمَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُ)
ومصيرهم دخول جَهَنَّمُ.
وقلنا ان (جَهَنَّمُ) هي أحد أسماء النار، وسميت بهذا الاسم، من قول العرب "بئر جهماء" يعنى بعيدة القعر، فسميت جَهَنَّمُ بهذا الاسم لبعد قعرها.
(وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ)
"بِئۡسَ" أسلوب ذم، يعنى لا مصير أسوأ من هذا المصير وهو الخلود في جهنم.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وروي عن علي -رضى الله عنه- أنه قال: بُعث رسول الله ﷺ بأربعة أسياف: سيف للمشركين قال تعالى (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) وسيف لأهل الكتاب، قال تعالى (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) وسيف للمنافقين قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ) وسيف للبغاة، قال تعالى (فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ)
ولم يستخدم السيف مع المنافقين الا في عهد أبي بكر الصديق في حروب الردة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74)
(يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ)
يعنى هؤلاء المنافقون يقولون كلامًا يسيئون فيه الى الرسول ﷺ والى الإسلام، ثم عندما يصل هذا الكلام الى الرسول ﷺ يأتون الى النبي ﷺ ويحلفون له بأنهم ما قالوا هذا الكلام.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
فقيل في سبب نزول الآية أن أحد المنافقين وهو "الْجُلاسُ بْنُ سُوَيْدِ" لأصحابه: "وَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ صَادِقًا لَنَحْنُ أَشَرُّ مِنَ الْحَمِيرِ" وسمعها ابن امرأة وكان غلامًا اسمه "عامر بن قيس" فغضب وقال: نعم ان ما يقوله محمدًا حقًا، وأنت أشر من الحمير" يقول "عامر" "وخشيت أن ينزل فى قرآن أو تصيبنى قارعة" ثم قال "والله يا عدو الله لأخبرن رسول الله ﷺ" وأخبر الرسول ﷺ فدعا الرسول ﷺ "الجُلاس بْنُ سُوَيْدِ" وقال له: أقلت الذي قال عامر؟ فأخذ الجُلاس يحلف بأنه لم يقل ذلك.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وقيل إنها نزلت في "عبد الله بن أبي بن سلول"، وذلك أنه اقتتل رجلان: رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار، فقال ابن سلول للأنصار: "ألا تنصرون أخاكم؟ وَاللَّهِ مَا مَثَلُنَا وَمَثَلُ مُحَمَّدٍ إِلا كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ" ووصل الخبر الى الرسول ﷺ، فأرسل اليه وسأله، فجعل يحلف بالله ما قاله، فأنزل الله فيه هذه الآية.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
رواية ثالثة عن ابن عباس قال: كان رسول الله ﷺ جالسا في ظل شجرة فقال ﷺ: "سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان، فإذا جاء فلا تكلّموا" فلم يلبثوا أن طلع رجل أرزق فدعاه رسول الله ﷺ فقال له ﷺ: علام تشتمنى أنت وأصحابك؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما قالوا، فتجاوز عنهم وأنزل الله هذه الآية.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وهناك روايات أخري، وتعدد هذه الروايات يدل على انها لم تكن حادثة واحدة، ولكن هذه الأقوال الخبيثة تكررت من المنافقين كثيرًا، ولذلك قال تعالى (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ) ولم يحدد القرآن ما قالوا لأنها -كما قلنا- لم تكن حادثة واحدة، ولذلك جاءت بصيغة الجمع (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ)
يقول تعالى (وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) يعنى وظهر كفرهم بعد أن كانوا يظهرون الإسلام.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم يقول تعالى (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا)
يعنى كانوا يريدون شيئًا لم ينالوه.
ما الذي هموا به ولم ينالوه؟
الذي هموا به ولم ينالوه هو قتل الرسول ﷺ
والرسول ﷺ تعرض لمحاولات قتل كثيرة، سواء من الكفار أو اليهود أو المنافقون.
وهذه أحد ابتلاءات التي تعرض لها الرسول ﷺ، ان الإنسان يشعر أنه مهدد دائمًا بأن يفقد حياته.
وهذه الجملة تشير الى أحد هذه المحاولات، والتي قام به المنافقون، والقصة أن الرسول ﷺ وهو في طريق عودته من "تبوك" الى المدينة، مر على "عقبة" يعنى منطقة صخور مرتفعة، وكان الوقت ليلًا، وحتى يجتاز هذه الصخور اما ان يمر من خلالها أو من فوقها، أو أن يدور حولها، اذا مر من خلال هذه الصخور يكون الطريق مختصرًا، أما اذا دار حولها فيكون الطريق أطول، فقرر الرسول ﷺ أن يمر من خلال الصخور -أو من خلال هذه العقبة- ولكن أمر الجيش ألا يتبعه لأن الطريق ضيق، فتكون هناك خطورة على الجيش اذا مر من خلال هذا الطريق الضيق، فأمر الرسول ﷺ مُنَادِيًا فَنَادَى: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَخَذَ الْعَقَبَةَ، فَلَا يَأْخُذْهَا أَحَدٌ.
وأمر الرسول ﷺ "عمار بن ياسر" و"حذيفة بن اليمان" أن يكونا معه، فأخذ عمار بزمام ناقة الرسول ﷺ ومشي حذيفة خلف الرسول ﷺ فتجمع عدد من المنافقون، عددهم اثنى عشر وقرروا أن يلحقوا بالرسول ﷺ عند العقبة، وأن يسيروا معه هناك، ثم يزاحموا ناقته ﷺ وينفروها، فتطرحه من فوق الصخور، فبينما الرسول ﷺ يسير ومعه عمار أمامه وحذيفة خلفه يسيرون اذ سمعوا وَقْعَ أَخْفَافِ الْإِبِلِ، فأمر الرسول ﷺ "حذيفة" أن يردهم، فانطلق "حذيفة" وأخذ يضرب وجوه رواحلهم بمحجن في يده، وهو يقول: إِلَيْكُمْ إِلَيْكُمْ يَا أَعْدَاءَ اللَّهِ، فعلم هؤلاء المنافقون أن الوحي أعلم الرسول ﷺ بنياتهم فانصرفوا بسرعة ودخلوا في الناس، ثم لحق "حذيفة" بالرسول ﷺ، فلما أدركه قال له الرسول ﷺ: اضرب الراحلة يا حذيفة، وامش أنت يا عمار ورائها، وأسرعوا حتى خرجوا من العقبة وانتظروا الناس، ثم قال الرسول ﷺ لحذيفة: هل عرفت من هؤلاء الركب أحد؟ قال حذيفة: كانت ظلمة الليل وغشيتهم وهم متلثمون، ثم قال: عرفت راحلة فلان وفلان، فقال ﷺ: انهم مكروا أن يسيروا معى حتى إذا طلعت فى العقبة طرحونى منه، قالوا: أولا تأمر بهم يا رسول الله فنضرب أعناقهم؟ قال ﷺ: أكره أن يتحدث الناس ويقولوا: إن محمدا قد وضع يده في أصحابه، ثم ذكر لهم الرسول ﷺ أسمائهم وكانوا اثنا عشر اسمًا، ثم قال لهما الرسول ﷺ: اكتماهم.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم يقول تعالى (وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) يعنى وما كرهوا في الإسلام، (إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) يعنى الذي كرهوه في الإسلام أنهم كانوا في ضنك وفقر شديد وحاجة قبل الإسلام، فلما جاء الإسلام كثر سكان المدينة، واتسعت التجارة وجاءت الغنائم، واصبح لهم دولة.
وهذا الأسلوب يطلق عليه علماء اللغة: " تأكيد المدح بما يشبه الذم"
كما قال النابغة الذبياني: ولا عيبَ فيهم غير أنّ سيوفهم ..... بهِنَّ فُلُول من قِراع الكتائب.
ما نقموا من بني أمية إلا ... أنهم يحلمون إن غضبوا
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) يعنى أنتم لو كنتم فقط من اهل الدنيا، كان المفروض أن تفرحوا بالإسلام.
وقيل إنها نزلت في رجل من المنافقين كان فقيرًا، ثم قتل له مولى، فقضى له الرسول ﷺ بدية اثنى عشر ألف درهم، فأغناه الله بعد أن كان فقيرًا.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم ختم تعالى بترغيبهم وترهيبهم، فقال تعالي: (فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)
يعنى فَإِنْ يَتُوبُوا هؤلاء المنافقون عن نفاقهم ومكرهم بالمؤمنين، يَكُن ذلك خَيْراً لَهُمْ في دنياهم وآخرتهم، وَإِنْ يصروا على الكفر والنفاق يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ -تعالى- عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ.
وقيل أن هذه الآية لما نزلت كانت سببًا في توبة بعض المنافقين، منهم "الجًلاس بن سويد" الذي قال كلمة الكفر: "وَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ صَادِقًا لَنَحْنُ أَشَرُّ مِنَ الْحَمِيرِ" فلما نزلت الآية أتي النبي ﷺ وقال له: يا رسول الله أسمع الله قد عرض عليَّ التوبة، وأنا أستغفر الله وأتوب إليه، فقبل رسول الله ﷺ ذلك منه وحسنت توبته.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم يقول تعالى (وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)
وهذا تذييل قصد به تيئيسهم، يعنى هؤلاء المنافقين ليس لهم أحد يدفع عنهم عذاب الله، أو يحميهم من عقابه، لأن عقابه لن يدفعه دافع إلا هو تعالى.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
لِمُطَالَعَة بَقِيَةِ حَلَقَات "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم"
لِمُشَاهَدَة حَلَقَاتِ "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم" فيديو
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
|