الحلقة رقم (545)
(تًدَبُر القُرْآن العَظِيم)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
تفسير وتدبر الآيات (21) و(22) و(23) من سورة "يُونُس"- ص 211
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَإِذَآ أَذَقۡنَا ٱلنَّاسَ رَحۡمَة مِّنۢ بَعۡدِ ضَرَّآءَ مَسَّتۡهُمۡ إِذَا لَهُم مَّكۡر فِيٓ ءَايَاتِنَاۚ قُلِ ٱللَّهُ أَسۡرَعُ مَكۡرًاۚ إِنَّ رُسُلَنَا يَكۡتُبُونَ مَا تَمۡكُرُونَ ﴿٢١﴾ هُوَ ٱلَّذِي يُسَيِّرُكُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِۖ حَتَّىٰٓ إِذَا كُنتُمۡ فِي ٱلۡفُلۡكِ وَجَرَيۡنَ بِهِم بِرِيح طَيِّبَة وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتۡهَا رِيحٌ عَاصِفٞ وَجَآءَهُمُ ٱلۡمَوۡجُ مِن كُلِّ مَكَانٖ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ أُحِيطَ بِهِمۡ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ لَئِنۡ أَنجَيۡتَنَا مِنۡ هَٰذِهِۦ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّٰكِرِينَ ﴿٢٢﴾ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿23﴾
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
قيل في سبب نزول هذه الآية الكريمة أن قريشًا بعد أن أصروا على عداوة الرسول ﷺ وتعذيب المسلمين المستضعفين وفتنتهم عن دينهم، دعا عليهم النبي ﷺ بالقحط وعدم نزول المطر، وقال ﷺ (اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عليهم سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ) يعنى أن يصيبهم القحط كما حدث في مصر في زمن يوسف -عليه السلام-
فاستجاب الله -تعالى- لدعاء نبيه ﷺ وأصاب مكة قحط شديد، حتى كانوا يأكلون العظام والميتة من الجوع، فذهب "أبو سفيان" الى النبي ﷺ وقال له: "يا محمد إنك جئت تأمرنا بصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا فادع الله لنا، فإن أجابك وأخصبنا صدقناك وآمنا بك" فدعا لهم النبي ﷺ فنزل المطر، ولكنهم أصروا على الكفر والعناد، فقال تعالى:
(وَإِذَآ أَذَقۡنَا ٱلنَّاسَ رَحۡمَة مِّنۢ بَعۡدِ ضَرَّآءَ مَسَّتۡهُمۡ)
الضَرَّآءَ هو ما يصيب الإنسان من الضرر.
والمقصود هو نزول المطر بعد الجدب، أو أي رخاء بعد شدة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(إِذَا لَهُم مَّكۡر فِيٓ ءَايَاتِنَا)
(إِذَا) هذه تسمى اذا الفجائية، يعنى بدلًا من أن يشركوا الله تعالى الذي رفع عنهم ما كانوا فيه من الشدة والبلاء:
(إِذَا َلهُم مَّكۡر فِيٓ ءَايَاتِنَا)
المكر هو: التدبير بخفاء، الذي يفضي بالممكور به إلى ما لا يحتسبه ولا يتوقعه.
وقوله تعالى (مَّكۡر فِيٓ ءَايَاتِنَا)
يعنى هذا المكر وهذا التدبير متعلق بآيات القرآن الكريم.
وصورته أنهم يطعنون ويحاولون التشكيك في آيات القرآن الكريم، عن طريق الادعاءات الكاذبة والتدليس والخداع.
وهذا مثل الذي نراه في هذه الأيام، عندما يحاول الحاقدين على الإسلام، الطعن في آيات القرآن الكريم، ومحاولة إيجاد تناقض أو ثغرة في آيات القرآن الكريم، عن طريق الكذب والخداع والتدليس.
اذن المعنى: بعد أن رفع الله -تعالى- عنهم البلاء، بدلًا من يشكروا الله تعالى على ذلك، اذا هم يصرون على الكفر، بل ويطعنون في آيات القرآن الكريم.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم يقول تعالى ردًا عليهم (قُلِ ٱللَّهُ أَسۡرَعُ مَكۡرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكۡتُبُونَ مَا تَمۡكُرُونَ)
قلنا أن المكر هو: التدبير بخفاء، الذي يفضي بالممكور به إلى ما لا يحتسبه ولا يتوقعه.
ولذلك فان مكر الله تعالى أقوي من مكر أعدائه، لأن مكر أعدائه معلوم ومكشوف عند الله تعالى، بينما مكر الله -تعالى- بأعدائه لا يمكن أن يطلع عليه أحد.
ولذلك قال تعالى (إِنَّ رُسُلَنَا يَكۡتُبُونَ مَا تَمۡكُرُونَ) يعنى مكرهم أو تدبيرهم -الذي يعتقدون أنه في خفاء- هو مكشوف ومعلوم وتحصيه عليهم الملائكة الحفظة، فاذا كان تدبيرهم معلوم عند الملائكة، فكيف برب الملائكة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ولكن هنا قال تعالى (ٱللَّهُ أَسۡرَعُ مَكۡرًا)
كلمة (أَسْرَعُ) حين نقول فلان أسرع من فلان، يعنى كلاّ منهما يحاول الوصول إلى نفس الهدف، لكن هناك واحداً وصل إلى الهدف قبل الثاني.
فذا قلنا أن الهدف من (المكر) هو أن يفضى بالممكور به إلى ما لا يحتسبه ولا يتوقعه.
فيكون -ولا شك- ٱللَّهُ -تعالى- أَسۡرَعُ مَكۡرًا، لأن الله -تعالى- يصل الهدف - قبل أعدائه.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
الآية تتناول الطبيعة الإنسانية أنها تلجأ الى الله عند الشدة، فاذا رفع الله عنها الشدة تعود الى طغيانها.
وعندما تشير الآيات الى بعض الطبائع الإنسانية الخبثة، فهي تنبهك حتى تقوم هذا السلوك عند نفسك.
التعبير (مَّكۡر فِيٓ ءَايَاتِنَا) تصور بمنتهي الدقة ما يحدث الآن على النت ووسائل التواصل من الطعن في آيات الله عن طريق المكر، يعنى عن طريق الخداع والكذب والتدليس.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(هُوَ ٱلَّذِي يُسَيِّرُكُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِۖ حَتَّىٰٓ إِذَا كُنتُمۡ فِي ٱلۡفُلۡكِ وَجَرَيۡنَ بِهِم بِرِيح طَيِّبَة وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتۡهَا رِيحٌ عَاصِفٞ وَجَآءَهُمُ ٱلۡمَوۡجُ مِن كُلِّ مَكَانٖ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ أُحِيطَ بِهِمۡ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ لَئِنۡ أَنجَيۡتَنَا مِنۡ هَٰذِهِۦ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّٰكِرِينَ ﴿٢٢﴾
(هُوَ ٱلَّذِي يُسَيِّرُكُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ)
قرأت (هُوَ ٱلَّذِي يَنْشُرُكُمْ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ) من النشر، او البسط كما نقول "نشر الثوب"
وقرأ الجمهور (يُسَيِّرُكُمۡ)
يعنى: هُوَ ٱلَّذِي يُسَيِّرُكُمۡ -أيها الناس- فِي ٱلۡبَرِّ -يعنى على ظهور الدواب (وَٱلۡبَحۡرِ) يعنى في السفن.
(حَتَّىٰٓ إِذَا كُنتُمۡ فِي ٱلۡفُلۡكِ) وهي السفن.
والفلك يقع على الواحد والجمع ، ويذكر ويؤنث.
والمقصود بها هنا الجمع، يعنى السفن.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَجَرَيۡنَ بِهِم بِرِيحٖ طَيِّبَة) يعنى وجرت الفلك بالناس بِرِيح طَيِّبَة، يعنى بِرِيح ليست عاصفة ولا بطيئة.
(وَفَرِحُواْ بِهَا) وفرح ركاب السفينة بهذه الريح الطيبة.
(جَآءَتۡهَا رِيحٌ عَاصِف) جاءت السفن ريح عاصفة، شديدة.
(وَجَآءَهُمُ ٱلۡمَوۡجُ مِن كُلِّ مَكَان) وجاء ركبان السفينة الموج من كل مكان.
(وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ أُحِيطَ بِهِم) يعنى وغلب على ظنهم أن الموت قد أحاط بهم.
وأصلها أن العدو إذا أحاط بقوم أو بلد فقد اقترب هلاك أهله .
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ) يعنى توجهوا بالدعاء الى الله وحده، ولم يشركوا مع الله في الدعاء أي من الأصنام، كما كانوا يفعلون وهم في حال الأمن.
(لَئِنۡ أَنجَيۡتَنَا مِنۡ هَٰذِهِۦ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّٰكِرِينَ) يعنى عاهدوا الله لَئِنۡ أَنجَيۡتَنَا يا رب مِنۡ هَٰذِهِ الشدة، سنكون من الطائعين لك، وسنفردك بالعبادة، ولن نشرك بك أحد، ولن نعبد معك هذه الآلهة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وفي قصة اسلام "عكرمة بن ابي جهل" رضى الله عنه، عندما فر يوم الفتح من مكة وركب البحر، فهاج البحر حتى كادوا أن يهلكوا، فوجد أصحاب السفينة لا يدعون الا الله وحده، ولا يدعون أصنامهم، فقال لهم عكرمة: ما هذا؟ قالوا هذا مكان لا ينفع فيه الا الله وحده! فقال عكرمة في نفسه: لئن لم ينجني في البحر إلا وحده، ما ينجيني في البر غيره، ثم قال: اللهم إن لك عهدا إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمدا حتى أضع يدي في يده، فنجاه الله تعالى، فعاد الى مكة وأسلم وحسن اسلامه، ومات شهيدًا رضى الله عنه.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول الإمام محمد عبده في تفسيره أن الآية تذكر ان المشركين في وقت الشدائد لا يلجئون الا الى الله تعالى فقط، مما يدل على أن الإنسان بطبيعته يرجع إلى الله في الشدائد.
ومع ذلك فان بعض مسلمي هذا الزمان يدعون عند الشدائد الميتين كالبدوي والرفاعي والدسوقي والجيلاني والمتبولي وأبي سريع وغيرهم ممن لا يحصى عددهم
وذكر قصة لجماعة ركبوا البحر فهاج بهم البحر حتى كادوا أن يهلكوا، فصاروا يستغيثون، فبعضهم يقول: يا سيد يا بدوي، وبعضهم يصيح يا رفاعي، وآخر يهتف: يا عبد القادر يا جيلاني..... إلخ حتى ضاق بهم رجل معهم فقال: يارب أغرق أغرق، ما بقي أحد يعرفك
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
(فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ) فَلَمَّا نجي الله -تعالى- هؤلاء المشركين من الموت المحقق، لأنهم دعوا الله وحده، ولم يتوجهوا في دعائهم الى غيره من الأصنام، ولأنهم عاهدوا الله على يعبدوه وحده، وألا يعودوا في عبادة الأصنام مرة أخري.
(إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) إِذَا الفجائية.
يعنى: إِذَا هُمْ يعودون الى ما كانوا عليه من الظلم والعدوان والإفساد
وقال (فِي الأَرْضِ) كأنهم لشدة ظلمهم وفسادهم ينشرون هذا الظلم وهذا الفساد فِي كل الأَرْضِ
وقوله تعالى (بِغَيْرِ الْحَقِّ) فيها تأكيد لقبح الظلم والفساد.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم يقول تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ) يعنى: ظلمكم -أَيُّهَا النَّاسُ- لغيركم سيعود وباله عليكم
(مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) هذا البغي مما تتمتعون به في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الفانية، وستمر سريعًا ويبقي العقاب.
(ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)
يعنى ثم تعودون الى الله يوم القيامة، فيخبركم بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من البغي والظلم ويجازيكم عليه.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
قال المفسرون أن الاية فيها اشارة الى أن البغي وهو الظلم، يعاقب عليه العبد في الدنيا والآخرة، وقد جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والبخاري أن النبي ﷺ قال "ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة فى الدنيا، مع ما يدّخر له فى الآخرة، من البغي وقطيعة الرحم"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وذكر قصة قبطان انجليزي، كان قبطان باخرة تتردد بين إنجلترا والهند، فوصلت اليه نسخة مترجمة من القرآن الكريم، وقرأ ترجمة هذه الآية، فاعجبه جدًا تصويرها لطغيان البحر، وأخذ بعد ذلك يتتبع في القرآن الكريم الآيات التي تتحدث عن البحار والسفن، فتعجب من دقة وصف البحار في القرآن، ثم سأل أحد المسلمين: هل كان نبيكم يسافر كثيرُا في البحر؟ فقال له أن الرسول ﷺ لم يسافر في البحر أبدًا، وربما لم ير البحر أبدًا، فقال الرجل الإنجليزي على الفور: اذن هذا القرآن ليس الا بوحي من الله تعالى، لهذا النبي العظيم، فأسلم هذا القبطان، ثم أتيح له بعد ذلك أن يترك عمله في البحر، فاختار أن يقيم في مصر، وتعلم العربية، وأصبح اسمه مستر "عبد الله براون" وكان الإمام "محمد عبده" يضرب به المثل في الخشوع في الصلاة، رحمه الله.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
لِمُطَالَعَة بَقِيَةِ حَلَقَات "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم"
لِمُشَاهَدَة حَلَقَاتِ "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم" فيديو
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
|