الحلقة رقم (532)
(تًدَبُر القُرْآن العَظِيم)
تفسير وتدبر الآية (117) من سورة "التوبة" ص 205
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(لَّقَد تَّابَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلنَّبِيِّ وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ ٱلۡعُسۡرَةِ مِنۢ بَعۡدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيق مِّنۡهُمۡ ثُمَّ تَابَ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّهُۥ بِهِمۡ رَءُوف رَّحِيم ﴿١١٧﴾
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ما زالت الآيات الكريمة تتحدث عن غزوة "تبوك" وقلنا أن غزوة تبوك كانت في "رجب" من السنة التاسعة من الهجرة، وسبب الغزوة أن الرسول ﷺ وصلته أخبار أن الدولة الرومانية حشدت جيشًا قوامه أربعون ألف جندي، في منطقة "تبوك" على اطراف الجزيرة العربية تريد غزو المدينة، فدعا الرسول ﷺ المسلمين الى الخروج للغزو، وخرج مع الرسول ﷺ جيشًا قوامه ثلاثون ألف مقاتل، وتخلف عن الخروج مع الرسول ﷺ كثير من المنافقين وضعيفي الإيمان.
عندما وصل الجيش الى "تبوك" كانت جموع الروم قد فرت الى الشمال، خوفًا من لقاء المسلمين، وكان سبب تراجع وخوف الروم من مواجهة المسلمين، هو أن الروم خبروا شجاعة وضراوة المسلمين في معركة "مؤتة" قبل هذا التاريخ بعامين، وكان عدد المسلمين في "مؤتة" ثلاثة آلاف فقط والروم مائة ألف، وعدد المسلمين في "تبوك" ثلاثون ألف والروم أربعون ألف، ولم يكن الرسول ﷺ في جيش مؤتة، بينما المسلمين في "تبوك" تحت قيادة الرسول ﷺ.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وبعد فرار الروم الى الشمال، استشار الرسول المسلمين ﷺ في مطاردة الروم، فأشار أكثر من واحد بعدم مطاردة الروم والعودة الى المدينة، لأن التوغل داخل الأراضي الرومانية فيه مخاطرة كبيرة، فأخذ الرسول ﷺ بهذه المشورة، وقرر العودة الى المدينة.
ولكن قبل العودة الى المدينة، ظل الرسول ﷺ في "تبوك" عشرين يومًا كاملة، مع أن العرف بالنسبة للجيوش المنتصرة في ذلك الوقت هو أن تظل في مكان المعركة ثلاثة أيام فقط، وذلك لإثبات انسحاب الروم، خاصة أن هذه الأرض تقع تحت سيطرة الدولة الرومانية.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وخلال هذه الأيام العشرين أرسل الرسول ﷺ عدة سرايا، منها سرية قوامها أربعمائة وعشرون فارسًا بقيادة "خالد بن الوليد" الى "دُومَةِ الجَنْدل" والتي تبعد حوالي 335 كيلو مترًا عن تبوك، وكانت "دُومَةِ الجَنْدل" على النصرانية، وكانت تساعد الروم في حربها ضد المسلمين
وأخبر الرسول ﷺ "خالد بن الوليد" قائد السرية، بأنه سيجد ملكهم واسمه "أُكَيْدِر بن عبد الملك الكندي" خارج الحصن يصطاد البقر، فانطلق "خالد بن الوليد" ومكث بجنوده خارج الحصن ينتظر خروج "أُكَيْدِر" كما أخبر الرسول ﷺ، وفي ذلك الوقت كان "أُكَيْدِر" متحصنًا في قلعته خوفًا من المسلمين، بعد أن علم بوجود المسلمين في "تبوك" ولكن في هذه الليلة التي وصل فيها "خالد بن الوليد" بسريته، وقف "أُكَيْدِر" مع زوجته في شرفة قصره، فإذا بالبقر الوحشي يقترب من القصر حتى لامست أبوابه بقرونها، فتعجّب وقال لامرأته : "هل رأيت مثل هذا قط ؟" قالت : "لا والله" ، فنزل وخرج للصيد ومعه بعض الجنود لحراسته، وما ان خرج حتى قبض عليه "خالد" بعد قتال قصير، وأتي به الى الرسول ﷺ، فصالحه الرسول ﷺ على الجزية وأطلق سراحه.
أتي كذلك ملوك وأمراء مدن الشام المتاخمة للجزيرة العربية يصالحون الرسول ﷺ على الجزية، ومن هؤلاء حاكم أَيْلَة "يُحَنَّة بن رؤبة" وكذلك أَتاه أهل جَرْبَاء، وأهل أَذْرُح، وأهل مَقْنَا.
"دُومَةِ الجَنْدل"
وكانت مدة الغزوة خمسين يومًا: ثلاثون يومًا قضاها الجيش في الطريق ذهابًا وإيابًا، وعشرون يومًا ظل الجيش في منطقة تبوك.. خرج في رجب وعاد في رمضان من السنة التاسعة للهِجْرة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (لَّقَد تَّابَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلنَّبِيِّ وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ ٱلۡعُسۡرَةِ مِنۢ بَعۡدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيق مِّنۡهُمۡ)
يعنى أن الله -تعالى- تجاوز عن الزلات والهفوات التى وقعت من ٱلنَّبِيِّ وَمن ٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ في غزوة "تبوك"
فكانت التوبة على النبي ﷺ لأنه أذن للمنافقين في القعود عن الخروج للغزو، وهي التى أشار اليها القرآن في الآية (43) فقال تعالى (عفا الله عنك لم أذنت لهم)
أما التوبة على ٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ فهو من ميل قلوب بعضهم إلى التخلف عن الخروج.
ولذلك قال تعالى (مِنۢ بَعۡدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيق مِّنۡهُمۡ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
معنى آخر لقوله تعالى (لَّقَد تَّابَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلنَّبِيِّ وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ)
يعنى أن الله -تعالى- أثاب من خرج الى "تبوك" -وهي أصعب غزوة خرج اليها الرسول ﷺ- بأن غفر الله -تعالى- بها جميع ما مضى من سيئات، فصارت قائمة مقام التوبة، كما أن الله -تعالى- أثاب من شهد "بدر" بأن غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، يقول الرسول ﷺ "لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ ٱلۡعُسۡرَةِ)
يعنى ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوا الرسول ﷺ فِي غزوة "تبوك"
وأطلق على جميع أوقات الغزوة (سَاعَةِ ٱلۡعُسۡرَةِ) يعنى وقت الضيق والشدة والصعوبة، لأن غزوة "تبوك" كانت -كما ذكرنا- هي أصعب غزوات الرسول ﷺ
وذلك لعدة عوامل وهي أولاً: طول المسافة من المدينة الى تبوك، أكثر من 700 كم ذهابًا و700 كم عودة، والخروج كان في وقت حر شديد، وقلة الرواحل فكان الاثنين والثلاثة يتعاقبون عَلَى بَعِيرٍ واحد، وقلة الزاد حتى لقد ذكر أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما، وكان النفر يتداولون التمرة بينهم يمصها أحدهم، ثم يمصها الآخر، حتى لا يبقى من التمرة إلا النواه، وفي قلة من الماء، حتى أصابهم يوماً عطش شديد فجعلوا ينحرون إبلهم حتى يشربون الماء الذي فيه بطونها، وهم بعد كل هذا خارجون للقاء عدو قوي، بل هو أقوي قوة على وجه الأرض في ذلك الوقت وهي الإمبراطورية الرومانية.
ولذلك سميت هذه الغزوة بغزوة ٱلۡعُسۡرَةِ، وسمي الجيش الذي خرج في هذه الغزوة بجيش ٱلۡعُسۡرَةِ.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (مِنۢ بَعۡدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيق مِّنۡهُمۡ)
وقرأت (مِنۢ بَعۡدِ مَا كَادَ تَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيق مِّنۡهُمۡ) بفتح التاء.
يعنى: مِنۢ بَعۡدِ مَا كَادَ فَرِيق مِّنۡ الصحابة يتخلف عن الخروج مع الرسول ﷺ في هذه الغزوة، وذلك بسبب ما في هذه الغزوة من عسر وشدة وتعب.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(ثُمَّ تَابَ عَلَيۡهِمۡۚ)
أعاد -تعالى- ذكر التوبة تأكيدًا لقبول التوبة، يقول ابن عباس: (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ) يعنى ازداد عنهم رضًا.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
قيل لعمرَ بنِ الخطَّابِ: حدِّثْنا مِن شأنِ العُسرةِ قال: خرَجْنا إلى تبوكَ في قيظٍ شديدٍ فنزَلْنا منزِلًا أصابنا فيه عطشٌ، حتَّى ظننَّا أنَّ رقابَنا ستنقطِعُ، حتَّى إنَّ الرَّجلَ لَينحَرُ بعيرَه، فيعصِرُ فَرْثَه فيشرِبُه (الفَرْث هو الطعام الذي يكون في المعدة والأمعاء، فكانوا يعصورن هذا الطعام، ويشربون الماء الذي يخرج منه) فقال أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ: يا رسولَ اللهِ قد عوَّدك اللهُ في الدُّعاءِ خيرًا فادعُ لنا فقال ﷺ: "أتُحِبُّ ذلك" ؟ قال أبو بكر: نَعم، فرفَع ﷺ يدَيْهِ ودعا ربه فلم يرجِعْهما حتَّى أظلَّت سحابةٌ فسكَبت فملَؤوا ما معهم، ثمَّ ذهَبْنا ننظُرُ فلم نجِدْها جاوَزتِ العسكرَ (يعنى هذه السحابة وهذا المطر لم يخرج عن معسكر المسلمين)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
من المعجزات التي وقعت في غزوة تبوك ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة قال : لما كان يوم غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة -يعنى جوع شديد- فقالوا: يا رسول الله ، لو أذنت لنا فننحر نواضحنا -يعنى ننحر الإبل التي نركبها حتى نأكل منها- فقال الرسول ﷺ: "افعلوا"، فجاء عمر فقال: يا رسول الله، إن فعلت قل الظهر (يعنى ان نحرنا الإبل لنأكل لحمها، ستقل الدواب التى نركبها وسميت ظهرًا لأنه يركب على ظهرها) يقول عمر: ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، وادع الله لهم فيها بالبركة، لعل الله أن يجعل فيها البركة (يعنى تدعو الجيش أن يأتي بما معه من طعام، ثم ادع الله لهذا الطعام بالبركة، ومعنى البركة أن الشيء يعطيك من الخير أكثر من حقيقته)، فقال الرسول ﷺ : "نعم" . فدعا ﷺ بنطع -يعنى بساط من الجلد- فبسطه، ثم دعا الجيش بأن يأتي كل واحد منهم بما معه من طعام، فجعل الرجل يجيء بكف ذرة، ويجيء الآخر بكف من التمر، ويجيء الآخر بكسرة، حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير، يقول "أبو هريرة" "فحرزتها مقدار رُبْضَة العنز" يعنى المكان الذي تبرك فيه العنزة، فدعا الرسول ﷺ بالبركة، ثم قال لهم : "خذوا في أوعيتكم" ، فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملئوه وأكلوا حتى شبعوا، وفضلت فضلة، فقال ﷺ: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
من المعجزات التي وقعت في غزوة أن الرسول ﷺ أخبر الصحابة أن هناك ريح شديدة ستهب عليهم، وأمرهم بعقل رواحلهم، ففعلوا، فما لبث أن هبت ريح شديدة كما أخبر الرسول ﷺ
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
من المعجزات التي حدثت في "تبوك" أن الرسول ﷺ فقد ناقته، فقال أحد المنافقين لأصحابه "أليس محمدٌ يزعم أنه نبي، ويخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته؟" فجاء الوحي الى الرسول ﷺ بما قاله هذا المنافق، فقال ﷺ "إن رجلاً قال: هذا محمد يخبركم أنه نبي، ويزعم أنه يخبركم بأمر السماء وهو لا يدري أين ناقته، وإني والله ما أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها، وهي في هذا الوادي في شعب كذا وكذا، قد حبستها شجرة بزمامها، فانطلقوا حتى تأتوني بها" فذهبوا فجاؤا بها.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
من مواقف غزوة "تبوك" أن أبا ذر الغفاري خرج على بعير ضعيف، فمازال يبطأ به بعيره حتى تخلف عن الجيش، فما كان من أبى ذر إلا أن نزل من على هذا بعيره وحمل متاعه ومشى على رجليه حتى يلحق بالجيش، ونظر ناظر من المسلمين فقال: يا رسول الله هذا رجل يمشى على الطريق، فقال الرسول ﷺ: "كن أبا ذر"، فلما تأمله القوم قالوا: "يا رسول الله، هو والله أبو ذر"، فقال الرسول ﷺ: "رحم الله أبا ذر يمشى وحده ويموت وحده ويبعث وحده"
وبعد سنوات طويلة ونتيجة خلاف مع "معاوية" حاكم الشام، والخليفة "عثمان بن عفان" مات "أبو ذر" وحيدًا في منطقة "الرَّبذة" (بينها وبين المدينة 170 كم) ولم يكن معه الا امراته وغلامه، ومر به "عبد الله بن مسعود" فبكي وقال: صدق رسول الله ﷺ "تمشي وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وفي غزوة "تبوك" اختبر الرسول ﷺ طاعة الصحابة له اختبارًا صعبًا، ذلك أن الجيش وصل وهو في شدة الحاجة اى الماء، الى منطقة "الحجر" وهي المنطقة التي كانت بها ديار ثمود قوم صالح، والتي أهلكها الله تعالي، وفي هذه المنطقة كانت توجد آبار للمياه، ولما رأى المسلمون آبار الماء أسرعوا إليها وملئوا أوعيتهم بالماء، وعجنوا عجينهم بهذا الماء ليصنعوا به خبزًا
ولكن الرسول ﷺ عندما علم بذلك أمرهم أمرًا شاقًّا على نفوسهم، فقال ﷺ: "لاَ تَشْرَبُوا مِنْ مَائِهَا شَيْئًا، وَلاَ تَتَوَضَّئُوا مِنْهُ لِلصَّلاَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ عَجِينٍ عَجَنْتُمُوهُ فَاعْلِفُوهُ الْإِبِلَ، وَلاَ تَأْكُلُوا مِنْهُ شَيْئًا".
والسبب أن هذا الماء ماء غير مبارك، لأنه ماء القوم الظالمين الذين أهلكهم الله تعالى، وأمتثل جميع المسلمين لأمر الرسول ﷺ ولم يشربوا من هذا الماء، وأطعموا ابلهم من العجين الذي عجنوه بهذا الماء.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
من المعجزات التي وقعت في "تبوك" والتي لا نزال نراها الى الآن ما رواه مسلم في صحيحه عن "معاذ بن جبل" أن الرسول ﷺ قال لصحابته قبل الوصول الى تبوك "إِنَّكُمْ سَتَأْتُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَيْنَ تَبُوكَ (يعنى ستصلون غدًا الى عين ماء في تبوك، يطلق عليها عَيْنَ تَبُوكَ) وَإِنَّكُمْ لَنْ تَأْتُوهَا حَتَّى يُضْحِىَ النَّهَارُ (يعنى ستصلون اليها في وقت الضحي يعنى بعد أن ترتفع الشمس) فَمَنْ جَاءَهَا مِنْكُمْ فَلاَ يَمَسَّ مِنْ مَائِهَا شَيْئًا حَتَّى آتِىَ" يقول أبو ذر: "فَجِئْنَاهَا وَقَدْ سَبَقَنَا إِلَيْهَا رَجُلاَنِ وَالْعَيْنُ مِثْلُ الشِّرَاكِ تَبِضُّ بِشَىْءٍ مِنْ مَاءٍ" يعنى وصلنا الى العين وَقَدْ سَبَقَنَا إِلَيْ العين رَجُلاَنِ "وَالْعَيْنُ مِثْلُ الشِّرَاكِ" يعنى الماء يخرج من فتحة صغيرة جدًا مثل "الشِّرَاكِ" و الشِّرَاكِ هو سير النعل "تَبِضُّ بِشَىْءٍ مِنْ مَاءٍ" يعنى: يخرج منها ماء قليل جدًا، يقول أبو ذر: فَسَأَلَهُمَا الرَسُولُ ﷺ، يعنى سال الرَجُلاَنِ "هَلْ مَسَسْتُمَا مِنْ مَائِهَا شَيْئًا" ؟ قَالاَ "نَعَمْ"، فَسَبَّهُمَا النَّبِىُّ ﷺ وَقَالَ لَهُمَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، يعنى وبخهما بسبب عدم اطاعة أوامره، يقول أبو ذر "ثُمَّ غَرَفُوا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْعَيْنِ قَلِيلاً قَلِيلاً حَتَّى اجْتَمَعَ فِى شَىْءٍ" يعنى أخذ المسلمون يجمعون من هذا الماء القليل في أكفهم، ويضعونه في وعاء، وقدموه الى الرسول ﷺ فغَسَلَ الرَسُولُ ﷺ فِيهِ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ ثُمَّ أَعَادَهُ فِيهَا، يعنى أعاد الماء بعد أن مس جسد الرسول ﷺ الى العين مرة أخري، فَجَرَتِ الْعَيْنُ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ، حَتَّى اسْتَقَى النَّاسُ، يعنى شرب كل الجيش، ومللأوا أوعيتهم، ثُمَّ قَال الرسول ﷺ "يُوشِكُ يَا مُعَاذُ إِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ أَنْ تَرَى مَا هَا هُنَا قَدْ مُلِئَ جِنَانًا" هذاالحديث رواه مسلم -كما ذكرنا- في صحيحه حديث رقم (6086 )
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
هذه النبوءة عندما قالها الرسول ﷺ كانت منطقة "تبوك" والتى هي الآن في شمال المملكة السعودية، هي أكثر الأماكن جفافًا وكحولة وأقلها ماءًا في الجزيرة العربية، ولكن الذي حدث أن عين الماء لم تتوقف طوال اقامة الجيش في "تبوك" لمدة عشرين يومًا، واستمر جريان الماء حتى بعد مغادرة الجيش، وبدأ الناس يتجمعون حول الماء، ويزرعون من هذا الماء، ونشأت مدينة في هذه المنطقة، وهي مدينة "تبوك"
والآن بعد أكثر من 1400 سنة من نبوءة الرسول أصبحت "تبوك" هي أكثر المناطق زراعة في الجزيرة العربية، وبلغت مساحة الأراضي المزروعة في منطقة "تبوك" أكثر من خمسة ونصف مليون فدان، تنتج أنواع متعددة من الخضروات والفواكه، والمحصول الرئيسي الذي تنتجه هذه المنطقة هي القمح، وهو أهم محصول استراتيجي.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
عندما درس علماء الجيولوجيا هذه المنطقة وجدوا فيها مُتَكَوَن يطلق عليه "مُتَكَوَن الساق Sak formation وهو عبارة عن خزان هائل من المياه، طوله 1200 كم وسمكه 600 متر، وهذه الكمية الهائلة تكونت على مدار من 22 الى 28 ألف سنة
وهناك متكون أخر اسمه "مُتَكَوَن تبوك" أو Tabook Formation ينتج نحو 1300 مليون متر مكعب من الماء سنويا
ووجدوا في تربة هذا المُتَكَوَن سمك كبير من طين الصصال وهي تربة شديد الخصوبة.
وبذلك تجمع لتبوك وفرة المياه والتربة الخصبة، وأصبحت "تبوك" جِنَان كما أخبر الرسول ﷺ منذ أكثر من 1400 سنة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
اذن يقول تعالى (لَّقَد تَّابَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلنَّبِيِّ وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ ٱلۡعُسۡرَةِ)
يعنى أن الله -تعالى- تجاوز عن الزلات والهفوات التى وقعت من ٱلنَّبِيِّ وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ في غزوة "تبوك
أو أن الله -تعالى- أثاب من خرج الى "تبوك" بأن غفر الله -تعالى- بها جميع ما مضى من سيئات
وهذا يفيد أن العبادةُ الشَّاقَّةُ على النَّفسِ، لها فضلٌ على غَيرِها، وكلَّما عَظُمَت المشقَّةُ، عَظُمَ الأجرُ.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ ٱلۡعُسۡرَةِ)
يعنى ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوا الرسول ﷺ فِي وقت الضيق والشدة، وهو الخروج الى تبوك.
عن جابر قال: (عسرة الظهر، وعسرة الزاد، وعسرة الماء)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(مِنۢ بَعۡدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيق مِّنۡهُمۡ)
يعنى: مِنۢ بَعۡدِ مَا كَادَ فَرِيق مِّنۡ الصحابة يتخلف عن الخروج مع الرسول ﷺ في هذه الغزوة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(ثُمَّ تَابَ عَلَيۡهِمۡۚ)
أعاد -تعالى- ذكر التوبة تأكيدًا لقبول التوبة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(إِنَّهُۥ بِهِمۡ رَءُوف رَّحِيم)
تذييل يتناسب مع قبول الله تعالى التوبة من عباده المؤمنين.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
لِمُطَالَعَة بَقِيَةِ حَلَقَات "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم"
لِمُشَاهَدَة حَلَقَاتِ "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم" فيديو
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
|