الحلقة رقم (528)
(تًدَبُر القُرْآن العَظِيم)
تفسير وتدبر الآيات من (102) الى (106) من سورة "التوبة" ص 203
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَءَاخَرُونَ ٱعۡتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمۡ خَلَطُواْ عَمَلا صَٰلِحا وَءَاخَرَ سَيِّئًا عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ ﴿١٠٢﴾ خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةٗ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيۡهِمۡۖ إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَن لَّهُمۡۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿١٠٣﴾ أَلَمۡ يَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقۡبَلُ ٱلتَّوۡبَةَ عَنۡ عِبَادِهِۦ وَيَأۡخُذُ ٱلصَّدَقَٰتِ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ ﴿١٠٤﴾ وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ﴿١٠٥﴾ وَءَاخَرُونَ مُرۡجَوۡنَ لِأَمۡرِ ٱللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمۡ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيۡهِمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ ﴿١٠٦﴾
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَءَاخَرُونَ ٱعۡتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمۡ خَلَطُواْ عَمَلا صَٰلِحا وَءَاخَرَ سَيِّئًا عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُور رَّحِيمٌ ﴿١٠٢﴾
نزلت هذه الآية الكريمة في عدد من الذين تخلفوا عن الخروج مع الرسول ﷺ في غزوة "تبوك" واختلف في عددهم، قيل أنهم سبعة وقيل ثلاثة، منهم "أبو لبابة" هؤلاء حين بلغهم أن الرسول ﷺ في طرق عودته من "تبوك" وبلغهم ما نزل من القرآن في شأن المتخلفين عن الخروج، أوثق هؤلاء أنفسهم إلى سواري المسجد، وأقسموا ألا يحلوا أنفسهم حتى يحلهم رسول الله ﷺ فلما قدم الرسول ﷺ من الغزو دخل الى المسجد وصلى ركعتين -كما كان يفعل ﷺ كلما قدم من سفر- فرآهم فقال: من هؤلاء الموثِقُون أنفسهم بالسواري؟ قالوا: هؤلاء تخلفوا عنك يا رسول الله، وأقسموا لا يطلقهم أحد، حتى تطلقهم، وتعذرهم، فقال ﷺ: وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم، حتى يكون الله هو الذي يطلقهم، رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين.
فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية الكريمة (وَءَاخَرُونَ ٱعۡتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمۡ خَلَطُواْ عَمَلا صَٰلِحا وَءَاخَرَ سَيِّئًا عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُور رَّحِيمٌ)
فلما نـزلت الآية أرسل إليهم الرسول ﷺ فأطلقهم وعَذَرَهُم.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (وَءَاخَرُونَ ٱعۡتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمۡ) يعنى وَءَاخَرُونَ أقروا بذنبهم في عدم الخروج، ولم يفعلوا مثل المنافقين الذين جاءوا بأعذار كاذبة.
يقول تعالى (خَلَطُواْ عَمَلا صَٰلِحا وَءَاخَرَ سَيِّئًا)
قال العلماء أن العمل الصالح هو خروجهم في غزوات قبل غزوة "تبوك"، والعمل السيء هو تخلفهم في الخروج في غزوة "تبوك"
أو أن العمل الصالح هو التوبة، والعمل السيء هو عدم الخروج للغزو.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ)
قلنا إن (عَسَى) في كلام البشر تفيد الرجاء، أما (عَسَى) من الله فهي تفيد الوجوب والتحقيق، لأن الله -تعالى- إذا أراد شيئًا فلابد أن يتحقق.
كما قال تعالى في سورة المائدة (فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ) وتحقق الفتح.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
لماذا جاء بكلمة (عَسَى) ؟
أولًا: حتى لا يتكل المخاطب، وانما يكون بين الخوف والرجاء.
ثانيًا: لأن القرآن نزل بلغة العرب، وبعرف الناس، وكان في عرف الناس ذلك الوقت أن السلطان العظيم إذا طلب أحد من شيء، فانه لا يجيبه الا مع كلمة (عَسَى) أو (لعل) إشارة الى أنه ليس لأحد أن يلزمه بشيء.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وهذه الآية وان كانت قد نزلت لسبب مخصوص، الا انها عامة في كل من له أعمال صالحة وسيئة.
روي أن الرسول ﷺ قال رأيت ليلة أسري بي أُمَّتِيَ ضَرْبَيْنِ: ضَرَبٌ عَلَيْهِمْ ثِيَابٌ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ الْقِرْطَاسِ، وَضَرَبٌ عَلَيْهِمْ ثِيَابٌ رَمَدٌ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَنْ هَؤُلاءِ؟ قَالَ: أَمَا أَصْحَابُ الثِّيَابِ الرَّمَدِ: فَإِنَّهُمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وفي الحديث أن الرسول ﷺ رأي ليلة أسري به قوم بيض الوجوه وقوم سود الوجوه، فأتوا نهرا فاغتسلوا فيه، فخرجوا منه وقد خلص من ألوانهم شيء، ثم أتوا نهرا آخر فاغتسلوا فيه فخرجوا منه وقد خلص من ألوانهم شيء، ثم دخلوا النهر الثالث فخرجوا منه وقد خلصت ألوانهم مثل ألوان أصحابهم فجلسوا إلى أصحابهم، فقال ﷺ: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء بيض الوجوه قوم لم يلبسوا إيمانهم بظلم، وأما هؤلاء الذين في ألوانهم شيء، خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فتابوا فتاب الله عليهم، فأما النهر الأول فرحمة الله، وأما النهر الثاني فنعمة الله، وأما النهر الثالث فسقاهم ربهم شرابا طهورا.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وفي البخاري عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله ﷺ لنا: أتاني الليلة آتيان فابتعثاني، فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة، فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء، وشطر كأقبح ما أنت راء، قالا لهم: أذهبوا فقعوا في ذلك النهر، فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم فصاروا في أحسن صورة، قالا لي: فهؤلاء خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا تجاوز الله عنهم.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
اذن هذه الآية-كما قلنا- وان كانت نزلت في قوم مخصوصون، الا انها عامة في كل من له أعمال صالحة وسيئة.
ولذلك يقول "أبو عثمان" من علماء القرن الثالث الهجري: ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة من قوله تعالى: (وَءَاخَرُونَ ٱعۡتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمۡ خَلَطُواْ عَمَلا صَٰلِحا وَءَاخَرَ سَيِّئًا)
(أرجى عندي) يعنى أكثر آية مطمئنة لنا في القرآن -من وجهة نظري- هي هذه الآية.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةٗ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيۡهِمۡۖ إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنٞ لَّهُمۡۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿١٠٣﴾
لما جاء هؤلاء النفر الذين لم يخرجوا للغزو، واعترفوا بذنبهم، وقبل الله -تعالى- توبتهم، جاءوا بكل أموالهم الى الرسول ﷺ وقالوا: يا رسول الله هذه أموالنا التي تخلفنا من أجلها عنك فتصدق بها عنا، واستغفر لنا، فقال ﷺ: "ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا"
فنزل قول الله تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا)
يعنى خُذْ من هؤلاء التائبين الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا صَدَقَةً.
وحرف (ِمِنْ) للتبعيض، يعنى: خُذْ بعض أموالهم، لأن هؤلاء التائبين جاءوا بكل أموالهم، ولم يكن الرسول ﷺ يستحسن أن يتصدق الرجل بكل ماله، فأخذ منهم ثلث مالهم وترك لهم الثلثين.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا)
(تُطَهِّرُهُمْ) يعنى تُطَهِّرُهُمْ من ذنبهم وهو التخلف عن الخروج في غزوة "تبوك"
كما قال ﷺ: "الصدقة تطفئ الخطيئة، كما يطفئ الماء النار"
(وَتُزَكِّيهِمْ) الزكاة لغة هي الطهارة، يعنى تطهر بهذه الصدقة قلوبهم من الأخلاق الذميمة، مثل البخل والشح والطمع والدناءة والقسوة على الفقراء وغير ذلك.
قال العلماء: فيها استحباب أن تصحب التوبة بالصدقة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَصَلِّ عَلَيۡهِمۡۖ إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَن لَّهُمۡ)
الصلاة لغة يعنى الدعاء.
فقوله تعالى (وَصَلِّ عَلَيۡهِمۡۖ) يعنى: وادع لهم بالرحمة والمغفرة وقبول التوبة.
(إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَن لَّهُمۡ) وقرأت: إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَن لَّهُمۡ.
يعنى: إِنَّ دعائك لَّهُمۡ فيه سكن وطمأنينة لقلوبهم، لأنهم كانوا شاعرين بعظم جرمهم وبأن ذنبهم لن يغفر، فاذا دعوت لهم بالمغفرة والرحمة تسكن نفوسهم وتطمئن قلوبهم، وهذا من عظيم رحمة الله -تعالى- بهم.
(وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)
يعنى وَٱللَّهُ (سَمِيعٌ) لكل قول (عَلِيمٌ) بكل فعل.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(أَلَمۡ يَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقۡبَلُ ٱلتَّوۡبَةَ عَنۡ عِبَادِهِۦ وَيَأۡخُذُ ٱلصَّدَقَٰتِ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ ﴿١٠٤﴾
لما ندم هؤلاء الذين لم يخرجوا مع الرسول ﷺ الى "تبوك" وربطوا أنفسهم في سوراي المسجد، واقسموا ألا يحلوا أنفسهم حتى يحلهم رسول الله ﷺ
قال تعالى (أَلَمۡ يَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقۡبَلُ ٱلتَّوۡبَةَ عَنۡ عِبَادِهِ) يعنى الله تعالى وحده هُوَ الذي يقبل ٱلتَّوۡبَةَ لا رسوله ﷺ.
ولذلك قال تعالى (هُوَ) لم يقل: أَلَمۡ يَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَقۡبَلُ ٱلتَّوۡبَةَ عَنۡ عِبَادِهِ، وانما قال (أَلَمۡ يَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقۡبَلُ ٱلتَّوۡبَةَ عَنۡ عِبَادِهِ) يعنى: هُوَ المنفرد بقبول توبة عباده
والآية فيها ترغيب لمن لم يتب في التوبة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
قل تعالى (وَيَأۡخُذُ ٱلصَّدَقَٰتِ) يعنى يقبلها.
ولكن قال تعالى (وَيَأۡخُذُ ٱلصَّدَقَٰتِ) ترغيبًا في الصدقة.
قال العلماء: هذا شرف عظيم لمن يؤدي هذه الطاعة.
عن أبي هُرَيْرَةَ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ "إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ الصَّدَقَاتِ، وَيَأْخُذُهَا بِيَمِينِهِ فَيُرَبِّيهَا لأَحَدِكُمْ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ مُهْرَهُ أَوْ فُلُوَّهُ، حَتَّى إِنَّ اللُّقْمَةَ لَتَصِيرُ مِثْلَ أُحُدٍ، وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ:(هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَا تَصَدَّقَ رَجُلٌ بِصَدَقَةٍ حَتَّى يَضَعَهَا فِي يَدِ اللَّهِ قَبْلَ أَنْ يَضَعَهَا فِي يَدِ السَّائِلِ، ثُمَّ قَرَأَ: هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ)
عَنْ أَبِي زُرْعَةَ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ كَتَبَهُ سُبْحَانَهُ: أَنَا التَّوَّابُ، أَتُوبُ عَلَى مَنْ تَابَ.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
قوله تعالى (وَيَأۡخُذُ ٱلصَّدَقَٰتِ) رد على مانعي الزكاة بعد وفاة الرسول ﷺ لأن الذين منعوا أداء الزكاة بعد وفاة الرسول ﷺ احتجوا بقوله تعالى (خذ من أموالهم صدقة) فقالوا إن الخطاب موجه الى الرسول ﷺ فرد الله عليهم في الآية التالية مباشرة وقال (وَيَأۡخُذُ ٱلصَّدَقَٰتِ) يعنى أن الله تعالى هو الآخذ للصدقات، وليس الرسول ﷺ، والرسول ﷺ هو واسطة، فاذا توفي الرسول ﷺ فخليفته هو الواسطة بعده ﷺ، والله -عز وجل- حي لا يموت.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
من اللطائف التي ذكرها "ابن كثير" في تفسيره عن الحافظ ابن عساكر، عن حَوْشَب قال: غزا الناس في زمان معاوية وعليهم "عبد الرحمن بن خالد بن الوليد" فغل رجل من المسلمين مئة دينار رومية.
فلما عاد الجيش ندم وأتى الأمير فأبى أن يقبلها منه وقال: "قد تفرق الناس، ولن أقبلها منك حتى تأتي الله بها يوم القيامة" فجعل الرجل يأتي الصحابة فيقولون له مثل ذلك، فلما قدم دمشق ذهب إلى "معاوية" ليقبلها منه فأبى عليه، فخرج من عنده وهو يبكي ويسترجع فمر بعبد الله ابن الشاعر السكسكي، وكان أحد علماء "دمشق" فقال له ما يبكيك؟ فذكر له أمره فقال اذهب إلى "معاوية" فقل له اقبل مني خمسك، فادفع إليه عشرين دينارا، وانظر إلى الثمانين الباقية فتصدق بها عن ذلك الجيش فإن الله يقبل التوبة عن عباده وهو أعلم بأسمائهم ومكانهم، ففعل الرجل فلما جاء "معاوية" قال: لأن أكون أفتيته بها أحب إلي من كل شيء أملكه، أحسن الرجل.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ﴿١٠٥﴾
بعد أن أخبر تعالى أنه يقبل التوبة، قال تعالى (وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ) يعنى بعد قبول التوبة عليك أن تجتهد في العمل، لأن التوبة تزيل السيئات، فتصبح هذه المدة السابقة فارغة من العمل الصالح، فيجب عليك أن تزيد من الأعمال الصالحة حتى تعمر هذه الأعمار الفائية بالأعمال الصالحة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ)
يعنى أنتم قصرتم في عدم الخروج في الماضي، فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ، في القادم.
(وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ)
يعنى ثم تعودون بعد الموت الى الله تعالى الذي يعلم السر والعلانية، فيخبركم بأعمالكم ويجازيكم عليها.
والآية فيها ترغيب وترهيب لكل مسلم لأن الله تعالى سيري أعمالنا، وايضًا سيراه الرسول ﷺ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ يوم القيامة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَءَاخَرُونَ مُرۡجَوۡنَ لِأَمۡرِ ٱللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمۡ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيۡهِمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ ﴿١٠٦﴾
و(مُرْجَوْنَ) وقرأت (مرجَئون) والإرجاء هو التأخير والتأجيل.
يعنى هناك قسم آخر من أقسام المتخلفين عن غزوة "تبوك" أخر الله -تعالى- الحكم فيهم.
(إِمَّا يُعَذِّبُهُمۡ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيۡهِمۡ)
(إِمَّا يُعَذِّبُهُمۡ) يعنى يميتهم دون أن يقبل توبتهم
(وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيۡهِمۡ) يعنى يقبل توبتهم.
وهذا القسم الثالث هم الثلاثة التي سيأتي ذكرهم في الآية (118) من هذه السورة وهم: هلال بن أمية، وكعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، ولم يكن تخلفهم عن نفاق ولكن كسلًا وميلًا الى الدعة والراحة، فلما قدم النبي ﷺ لم يربطوا أنفسهم الى سواري المسجد كما فعل "أبو لبابة" واصحابه، ولم يقدموا أعذارًا كاذبة مثل المنافقين، وانما جاءوا الى الرسول ﷺ وقالوا: لا عذر لنا إلا الخطيئة، فأمر الرسول ﷺ باجتنابهم وتأخرت توبة الله عليهم خمسين ليلة وهي نفس مدة التخلف عن النبي ﷺ لأن النبي ﷺ غاب عن المدينة في "تبوك" خمسين ليلة، فلما تمتعوا بالراحة في هذه المدة عوقبوا بهجرهم وتأجيل توبتهم نفس المدة " .
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
والتعبير بإِمَّا قال تعالى (إِمَّا يُعَذِّبُهُمۡ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيۡهِمۡ)
لإثارة القلق والخوف في قلوبهم حتى تصح توبتهم، لأن التوبة لا تكون الا بعد ندم شديد، كما قال ﷺ (التوبة ندم)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم)
وَٱللَّهُ (عَلِيمٌ) بأحوالهم وما تنطوي عليه قلوبهم، (حَكِيم) فيما يفعله بعباده من ثواب أو عقاب.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
لِمُطَالَعَة بَقِيَةِ حَلَقَات "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم"
لِمُشَاهَدَة حَلَقَاتِ "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم" فيديو
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
|