Untitled Document

عدد المشاهدات : 1044

الحلقة (529) من "تَدَبُرَ القُرْآنَ العَظِيم" تفسير وتدبر الآيات من (107) الى (110) من سورة "التَوْبًة" (وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسۡجِدٗا ضِرَارٗا.......

الحلقة رقم (529)
(تًدَبُر القُرْآن العَظِيم)

تفسير وتدبر الآيات من (107) الى (110) من سورة "التوبة" ص 204
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

(وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسۡجِدٗا ضِرَارٗا وَكُفۡرٗا وَتَفۡرِيقَۢا بَيۡنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَإِرۡصَادٗا لِّمَنۡ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ مِن قَبۡلُۚ وَلَيَحۡلِفُنَّ إِنۡ أَرَدۡنَآ إِلَّا ٱلۡحُسۡنَىٰۖ وَٱللَّهُ يَشۡهَدُ إِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ ﴿١٠٧﴾ لَا تَقُمۡ فِيهِ أَبَدٗاۚ لَّمَسۡجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقۡوَىٰ مِنۡ أَوَّلِ يَوۡمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِۚ فِيهِ رِجَالٞ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْۚ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُطَّهِّرِينَ ﴿١٠٨﴾ أَفَمَنۡ أَسَّسَ بُنۡيَٰنَهُۥ عَلَىٰ تَقۡوَىٰ مِنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٍ خَيۡرٌ أَم مَّنۡ أَسَّسَ بُنۡيَٰنَهُۥ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٖ فَٱنۡهَارَ بِهِۦ فِي نَارِ جَهَنَّمَۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ ﴿١٠٩﴾ لَا يَزَالُ بُنۡيَٰنُهُمُ ٱلَّذِي بَنَوۡاْ رِيبَةٗ فِي قُلُوبِهِمۡ إِلَّآ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿١١٠﴾

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

(وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسۡجِدٗا ضِرَارٗا وَكُفۡرٗا وَتَفۡرِيقَۢا بَيۡنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَإِرۡصَادٗا لِّمَنۡ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ مِن قَبۡلُۚ وَلَيَحۡلِفُنَّ إِنۡ أَرَدۡنَآ إِلَّا ٱلۡحُسۡنَىٰۖ وَٱللَّهُ يَشۡهَدُ إِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ ﴿١٠٧﴾
هذه الآية الكريمة لها سبب نزول وهي انه قبل هجرة الرسول ﷺ الى المدينة كان هناك رجل من أشراف المدينة من سادة الأوس أسمه "عبد عمرو بن صيفي" ، وكنيته "أبو عامر" هذا الرجل كان قد  تنصر في الجاهلية، وقرأ في كتب النصاري، وكانت له عبادة، فلقبه قومه بأبي عامر الراهب، وأصبح له نوع من الزعامة والرياسة الدينية في المدينة، فلما هاجر الرسول ﷺ الى المدينة حقد "أبو عامر الراهب" على الرسول ﷺ ولم يؤمن به، ولم ينافق مثل "عبد الله بن أبي بن سلول" وغيره من المنافقين، ولكنه أظهر عداوته للرسول ﷺ 
فلما انتصر المسلمون في "بدر" خرج من المدينة وانضم الى كفار مكة، وأخذ يشجعهم على حرب المسلمين، وأطلق عليه الرسول ﷺ "أبو عامر الفاسق" بدلًا من "أبو عامر الراهب" وخرج مع "قريش" في معركة "أحد" وقبل المعركة عندما اصطف الجيشان، تقدم الى معسكر المسلمين ونادي قومه "الأوس" وقال: يا أهل الأوس أنا أبا عامر الراهب! فردوا عليه: بل أنت أبا عامر الفاسق، وسبوه ونالوا منه، فعاد الى معسكر المشركين مخذولًا.
وبعد معركة "أحد" كان له دور في تجميع القبائل في غزوة "الأحزاب" وبعد فشل غزوة "الأحزاب" ظل في مكة حتى فًتِحَت مكة، فهرب الى "الطائف" فلما أسلمت "ثقيف" خرج الى الشام، وذهب الى "هرقل" ملك الروم يستنصره على النبي ﷺ، فوعده "هرقل" وأقام عنده، وكتب "أبو عامر الفاسق" الى جماعة من قومه من المنافقين من أهل المدينة، وأخبرهم أنه سيأتي بجيش ضخم من الروم ويغزو المدينة، وأمرهم أن يتخذوا لأنفسهم مسجدًا يتجمعوا فيه، ويقدم عليهم فيه من يرسله برسائله اليهم، ويكون هو المكان هو المقر الذي سينزل فيه عندما يقدم عليهم. 
فذهبوا الى الرسول ﷺ واستأذنوه أن يبنوا مسجدًا قريبًا من مسجد قباء، وقالوا أنهم يريد بناء مسجدًا للضعفاء وأهل العلة منهم في الليلة المطيرة، وقالوا أن السيل اذا نزل يقطع بينهم وبين الصلاة في مسجد "قباء" فأذن لهم الرسول ﷺ، فبنوا هذا المسجد ليكون هو المعقل الذي أمر به "أبو عامر الفاسق" فلما فرغوا منه ذهبوا الى الرسول ﷺ وكان ذلك قبل خروجه الى "تبوك" وطلبوا منه أن يأتي اليهم ويصلى فيه، وذلك حتى يعطوا هذا المسجد شرعية، واعترافًا بفضله، فاعتذر الرسول ﷺ اليهم لأنه كان خارجًا الى "تبوك" وقال لهم: "إنا على سفر ولكنا إذا رجعنا - إن شاء الله - آتيناكم فصلينا فيه " فلما كان الرسول ﷺ في طريق عودته من "تبوك" نزل عليه "جبريل" بهذه الآيات الكريمة، والتى سمت هذا المسجد بمسجد الضرار فبعث الرسول ﷺ بمن يهدم هذا المسجد قبل قدومه الى المدينة.
أما "أبو عامر الفاسق" فكان قد دعا عليه النبي أن يموت بعيدا طريدا، فنالته هذه الدعوة فمات في بلاد الروم بعيدًا طريدًا.

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسۡجِدٗا) 
كلمة (ٱتَّخَذُواْ) يعنى هو ليس مَسۡجِدٗا في الحقيقة، ولكنهم "ٱتَّخَذُوه" يعنى اعتبروه مَسۡجِدٗا، وليس كذلك.
كما في قوله تعالى
(عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) 
ذكر المفسرون أن هؤلاء الذين اتخذوا هذا المسجد كانوا اثني عشر رجلا من المنافقين من أهل المدينة، وقد ذكرت كتب التفسير أسمائهم.
ثم ذكرت الآية الأسباب الحقيقة لبناء هذا المسجد، فذكرت الاية أربعة أسباب منصوبة على المفعول لأجله، وهي:

(ضِرَارٗا) يعنى ٱتَّخَذُواْ هذا المسجد من أجل الإضرار بالمؤمنين، والمكايدة لهم، وهم أهل مسجد قباء، لأنه سيصرف الناس من مسجدهم الى هذا المسجد. 
(وَكُفۡرٗا) يعنى حتى يجتمعوا في هذا المسجد للتشاور في عداوة الرسول ﷺ والكيد له، هو كفر بالله تعالى.  
ومنه ايضًا تمكين المنافقين من ترك الصلاة، دون أن يدرك ذلك المؤمنون، لأنهم لا يصلون في مسجد واحد، وفي هذا تسهيل لعمل الكفر.

(وَتَفۡرِيقَۢا بَيۡنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ) يعنى وللتفريق بين المؤمنين الذين كانوا يصلون في مسجد واحد وهو مسجد "قباء" فأرادوا أن يكون هناك مسجدًا آخر، حتى يصلى المسلمون في أماكن متفرقة.  
(وَإِرۡصَادٗا لِّمَنۡ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ مِن قَبۡلُ) يعنى وانتظارًا وترقبًا لقدوم (مَنۡ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ مِن قَبۡلُ) وهو "أبو عامر الفاسق" وأن يكون هذا المسجد هو مقر القيادة الخاص بأبي عامر الفاسق، كما ان مسجد الرسول ﷺ هو مقر القيادة الخاص بالرسول ﷺ.
(وَلَيَحۡلِفُنَّ إِنۡ أَرَدۡنَآ إِلَّا ٱلۡحُسۡنَىٰ) 
يعنى وسيحلفون أن مقصدهم من بناء هذا المسجد مقصدًا حسنًا، وهو كما قالوا -كذبًا- تيسير صلاة الجماعة على الضعفاء وأهل العلة في الليالى الممطرة.
(وَٱللَّهُ يَشۡهَدُ إِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ) والله - تعالى - يعلم ويشهد أن هؤلاء المنافقين كاذبون فى أيمانهم.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
اذن الآية تكشف نوايا هؤلا المنافقون الخبثاء من بناء المسجد، وذكر تعالى أنهم بنوا المسجد بقصد الإضرار بأهل مسجد قباء، وحتى يتجمعوا فيها للكيد للرسول ﷺ والمسلمين، ولتفريق الجماعة المؤمنة، وحتى يكون مقرًا لأبي عامر الفاسق عندما يأتي لحرب الرسول ﷺ.


❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

والمفارقة أن "أبو عامر الفاسق" كان أبًا لثلاثة من خيار المسلمين وهم: "عامر" و"حنظلة" و"صيفي" كما أن "عبد الله بن أبي بن سلول" راس المنافقين، كان أبا لواحد من خيرة وسادة الصحابة وهو "عبد الله بن عبد الله بن ابي بن سلول"
وابن "أبو عامر الفاسق" وهو "حنظلة" لقب بغسيل الملائكة، وقصته أنه تزوج في ليلة معركة أحد، وسمع مناد رسول الله "حي على الجهاد" فخرج من فوره وهو جنب دون ان يغتسل، وقاتل بضراوه حتى انتهي الى قائد المشركين "أبو سفيان بن حرب" وكاد أن يقتله، لولا أن ضربه أحد المشركين وهو "شداد بن الأسود" فسقط شهيدًا، ونجا "أبو سفيان" فقال "أبو سفيان" معزيًا نفسه "حنظلة بحنظلة" لإن ابن أبو سفيان "حنظلة" قتل كافرًا في "أحد"
فلما انتهت المعركة وأخذ الرسول ﷺ يتفقد القتلى وجد "حنظلة" ورأسه تقطر ماء، فقال ﷺ "إن صاحبكم لتغسله الملائكة فأسألوا أهله ما شأنه؟ فسألوا زوجته فقالت: خرج وهو جنب حين سمع النداء للحرب، فقال ﷺ: لذلك غسلته الملائكة.
والعجيب أن زوجته واسمها "جميلة" هي ابنة "عبد الله بن أبي بن سلول" راس المنافقين، 
وروي أنه بعد أن دخل بها رأت كأن السماء انفرجت ودخل فيها "حنظلة" ثم أطبقت، فعلمت أنه سيموت شهيدًا ذلك اليوم، فاستدعت أربعة آخرين من قومها ليشهدوا على زواجها لعلمها أنه سيموت في هذا اليوم.
اذن "حنظلة بن أبي عامر" هذا الصحابي الجليل الملقب بغسيل الملائكة هو ابن "أبو عامر الفاسق" 
وزوجته "جميلة" صحابية أيضًا ابنة رأس النفاق "عبد الله بن أبي بن سلول"

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(لَا تَقُمۡ فِيهِ أَبَدٗاۚ لَّمَسۡجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقۡوَىٰ مِنۡ أَوَّلِ يَوۡمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِۚ فِيهِ رِجَالٞ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْۚ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُطَّهِّرِينَ ﴿١٠٨﴾
(لَا تَقُمۡ فِيهِ أَبَدا) يعنى لَا تَقُمۡ أَبَدا فِي هذا المسجد، وهو مسجد الضرار، الذي بناه المنافقون.
وهذه الآية نزلت والرسول ﷺ في طريق عودته من "تبوك" وقبل أن يصل الى "قباء" بجزء من اليوم، فلما نزلت الآية، أمر الرسول ﷺ بعض أصحابه بأن يسبقوا الى قباء وأن يهدموا مسجد الضرار وأن يحرقوه قبل أن يصل اليه الرسول ﷺ، وكان من بين الذين أرسلهم الرسول ﷺ "وحشي" قاتل عمه "حمزة" -والمعروف أن الرسول ﷺ قال لوحشي بعد أن دخل في الإسلام "غيب عنى وجهك" ولكن هذه الرواية تقول أنه كان مع الرسول ﷺ في "تبوك" وأن الرسول ﷺ ارسله -أيضًا- في هذه المهمة خاصة-

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وروي أن الرسول ﷺ كان بعد ذلك لا يمر بالطريق الذي كان فيه هذا المسجد.
وأن المسلمون أخذوا يلقون القمامة والجيف في هذا المكان،  حتى أصبح هذا المكان مزبلة وذلك اهانة لمن قاموا ببنائه.
وهذا نأخذ منه الحزم الذي يجب أن يقابل به الحاكم والجماعة المؤمنة أهل الباطل، وألا يقبلوا الحلول الوسط وأن يواجهوا أهل الباطل فورًا وألا يؤجلوا المواجهة معهم.


❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

(لَا تَقُمۡ فِيهِ أَبَدا) يعنى لَا تَقُمۡ أَبَدا فِي مسجد الضرار.
(لَّمَسۡجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقۡوَىٰ مِنۡ أَوَّلِ يَوۡمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ) 
يعنى المسجد الذي كان القصد من بنائه منذ أَوَّلِ يَوۡمٍ هو الخوف من الله تعالى هو أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ للصلاة. 
كما نقول "هذه المدرسة أسست على اخراج جيل صالح" يعنى الهدف من بناء هذه المدرسة هو اخراج جيل صالح.
فقوله تعالى
(لَّمَسۡجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقۡوَىٰ) يعنى: المسجد الذي القصد والهدف والنية من بنائه هو تقوي الله تعالى، والخوف منه، بالإئتمار بأوامره، واجتناب نواهيه. (أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
واختلفوا في المقصود بهذا المسجد، فقال البعض انه مسجد قباء، وهو الذي بناه الرسول ﷺ قبل أن يدخل المدينة، وهو أول مسجد بنى في الإسلام. وقال البعض أن المقصود هو مسجد الرسول ﷺ ، الذي بناه فور وصوله الى المدينة.
ولفظ الآية لا يمنع أن المقصود هو المسجدين معًا، وهو كقول القائل: "لرجل صالح أحق أن تجالسه" هل المقصود بها رجل صالح واحد، أم أن أي رجل صالح أحق أن تجالسه؟ وكذلك قول الله تعالى (لَّمَسۡجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقۡوَىٰ) ليس المقصود به مسجد معين، ولكن المساجد الموجودة في ذلك الوقت هو مسجد الرسول ﷺ ومسجد قباء.

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ومن فضل مسجد "قباء" أن الصلاة فيه تعدل عمرة، قال ﷺ في الحديث الذي رواه أحمد والترمذي "صلاة في مسجد قباء تعدل عمرة"
وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر أن الرسول ﷺ: كان يذهب الى قباء كل سبت، وكان يأتيه راكبا وماشيا، وكان ابن عمر يفعله .
أما مسجد الرسول ﷺ فهو أفضل البقاع بعد مكة، والصلاة فيه بألف صلاة، يقول الرسول ﷺ في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم
"صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواها إلا المسجد الحرام"

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (فِيهِ رِجَال يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُطَّهِّرِينَ) 
المقصود بالطهارة هنا هي: الطهارة الحسية وطهارة الباطن
روي أن هذه الآية عندما نزلت مشي الرسول ﷺ الى مسجد قباء وقال:
"يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم خيرا في الطهور، فما طهوركم هذا؟ قالوا: "نتبع الماء الحجر" يعنى بعد ان يخففوا آثار النجاسة بالحجر، يقومون بغسل العضو بالماء. وكان العرب يتطهرون بالحجر، يعنى يمسحون موضع النجاسة بالحجر، وهذا ما يطلق عليه "الإستجمار" وهي مأخوذة من "الجمار" وهو الحصي، فكان الأنصار -ويبدو أن هذا كان عادة أهل المدينة- كانوا يستخدمون الحجر في ازالة النجاسة ثم الماء، فأثنى الله عليهم في اهتمامهم بالطهارة.
فلما قالوا ذلك للرسول ﷺ قال لهم:
"هو ذاك فعليكموه"
أما طهارة النفس فالمقصود بها الطهارة من الذنوب والمعاصي، والطهارة من الأخلاق الذميمة.
وقد وردت الروايات بأن المقصود بقوله تعالى (فِيهِ رِجَال يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُطَّهِّرِينَ) 
هو الطهارة البدنية وطهارة النفس.

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

ثم يقول تعالى (أَفَمَنۡ أَسَّسَ بُنۡيَٰنَهُ) وقرأت: (أَفَمَنۡ أُسِّسَ بُنۡيَٰنَهُ)
(عَلَىٰ تَقۡوَىٰ مِنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٍ خَيۡرٌ أَم مَّنۡ أَسَّسَ بُنۡيَٰنَهُۥ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٖ فَٱنۡهَارَ بِهِۦ فِي نَارِ جَهَنَّمَۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ ﴿١٠٩﴾
هذا بيان للفرق بين المسجدين: مسجد قباء، ومسجد الضرار الذي بناه المنافقون، فيقول تعالى: 
(أَفَمَنۡ أَسَّسَ بُنۡيَٰنَه) يعنى أي أهل المسجدين أفضل؟ المسجد الذي (أَسَّسَ بُنۡيَٰنَهۥ عَلَىٰ تَقۡوَىٰ مِنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٍ) يعنى المسجد الذي كانت نية بناءه هو اتقاء عذاب الله، ورجاء ثوابه ورضوانه، وهو مسجد قباء، الذي أقامه الرسول ﷺ والصحابة الكرام.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(أَم مَّنۡ أَسَّسَ بُنۡيَٰنَهُۥ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَار) أم المسجد الذي أَسَّسَ بُنۡيَٰنَهُۥ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَار.
عندنا ثلاثة كلمات: (شَفَا) و(جُرُفٍ) و(هَار)
الشفا هو حافة الشيء، ومنها الشفة.
(جُرُفٍ) عندما يكون هناك وادٍ يمر فيه الماء، يقوم الماء بعملية حفر أو نحر للأرض، هذا الجزء المنحور يطلق عليه العرب "جُرْف" ولذلك نقول في لغتنا "جرافة" ويترك الماء شفة ضعيفة من الأرض فوقه.
فحين نقول (شَفَا جُرُفٍ) يعنى الجزء الضعيف من الأرض، بحيث لو سار عليها الإنسان لوقع، لأنها أرض ليس لها قاعدة وأسفلها منحور وفارغ
و(هَار) يعنى متصدع وغير متماسك، ومنها كلمة "واهي" يعنى ضعيف.

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
اذن الصورة أن هذا البناء، أو هذا المسجد أسس -يعنى وضع أساسه- على حافة شفة ضعيفة من الأرض، يعنى ليس في وسط هذه الشفة الضعيفة، ربما تتحمل، ولكن على الحافة يعنى في أضعف جزء من هذه الشفة، ثم وصفها تعالى بأنها (هَار) يعنى غير متماسكة، لأن يجوز أن تكون هذه الشفة من صخر قوي يتحمل، ولكن وصف الله مادتها بأنها مادة ضعيفة ورخوة غير متماسكة.
اذن هذا البناء على شفة من الأرض أسفلها فارغ، وهو على حافة هذه الشفة، وهذه الشفة -فوق ذلك- ضعيفة ورخوة وغير متماسكة.
يبقي من الطبيعي أي بناء على هذه الأرض لابد أن ينهار، ولذلك قال تعالى (فَٱنۡهَارَ بِهِ) يعنى انهار بمن بناه.

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (فَٱنۡهَارَ بِهِۦ فِي نَارِ جَهَنَّمَ) يعنى انهار بمن بناه فِي نَارِ جَهَنَّمَ، لأن الصورة هي صورة بناء على (جُرُفٍ) يعنى على واد، فربما يتصور السامع أن هذا البناء سينهار في الماء، فقال تعالى (فَٱنۡهَارَ بِهِۦ فِي نَارِ جَهَنَّمَ) لأن التشبيه يتناول مسجد بناه المنافقون ليكون وكر لمكائدهم، فلابد أن يكون مصيرهم هو السقوط في (جَهَنَّمَ) قال تعالى (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) 
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
اذن الآية تقول: اي المسجدين أفضل؟ المسجد الذي  أقامه الرسول ﷺ وأصحابه طلبا لرضى الله تعالى، أم مسجد المنافقون الذي ليس له اساس من تقوي الله تعالى والذي سينهار باصحابه في نار جهنم؟
 وقد جائت عدة رويات أن الدخان ظل يخرج من المسجد بعد هدمه وحرقه، سنوات عديدة، وكانوا يقولون "إِنَّهُ بُقْعَةٌ مِنْ نَارِ جَهَنَّم".

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ) يعنى لا يوفق للهداية هؤلاء ٱلظَّٰالِمِينَ الذين بنوا مسجد الضرار.
وقلنا من قبل أن هناك هداية دلالة، وهناك هداية توفيق.
فقوله تعالى
(وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ) يعنى لا يوفق للهداية هؤلاء ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰالِمِينَ الذين بنوا مسجد الضرار بسبب ظلمهم ونفاقهم وكفرهم.


❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

(لَا يَزَالُ بُنۡيَٰنُهُمُ ٱلَّذِي بَنَوۡاْ رِيبَةٗ فِي قُلُوبِهِمۡ إِلَّآ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿١١٠﴾
الآية تتحدث عن المنافقين الذين بنوا مسجد الضرار وقيل ان عددهم اثنى عشر رجل.
نذكر معاني مفردات أو جمل هذه الاية الكريمة، ثم نذكر المعنى الإجمالى للإية:
فقال تعالى
(لَا يَزَالُ بُنۡيَٰنُهُمُ ٱلَّذِي بَنَوۡاْ) وهو مسجد الضرار.
(رِيبَة فِي قُلُوبِهِمۡ) الريبة هي الشك والترقب والخوف والحيرة والقلق. 
(إِلَّآ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمۡ) يعنى تتمزق قُلُوبُهُمۡ، وهي كناية عن الموت، لأن خروج روح الكافر تكون بصعوبة كأن قلبه يتمزق، وأيضًت يشير التعبير الى ما هم فيه من حقد وغيظ من المسلمين 
اذن فالآية تصور حال المنافقين الذين قاموا ببناء مسجد الضرار أنهم في حال ترقب وخوف وقلق سواء بعد بناء المسجد من ان تنكشف نياتهم من بناء المسجد، أو بعد هدم المسجد، ماذا سيفعل بهم المسلمون بعد كشف نفاقهم، وتستمر هذه الحالة من الخوف والقلق لا تتوقف الا في حالة واحدة، (إِلَّآ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمۡ) وهي الموت ونهاية حياتهم.
وصور الله نهاية حياتهم بأن قلوبهم تتمزق، يعنى ليس الموت راحة لهم مما هم فيه من الخوف والقلق ولكنه بداية لرحلة جديدة من العذاب.

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
اذن الاية تقول أن هؤلاء المنافقون الذين بنوا مسجد الضرار سيظل بنائهم للمسجد سببًا للخوف والقلق والترقب، سواء بعد بناءه أو بعد هدمه، وسيظل هذا الخوف والقلق ملازمًا لهم حتى آخر لحظة في حياتهم. 
وقيل: معناه: إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندما وأسفا على تفريطهم
ثم قال تعالى
(وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي والله سبحانه عليم بأحوال المنافقين، حكيم مجازاتهم بسوء نياتهم.


❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

روي أن "مجمع بن حارثة" كان الإمام في مسجد "الضرار" وكان مؤمنًا، ولا يعلم ما يضمره المنافقون من بناء المسجد، فلما كان في خلافة "عمر بن الخطاب" كلم أهل مسجد قباء "عمر" بأن يأذن لمجمع أن يؤمهم في مسجد قباء، فقال عمر: لا ، أليس بإمام مسجد الضرار؟ فقال "مجمع بن حارثة": يا أمير المؤمنين لا تعجل علي، فوالله لقد صليت بهم والله يعلم أني لا أعلم ما أضمروا فيه، ولو علمت ما صليت معهم فيه، كنت غلاما قارئا للقرآن وكانوا شيوخا لا يقرءون من القرآن شيئا.
فأذن له عمر، وكان "مجمع بن حارثة" من رواة الحديث.

 

❇        

لِمُطَالَعَة بَقِيَةِ حَلَقَات "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم"

لِمُشَاهَدَة حَلَقَاتِ "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم" فيديو

❇