الحلقة رقم (579)
(تًدَبُر القُرْآن العَظِيم)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
تفسير وتدبر الآيات من (61) الى (68) من سورة "هًود"- ص 228
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(۞ وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمۡ صَٰلِحاۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥۖ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱسۡتَعۡمَرَكُمۡ فِيهَا فَٱسۡتَغۡفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيب مُّجِيب ﴿٦١﴾ قَالُواْ يَٰصَٰلِحُ قَدۡ كُنتَ فِينَا مَرۡجُوّا قَبۡلَ هَٰذَآۖ أَتَنۡهَىٰنَآ أَن نَّعۡبُدَ مَا يَعۡبُدُ ءَابَآؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكّ مِّمَّا تَدۡعُونَآ إِلَيۡهِ مُرِيب ﴿٦٢﴾ قَالَ يَٰقَوۡمِ أَرَءَيۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَة مِّن رَّبِّي وَءَاتَىٰنِي مِنۡهُ رَحۡمَة فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ ٱللَّهِ إِنۡ عَصَيۡتُهُۥۖ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيۡرَ تَخۡسِير ﴿٦٣﴾ وَيَٰقَوۡمِ هَٰذِهِۦ نَاقَةُ ٱللَّهِ لَكُمۡ ءَايَة فَذَرُوهَا تَأۡكُلۡ فِيٓ أَرۡضِ ٱللَّهِۖ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوٓء فَيَأۡخُذَكُمۡ عَذَاب قَرِيب ﴿٦٤﴾ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمۡ ثَلَٰثَةَ أَيَّام ذَٰلِكَ وَعۡدٌ غَيۡرُ مَكۡذُوب ﴿٦٥﴾ فَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا نَجَّيۡنَا صَٰلِحا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ بِرَحۡمَة مِّنَّا وَمِنۡ خِزۡيِ يَوۡمِئِذٍۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ٱلۡقَوِيُّ ٱلۡعَزِيزُ ﴿٦٦﴾ وَأَخَذَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيۡحَةُ فَأَصۡبَحُواْ فِي دِيَٰرِهِمۡ جَٰثِمِينَ ﴿٦٧﴾ كَأَن لَّمۡ يَغۡنَوۡاْ فِيهَآۗ أَلَآ إِنَّ ثَمُودَاْ كَفَرُواْ رَبَّهُمۡۗ أَلَا بُعۡدا لِّثَمُودَ ﴿٦٨﴾
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
تحدثت الآيات السابقة عن قوم عاد، وقلنا إن الله تعالى أرسل إليهم "هود" -عَلَيْهِ السَّلامُ- نبيًا، فلم يؤمن معه الا القليل، فلما أصروا على الكفر، أرسل الله تعالى عليهم ريحًا شديدة فاستأصلنهم عن آخرهم، ونجي الله هودا -عَلَيْهِ السَّلامُ- والمؤمنين.
تحرك هود -عَلَيْهِ السَّلامُ- -بعد ذلك- ومن معه من المؤمنين الى حبث الكعبة الشريفة، وقد ورد في الأثر أنه ما عوقب قوم الا ولجأ نبيهم بمن آمن معه الى مكة، وعاش هود في مكة حتى مات ودفن هناك.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
بعد قوم (عاد) جاء قوم (ثمود) وهم من نسل من نجا من المؤمنين من قوم (عاد)
ولذلك يطلق على (ثمود) عاد الثانية، ويطلق على عاد ارم "عاد الأولى"
يقول تعالى (واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ) يعنى اصبحوا هم أقوي شعوب المنطقة بعد قوم "عاد".
أطلق على قوم "ثمود" هذا الاسم نسبة الى جدهم: ثمود بن غاثر بن إرم بن سام بن نوح.
وقيل سموا بذلك لقلة الماء في المنطقة التى عاشوا فيها، لأن "الثمد" هو الماء القليل
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
عاش قوم "ثمود" في مكان في شمال غرب جزيرة العرب، يعنى شمال غرب المملكة العربية السعودية، ما بين الحجاز والأردن.
وهذا المكان يطلق عليه اسم (الْحِجْرِ) وهناك سورة في القرآن اسمها سورة (الْحِجْرِ) قال تعالى (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ) وهذا المكان موجود ومعروف الى الآن، ويطلق عليه "مدائن صالح"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وكان قوم ثمود أقوياء عمالقة الأجسام ،
وكانوا يتميزون بان أعمارهم طويلة، فكان الرجل يبنى مسكنه فيهدم في حياته، فكانوا ينحتون بيوتهم في الجبال، وكان ذك يدل على تقدمهم في مجال العمارة، ويدل -أيضًا- على قوتهم، بل كانوا من قوتهم يأتون الى بطن الوادي بكتل صخرية ضخمة، ويجعلونها مقرات للحكم.
وكانوا -أيضًا- أهل زراعة وماشية، وكانوا في سعة ورخاء من العيش.
وكانوا في أول أمرهم على التوحيد، ولكنهم بمرور الوقت تركوا عبادة الله وحده، وعبدوا الأصنام، وأفسدوا في الأرض، فأرسل الله تعالى إليهم نبيهم (صالح) ليدعوهم الى عبادة الله وحده، ونبذ عبادة الأصنام، والكف عن الظلم والفساد
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (۞ وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمۡ صَٰلِحا) يعنى وأرسلنا إِلَىٰ قبيلة "ثَمُودَ" نبي الله "صالح"
(أَخَاهُمۡ صَٰلِحا) يعنى واحد منهم، يعرفون نسبه ويعرفون أخلاقه ولمسوا صدقه وعفافه.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُ)
قال لهم "صالح" الكلمة التى قالها كل نبي (ٰيَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُ)
قال تعالى في سورة الأنبياء (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)
يقول الرسول ﷺ: "أَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ"
وهذه الجملة التى في سطر واحد، ليست هل الكلمة الوحيدة التى قالها "صالح" ولكنها ملخص لكلام كثير، ومناقشات وجدال وأدلة طرحت، على مدار عشرات السنين، ولكن كل الذي دعاهم اليه يتلخص في (ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱسۡتَعۡمَرَكُمۡ فِيهَا)
(أَنشَأَكُم) يعنى أوجدكم.
وجاء بهذه الكلمة (أَنشَأَكُم) لأن الإنشاء يتضمن معنى النمو.
كما نقول نشأ الصبي يعنى نمى وترعرع.
وهذا أمر لا يقدر عليه الا الله.
لأن الإنسان اذا صنع أي صنعة، ولنفرض سيارة مثلًا أو حتى كوب ماء.
هل هذا الكوب يمكن ينمو؟ هل يمكن أن يتكاثر؟ هذا مستحيل بالنسبة للإنسان، لا يستطيع الإنسان أن ينشأ شيئًا ينمو او يتكاثر.
ولذلك قال "صالح" هذه الكلمة الفريدة (هُوَ أَنشَأَكُم) يعنى أوجدكم من عدم، وجعلكم مخلوقات لها حياة ولها نمو ولها قدرة على التكاثر.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم قال: (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ) يعنى بدأ خلقكم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ، لأن الله خلق آدم من طين الأرض، ثم كل الخلق جاء من صلب آدم.
أو (أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ) لأن بناء جسم الإنسان وطعامه منذ كان جنينًا، من نبات الأرض.
سواء هذا المعنى او هذا المعنى أو المعنيين معًا، فالمقصود هو اظهار قدرة الله تعالى.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَٱسۡتَعۡمَرَكُمۡ فِيهَا) يعنى جعلكم بنائين وأهل عمارة، وأصحاب "حضارة عمرانية" قال تعالى (وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ) وقال تعالى (وثمود الذين جابوا الصخر بالواد) ومازات آثار مدائن صالح موجودة الى الآن وتدل على تقدمهم في العمارة والبناء. (تضم الآن 153 واجهة صخرية منحوتة)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
اذن تحدث "صالح" عن عظيم قدرة الله تعالى (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ) وهو أمر لا يقدر عليه الا الله.
وتحدث عن أظهر نعم الله عليهم (وَٱسۡتَعۡمَرَكُمۡ فِيهَا) جعلكم أهل بناء وعمارة ليس لكم مثيل على وجه ٱلۡأَرۡضِ في زمانكم.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(فَٱسۡتَغۡفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِ)
(فَٱسۡتَغۡفِرُوهُ) يعنى من الذنوب الماضية (ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِ) لا تنشئوا ذنوبًا جديدة.
ٱسۡتَغۡفِرُوهُ من عبادة الأصنام، ولا تعودوا لهذا الذنب مرة أخري.
واقتران الاستغفار بالتوبة هو دليل الصدق، لأن العبد اذا استغفر من الذنب، دون ان يتوب منه، يعنى دون أن يعزم على الا يعود لهذا الذنب مرة أخري، فهو كالمستهزيء بربه.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(إِنَّ رَبِّي قَرِيب مُّجِيب)
وهذه الصفات ليست لأصنامهم، فالله تعالى قريب بالعلم والسمع، مُّجِيب لدعاء عباده بفضله ورحمته.
(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)
(مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(قَالُواْ يَٰصَٰلِحُ قَدۡ كُنتَ فِينَا مَرۡجُوّا قَبۡلَ هَٰذَآۖ أَتَنۡهَىٰنَآ أَن نَّعۡبُدَ مَا يَعۡبُدُ ءَابَآؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكّ مِّمَّا تَدۡعُونَآ إِلَيۡهِ مُرِيب ﴿٦٢﴾
(قَالُواْ يَٰصَٰلِحُ قَدۡ كُنتَ فِينَا مَرۡجُوّا قَبۡلَ هَٰذَآ)
يعني كنت قبل موضوع النبوة شخصية واعدة، وكنت معقد الآمال كان الجميع يتوقع لك أن تكون من سادات "ثمود"
لأنك رجل عاقل ورزين وذو حسب وذو أخلاق حسنة.
وقيل أنه كانوا يعدونه ليكون ملك "ثمود"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(أَتَنۡهَىٰنَآ أَن نَّعۡبُدَ مَا يَعۡبُدُ ءَابَآؤُنَا)
استفهام على جهة التعجب والإنكار والتوبيخ.
وهذا مثلما قال كفار مكة (أجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَٰهًا وَاحِدًا إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَإِنَّنَا لَفِي شَكّ مِّمَّا تَدۡعُونَآ إِلَيۡهِ مُرِيب)
وَإِنَّنَا لَفِي شَكّ مِّمَّا تَدۡعُونَآ إِلَيۡهِ من عبادة الله وحده
(مُرِيب) يعنى هذه الدعوة مريبة، لابد أن لك أغراض شخصية من هذه الدعوة.
ودائمًا أهل الباطل عندهم سوء ظن بأهل الحق.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(قَالَ يَٰقَوۡمِ أَرَءَيۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَة مِّن رَّبِّي وَءَاتَىٰنِي مِنۡهُ رَحۡمَة فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ ٱللَّهِ إِنۡ عَصَيۡتُهُۥۖ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيۡرَ تَخۡسِير ﴿٦٣﴾
يرد عليهم "صالح" -عليه السلام- حتى يرفع الشك والريبة من نفوسهم، فيقول:
(قَالَ يَٰقَوۡمِ) وهذا تلطف في الخطاب، يا أهلى وناسي.
(أَرَءَيۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَة مِّن رَّبِّي وَءَاتَىٰنِي مِنۡهُ رَحۡمَة)
(أَرَءَيۡتُمۡ) أخبروني عن رأيكم، أو قدروا أو ضعوا أنفسكم مكاني
(إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَة مِّن رَّبِّي) يعنى: إِن كُنتُ عَلَىٰ أمر واضح لا شك فيه مِّن رَّبِّي، وهو هذا الدين الذي أدعوكم اليه.
(وَءَاتَىٰنِي مِنۡهُ رَحۡمَة) ورزقنى برحمته النبوة، والهداية الى الطريق المستقيم.
(فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ ٱللَّهِ إِنۡ عَصَيۡتُهُۥ) فمن يدفع عنى عقاب ٱللَّهِ إِنۡ عَصَيۡتُهُ بعدم ابلاغكم الرسالة التى أمرني بأن ابلغها لكم,
(فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيۡرَ تَخۡسِير) استفهام بمعنى النفي، يعنى لن تَزِيدُونَنِي ان قصرت في ابلاغ رسالة ربي غَيۡرَ الخسارة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يعنى صالح -عَلَيْهِ السَّلامُ- يريد أن يرفع الشك والريبة من نفوسهم، لأنهم قالوا (وَإِنَّنَا لَفِي شَكّ مِّمَّا تَدۡعُونَآ إِلَيۡهِ مُرِيب)
فيقول لهم صالح حتى يرفع ما في نفوسهم من الشك والريبة:
ويفسر لهم سبب اصراره على ابلاغ الرسالة، بالرغم من أنه كان مرجوا عندهم قبل هذه الرسالة
لأنهم مش قادرين يستوعبوا ايه اللى خلاه يتخلى عن المستقبل الواعد اللى كان منتظره ويتمسك بهذه الرسالة
قدروا أني على أمر واضح لا شك فيه من الله، وهو هذا الدين الذي أدعوكم اليه، وقدروا أنني نبى على الحقيقة، ثم قصرت في أداء الرسالة -حتى أكون مرجوًا عندكم كما تقولون- فمن يمنع عني عذاب الله؟ فما تزيدونني -ان فعلت ذلك- غير الخسارة.
كان "عُمرُ بنُ هُبَيرةَ" واليًا على العراقَ؛ وجاءته رسالة من أمير المؤمنين "يزيدَ بنِ عبدِ الملكِ" يأمره بشيء فيه معصية عظيمة، فسأل الحسنَ البصريَّ، فقال له الحسن البصري في كلمات وجيزة عظيمة:
يا ابنَ هُبيرةَ: إِنَّ اللهَ يَمْنَعُك مِن يزيدَ، وَإِنَّ يزيدَ لا يَمْنَعُك مِن اللهَ.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَيَٰقَوۡمِ هَٰذِهِۦ نَاقَةُ ٱللَّهِ لَكُمۡ ءَايَة فَذَرُوهَا تَأۡكُلۡ فِيٓ أَرۡضِ ٱللَّهِۖ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوٓء فَيَأۡخُذَكُمۡ عَذَاب قَرِيب ﴿٦٤﴾
طلب قوم "ثمود" من "صالح" أن يأتي لهم بعلامة تدل على صدق نبوته، فقال لهم "صالح": -عَلَيْهِ السَّلامُ- ما تريدون، فقام أحد اشرافهم، وأشار الى صخرة معينة وقال له: أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة، وأن تكون هذه الناقة عُشَراءَ، (مضى على حملها عشرة أشهر)
وقيل أن الصخرة التى طلبوا أن تخرج منها الناقة يقال لها "الكاثبة"، يعنى كانت هناك صخرة في الجبل معروفة عندهم.
فأخذ عليهم "صالح" العهود والمواثيق ان اخرج لهم من هذه الصخرة ناقة أن يؤمنوا بالله تعالى، فقالوا جميعًا: نعم، فقام صالح وصلى ودعا الله تعالى، فتحركت الصخرة كما تتحرك المرأة عند الولادة، ثم انشقت وخرجت منها ناقة عُشَراءَ عظيمة الحجم.
فلما وقعت هذه المعجزة العظيمة التى طلبوها بأنفسهم، آمن القليل من "ثمود" بينما ظل أكثرهم على الكفر.
وقيل أن الذي أقترح معجزة "الناقة" -وكان أحد أشرافهم- آمن مع صالح.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (وَيَٰقَوۡمِ هَٰذِهِۦ نَاقَةُ ٱللَّهِ لَكُمۡ ءَايَة) يعنى هذه الناقة معجزة من الله، وعلامة على صدق نبوتي.
وهي آية أو معجزة في أنها خرجت من صخرة، ومعجزة أنها خُلِقَت حامل من غير ذكر.
ومعجزة -بعد ذلك- في انها كانت تنتج لبنًا يكفي القبيلة كلها.
اقصى كمية ممكن أن تنتجها الناقة هي 25 لتر في اليوم، يعنى يمكن أن يروي مائة شخص.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(فَذَرُوهَا تَأۡكُلۡ فِيٓ أَرۡضِ ٱللَّهِ) ليس عليكم رزقها، وليس مطلوبً منكم أي شيء في شأنها، ولكن اتركوها حرة طليقة تأكل في أرض الله الواسعة.
اذن هي معجزة لا تضرهم شيئًا، بل على العكس ينتفعون جميعًا بلبنها.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوٓء فَيَأۡخُذَكُمۡ عَذَاب قَرِيب)
اياكم أن تتعرضوا لها باي أذي، وكلمة (لَا تَمَسُّوهَا) مبالغة في التحذير، مثل اثنان في مشاجرة يقول أحدهما للآخر: اياك تلمسني
(فَيَأۡخُذَكُمۡ عَذَاب قَرِيب) الأخذ يفيد السرعة ويفيد الشدة، يقول تعالى (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)
(عَذَاب قَرِيب) يعنى اذا قتلتوها فان العذاب سينزل بكم ولن يتأخر نزول العذاب.
ولذلك عندما عقروا الناقة بعد ذلك، نزل بهم العذاب بعد ثلاثة ايام.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
في موضع آخر في سورة "الشعراء" يقول تعالى (هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) يعنى ماء البئر الذي تشرب منه القبيلة قسمة بينهم وبين الناقة، فالناقة لها يوم تشرب فيه من البئر، والقبيلة كلها هم ودوابهم لهم يوم يشربون منه.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وهذا فيه قمة التحدي، لأن هذه الناقة أضافها صالح الى الله فقال (هَٰذِهِۦ نَاقَةُ ٱللَّهِ)
وهذه الناقة تفرض على القبيلة كلها، أسلوب حياتها ، فهي التي تحدد متى تشرب ومتى يشربون، فهي تتحكم في أهم عنصر من عناصر الحياة وهو الماء.
ثم حذرهم "صالح" أن يذبحوها، وأخبرهم أنهم إذا تجرؤا على ذلك فسينزل بهم عقاب الله تعالى، مع انها مخلوق مسالم لا يستطيع أن يدافع عن نفسه، فاذا أراد أحدهم أن يذبحها ويتخلص منها فيمكنه أن يفعل ذلك.
كأن هذه المعجزة تثبت لهم أنهم في قرارة أنفسهم يؤمنون بصدق نبوة صالح، والا لما خضعوا لهذا التهديد، ولما خضعوا لما تمليه عليهم هذه الناقة من اسلوب حياة، في أهم عنصر من عناصر حياتهم.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمۡ ثَلَٰثَةَ أَيَّام ذَٰلِكَ وَعۡدٌ غَيۡرُ مَكۡذُوب ﴿٦٥﴾
(فَعَقَرُوهَا) قتلوا الناقة
كيف قتلت ناقة صالح؟ قيل أن هذه الناقة كانت اذا خرجت ترعي في الصيف، ترعي في أماكن الظل والهواء الطيب، فكانت الأنعام اذا رأتها كانت تهرب منها لأنها كانت هائلة الحجم، فترعي الأنعام في الأماكن الحارة، واذا كان الشتاء ترعي في الماكن الدافئة وتهرب الأنعام الى الأماكن الباردة، فاضر ذلك بأنعام ثمود.
وكانت هناك امرأتان غنيتان، ومن أكثر ثمود ابل وبقر وغنم، وكانتا كافرتان وشديدي الكراهية لصالح، وهما: "صَدُوفُ بِنْتُ المُحَيّا" و"عُنَيْزَةُ بِنْتُ غَنْمٍ" وكانت "صَدُوفُ" امرأة جَمِيلَةٌ فعرضت نَفْسَها على ابْنَ عَمٍّ لَها يُقالُ لَهُ "مُصَدَّعُ" ان قتل الناقة فَأجابَها الى ذلك، وأما "عُنَيْزَةُ" فكانت لها أربعة بنات حسان، فدعت رجلًا اسمه "قُدارٌ بن سالف" الى قتل الناقة عَلى أنْ تزوجه أيَّ بَناتِها شاءَ فأجابها الى ذلك.
هكذا تعاهد قُدارٌ ومُصَدَّعٌ على قتل الناقة، واسْتَغْوَيا سَبْعَةَ نَفَرٍ، فَكانُوا تِسْعَةَ رَهْطٍ -كما قال القرآن العظيم- وكان هؤلاء التسعة رؤساء في قومهم، فاستمالوا القبيلة كلها، ووافقوهم على قتل الناقة، ولذلك قال تعالى بصيغة الجمع (فَعَقَرُوهَا) مع أن الذي عقرها واحد.
لأن الإنسان إذا أقرَّ عملاً شائناً فقد شارك الفاعل في الإثم.
"واذا لم تستطع قول الحق فلا تصفق للباطل"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
فَرَصَدُوا النّاقَةَ حِينَ صَدَرَتْ عَنِ الماءِ وكَمَنَ مُصَدَّعٌ في أصْلِ صَخْرَةٍ، وقُدارٌ في أصْلِ صَخْرَةٍ أُخْرى، فَمَرَّتْ عَلى مُصَدَّعٍ فَرَماها بِسَهْمٍ فسقط في عَضَلَةَ ساقِها، ثم مرت الناقة بقُدارٍ بن سالف، فضربها بالسيف على عرقوبها، فسقطت ورَغَتْ رُغاةً واحِدَةً لتحذر فصيلها، ثم طعنها في لَبَّتِها بالسيف فماتت، وخَرَجَ أهْلُ البَلْدَةِ فاقْتَسَمُوا لَحْمَها وطَبَخُوهُ
لما رغت الناقة تحذر فصيلها، انطلق فصيلها هاربًا، وقيل أنهم اتبعوه فعقوره كما فعلوا مع أمه، وقيل أنه صعد الى أعلى جبل، ورغا ثلاث مرات، يقول الحسن البصري: قال يا رب أين أمي؟ ثم دخل في صخرة فغاب فيها.
فلما بلغ الخبر صالحا -عليه السلام- جاء مسرعًا، فلما راي الناقة بكي ثُمَّ قَالَ:
انْتَهَكْتُمْ حُرْمَةَ اللَّهِ فَأَبْشِرُوا بِعَذَابِ اللَّهِ وَنِقْمَتِهِ.تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذَٰلِكَ وَعۡدٌ غَيۡرُ مَكۡذُوب.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
فلما كان المساء عزم هؤلاء التسعة على قتل صالح، وقالوا:
إن كان صادقا عجلناه قبلنا، وإن كان كاذبا ألحقناه بناقته،
يقول تعالى "قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقونومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم".
فلما جاء الليل وخرجوا لقتل صالح رمتهم الملائكة بالحجارة فقتلتهم،
فتجمعت ثمود كلها تريد قتل صالح، وقالوا لَهُ أنْتَ قَتَلْتَهم، فقامت عَشِيرَتُهُ فَحَمَتْهُ، وقالُوا:
وعَدَكم أنَّ العَذابَ نازِلٌ بِكم بَعْدَ ثَلاثٍ فَإنْ صَدَقَ لَمْ تَزِيدُوا رَبَّكم عَلَيْكم إلّا غَضَبًا، وإنْ كَذِبَ فَأنْتُمْ مِن وراءِ ما تُرِيدُونَ،
فلما مر اليوم الأول أصبحت وجوههم مصفرة، ولما كان اليوم الثاني أصبحت وجوههم محمرة،
فلما كان اليوم الثالث أصبحت وجوههم مسودة، فلما كان اليوم الثالث وارتفع الضحى، نزل بهم العذاب.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وقيل أن "ثمود" لو أنهم تابوا بعد قتل الناقة وقبل نزول العذاب بهم لقبلهم الله، كما فعل مع قوم "يونس"
(أوحى الله إلى داود عليه السلام فقال: يا داود لو يعلم المدبرون عني انتظاري لهم ورفقي بهم وشوقي إلى ترك معاصيهم، لماتوا شوقا إلي ولتقطعت أوصالهم لمحبتي، يا داود هذه إرادتي بالمدبرين عني، فكيف بالمقبلين علي)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمۡ ثَلَٰثَةَ أَيَّام)
(تَمَتَّعُواْ) يعنى عيشوا (فِي دَارِكُمۡ) فِي بلادكم.
وعبَّر عن الحياة بالتمتع، لأن الحيَّ يكون متمتِّعاً بحواسه عكس الميت
اذن قال لهم صالح أن العذاب سينزل بهم بعد ثلاثة أيام.
(ذَٰلِكَ وَعۡدٌ غَيۡرُ مَكۡذُوب)
ذَٰلِكَ الوَعۡدٌ بالعذاب سينزل بكم لا محالة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(فَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا نَجَّيۡنَا صَٰلِحا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ بِرَحۡمَة مِّنَّا وَمِنۡ خِزۡيِ يَوۡمِئِذٍۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ٱلۡقَوِيُّ ٱلۡعَزِيزُ ﴿٦٦﴾
(فَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا) فَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا بالعذاب.
(نَجَّيۡنَا صَٰلِحا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ) وهذا من عظيم قدرة الله، لأن قوم "ثمود" أهلكوا بالصيحة، ونجا منها أهل الإيمان.
في قوم نوح ركب المؤمنون سفينة أعدوها للطوفان ونجوا بسببها،
في قصة "هود" أهلكوا بالريح، ربما عندما جاء العذاب أمر "هود" المؤمنين بأن يكمنوا في غار حتى مرت العاصفة بعد ثمانية أيام.
أما في قصة صالح فاهلكوا بالصيحة فلابد أن تصل الى كل انسان.
فكانت نجاة المؤمنين من هذا العذاب من عظيم قدرة الله تعالى.
يقول الفخر الرازي في مفاتيح الغيب: أوصل ذلك العذاب إلى الكافر وصان أهل الإيمان عنه، وهذا التمييز لا يصح إلا من القادر الذي يقدر على قهر طبائع الأشياء فيجعل الشيء الواحد بالنسبة إلى إنسان بلاء وعذابا وبالنسبة إلى إنسان آخر راحة وريحانا
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(نَجَّيۡنَا صَٰلِحا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ بِرَحۡمَة مِّنَّا)
مر بنا في قصة "هود" قوله تعالى (بِرَحۡمَة مِّنَّا) وقلنا أن المعنى برحمة من الله أن هداهم ووفقهم للإيمان.
أو (بِرَحۡمَة مِّنَّا) لأنه لا يدخل الجنة أحد بعمله ولكن برحمة الله وفضله، قالوا: ولا أنْتَ يا رَسولَ اللَّهِ؟ قالَ: ولا أنا، إلَّا أنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بفَضْلٍ ورَحْمَةٍ. وثراء الأسلوب يتسع للمعنييين.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَمِنۡ خِزۡيِ يَوۡمِئِذٍ)
يعنى ونجنياهم مِنۡ خِزۡيِ هذا اليوم، والخزي هو الذل والهوان الي يبلغ حد الفضيحة.
ولذلك قال تعالى في المحاربين في سورة المائدة (ذلك لهم خزى فى الدنيا) عندما يراهم الناس وقد قطعت أيديهم وارجلهم من خلاف، يعرفون أنهم محاربون ومجرمون، فيكون لهم ذل وهوان وفضيحة.
هنا وصف -تعالى- عذاب قوم "ثمود" بالخزي يعنى من هذا الذل العظيم والفضيحة.
لأنه لا خزي أعظم من خزي من كان هلاكه بغضب الله وانتقامه.
مثل الذي يموت على معصية، كالذي يموت منتحرًا، أو بسبب جرعة ذائدة من المخدرات، نجد أهله يخفون ذلك لأنه ذل وفضيحة بالنسبة لهم.
وأيضًا لأنها فضيحة باقية وثابتة في كتاب الله الى يوم القيامة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ٱلۡقَوِيُّ ٱلۡعَزِيزُ)
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ٱلۡقَوِيُّ) ٱلۡقَوِيُّ في بطشه، اذا بطش بشيء أهلكه، كما أهلك قوم عاد وثمود.
(ٱلۡعَزِيزُ) فلا يغلبه غالب ، ولا يقهره قاهر، بل يغلب كل شيء ويقهره.
ومن كان مع القوي يكون قويًا، ومَن كان مع العزيز يكون عزيزا .
كنْ مع القويِّ العزيز تكنْ عزيزاً، و تنجُ من كلُّ همٍّ و ألمٍ:
إِجْعَل لِرَبِّكَ كُلَّ عِزِّكَ يَسْتَقِرُّ وَيَثْبُتُ **
فَإِذَا اعْتَزَزْتَ بِمَنْ يَمُوتُ فَإِنَّ عِزَّكَ مَيِّتُ
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَأَخَذَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيۡحَةُ فَأَصۡبَحُواْ فِي دِيَٰرِهِمۡ جَٰثِمِينَ ﴿٦٧﴾
الأخذ يدل على الشدة في التناول، (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)
(وَأَخَذَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيۡحَةُ) أمر الله تعالى جبريل فصاح بهم صيحة عظيمة هائلة، ورجفت منها الأرض وزلزلت، وصاحب هذه الصيحة برق شديد محرق، فتقطعت قلوبهم من الصيحة، واحرقوا بالصاعقة، وماتوا جميعًا.
(فَأَصۡبَحُواْ فِي دِيَٰرِهِمۡ) يعنى في بيوتهم وبلادهم
(جَٰثِمِينَ) وأصل "الجثوم" هو السكون، كانت العرب تقول للطير إذا باتت في أوكارها أنها جثمت،
ثم أطلقوا هذا اللفظ على الذي يسقط على وجهه ولا يتحرك من الموت.
فقوله تعالى (فَأَصۡبَحُواْ فِي دِيَٰرِهِمۡ جَٰثِمِينَ) يعنى هلكي ساقطين على وجوههم.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
هناك لمسة بيانية في الأسلوب.
في قصة "شعيب" في نفس السورة، يقول تعالى (وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) بالتأنيث.
وفي قصة "هود" قال تعالى (وَأَخَذَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيۡحَةُ) بالتذكير.
أولًا: هي لغة تأتي بالتأنييث أم بالتذكير.
لأن (الصيحة) مؤنث ولكن مؤنث مجازي
يعنى ليس له ذكر من جنسه ما فيش حاجة اسمها صيح
والمؤنث المجازي يجوز فيه التذكير ويجوز فيه التأنيث
.
لماذا في "شعيب" بالتأنيث وفي "ثمود" بالتذكير.
لأن عذاب قوم شعيب كان بالظلة وصاحبته الصيحة والصاعقة.
أما عذاب قوم صالح فكان أصله الصيحة وصاحبته الصاعقة والرجفة.
فلايد أن تكون الصيحة في حق قوم "ثمود" اقوي من الصيحة التى أصابت قوم "شعيب"
ولذلك جائت عند "ثمود" بالتذكير، وعند "شعيب" بالتأنيث، لأن التذكير أقوي في اللفظ من التأنيث
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(كَأَن لَّمۡ يَغۡنَوۡاْ فِيهَآۗ أَلَآ إِنَّ ثَمُودَاْ كَفَرُواْ رَبَّهُمۡۗ أَلَا بُعۡدا لِّثَمُودَ ﴿٦٨﴾
كانت العرب تقول: غنى بهذا المكان يعنى أقام وعاش فيه.
(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَآ) يقول كأنهم لَمْ يَكُونُوا ولم يعيشوا في هذا المكان وفي الدنيا.
أين صولاتهم؟ أين جولاتهم؟ أين عزهم؟ أين حفلاتهم؟ أين سهراتهم؟
(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَآ) كأنهم لم يوجدوا في الدنيا اصلًا.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(أَلَآ إِنَّ ثَمُودَاْ كَفَرُواْ رَبَّهُمۡ) يعنى كَفَرُواْ برَبَّهُمۡ.
و كَفَرُواْ بنعم الله عليهم، بأن استخدموا هذه النعم في معصية الله، بدلًا من استخدامها في طاعته تعالى.
(أَلَا بُعۡدا لِّثَمُودَ) دعا عليهم القرآن كما دعا على قوم عاد
(أَلَا بُعۡدا لِّثَمُودَ) بُعۡدا وطردًا من رحمة الله تعالى.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
قلنا ان آثار ثمود قوم صالح لا زالت باقية الى اليوم، ومر بها الرسول ﷺ وهو في طريقه الى غزوة "تبوك" في السنة التاسعة من الهجرة، فأراد المسلمون أن يدخلوا على هذه الديار بقصد الفرجة عليها، فنهاهم الرسول ﷺ وأسرع بالمشي وقال ﷺ
(لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ ثُمَّ تَقَنَّعَ بِرِدَائِهِ وَهُوَ عَلَى الرَّحْلِ)
بل أكثر من هذا كان الجيش قد ملئوا أسقيتهم من آبار موجودة في المنطقة، وعجنوا منها، ونصبوا لها القدور، فأمرهم الرسول ألا يشربوا من هذا الماء، وألا يأكلوا من هذا العجين، وانما يعلفوه للأبل.
لماذا هذا الخوف الشديد من الرسول ﷺ من ديار قوم "ثمود" ؟
كلما ازداد الإنسان معرفة بالله، كلما ازداد خوفه من الله تعالى.
وهكذا كان شأن الرسول ﷺ شديد الخوف من الله تعالى، اذا هبت رياح يخاف أن يكون عذابًا كعذاب قوم عاد، اذا خسفت الشمس يهرع الى الصلاة، ويصلى صلاة الخسوف، ويطيل في الصلاة، حتى ينتهي الكسوف، وهنا يمر الرسول ﷺ على مساكن "ثمود" فيتقنع بِرِدَائِهِ وَهُوَ عَلَى الرَّحْلِ، ويسرع في المشي، خوفًا أن يصيبهم ما أصاب هؤلاء الأشقياء.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وقرأت بعض الفتاوي تستند الى هذا الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم وتقول ان زيارة آثار الفراعنة محرم شرعًا، ونرد على ذلك ونقول أن غير صحيح، لأن الفراعنة الذين حكموا مصر كثيرين جدًا، واحد وثلاثين اسرة حكموا مصر لآلاف السنين، فمن أين أتيت أن هذه الآثار الكثيرة جدًا للفراعنة، هي لقوم قد عذبوا ؟
اذا كنت تقصد آثار فرعون موسي، ولكن آثار فرعون موسي غير محددة،
لأن فرعون موسي نفسه غير معروف على وجه التحديد.
أما اذا كانت الآثار لأمم معذبة، ونحن نعلم أن هذه الآثار لأمم معذبة، مثل "مدائن صالح"
فنعم لا يجوز زيارتها لغرض السياحة، واذا مررت بها فلا ينبغي البقاء فيها، ولا الأكل واشرب فيها.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وأخيرًا من إشارات القرآن العلمية في قصة "ثمود" أن القرآن العظيم ذكر أن عقاب ثمود كان بالصيحة،
ولم يكن أحد يتخيل في ذلك الوقت أن الصوت له قوة تدميرية، وأنه يمكن أن يدمر شعب بأكمله.
والآن يقول العلماء أن الصوت عبارة عن اهتزازات تنتقل في الهواء على شكل موجات صوتية،
فاذا زاد الصوت عن حد معين فان هذه الاهتزازات تؤدي اهتزاز الأعضاء الداخلية لجسم الانسان،
وإذا زاد الصوت أكثر فانه يدمر أجهزة الجسم ويؤدي الي الوفاة.
ولذلك فان من دقة أداء القرآن أنه عبر عن عذاب قوم ثمود مرة بالصيحة يعنى الصوت المرتفع،
وعبر عنه في موضع آخر بالرجفة وهو ما أحدثه هذا الصوت المرتفع من رجفة في أجساد قوم ثمود ثم هلاكهم.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
لِمُطَالَعَة بَقِيَةِ حَلَقَات "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم"
لِمُشَاهَدَة حَلَقَاتِ "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم" فيديو
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
|