الحلقة رقم (598)
(تًدَبُر القُرْآن العَظِيم)
تفسير وتدبر الآيات من (50) الى (57) من سورة "يُوُسُف"- ص 241
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَقَالَ ٱلۡمَلِكُ ٱئۡتُونِي بِهِۦۖ فَلَمَّا جَآءَهُ ٱلرَّسُولُ قَالَ ٱرۡجِعۡ إِلَىٰ رَبِّكَ فَسَۡٔلۡهُ مَا بَالُ ٱلنِّسۡوَةِ ٱلَّٰتِي قَطَّعۡنَ أَيۡدِيَهُنَّۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيۡدِهِنَّ عَلِيمٞ ﴿٥٠﴾ قَالَ مَا خَطۡبُكُنَّ إِذۡ رَٰوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفۡسِهِۦۚ قُلۡنَ حَٰشَ لِلَّهِ مَا عَلِمۡنَا عَلَيۡهِ مِن سُوٓءٖۚ قَالَتِ ٱمۡرَأَتُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡـَٰٔنَ حَصۡحَصَ ٱلۡحَقُّ أَنَا۠ رَٰوَدتُّهُۥ عَن نَّفۡسِهِۦ وَإِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ ﴿٥١﴾ ذَٰلِكَ لِيَعۡلَمَ أَنِّي لَمۡ أَخُنۡهُ بِٱلۡغَيۡبِ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي كَيۡدَ ٱلۡخَآئِنِينَ ﴿٥٢﴾ ۞ وَمَآ أُبَرِّئُ نَفۡسِيٓۚ إِنَّ ٱلنَّفۡسَ لَأَمَّارَةُۢ بِٱلسُّوٓءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّيٓۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٞ رَّحِيمٞ ﴿٥٣﴾
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ما زلنا في قصة يوسف -عَلَيْهِ السَّلامُ- وانتهينا في الآيات السابقة حين رأي ملك الهكسوس والذي كان يحكم مصر في ذلك الوقت، رأي رؤيا أفزعته وأهمته، وهي أنه راي (سَبۡعَ بَقَرَٰتٖ سِمَانٖ يَأۡكُلُهُنَّ سَبۡعٌ عِجَافٞ وَسَبۡعَ سُنۢبُلَٰتٍ خُضۡرٖ وَأُخَرَ يَابِسَٰتٖۖ) وطلب الملك من يأول له هذه الرؤيا العجيبة، وخصوصًا أنه كانت رؤيا متكررة مع الملك، ولكن لم يستطع أحد من حاشية الملك تعبير هذه الرؤيا، حتى قال ساقي الملك -والذي كان أحد صاحبي يوسف في السجن- أَنَا۠ أُنَبِّئُكُم بِتَأۡوِيلِ هذه الرؤيا، وطلب أن يرسلوه الى يُوُسُف في السجن، فلما قص على يُوُسُف الرؤيا، علم يُوُسُف من الرؤيا أن البلاد ستمر بسبعة سنوات خصبة، ثم يكون بعدها سبعة سنوات من الجدب والجفاف، ورأينا أن يُوُسُف لم يساوم على حريته مقابل تفسير الرؤيا، بل على العكس فان يُوُسُف لم يكتف بتفسير الرؤيا فقط، بل قدم خطة لإنقاذ البلاد من الأزمة أو من الكارثة التي هي مقبلة عليها، فوجه الى ضرورة الزراعة في السنوات الخصب السبع المقبلة بجد واجتهاد، حتى تعطي الأرض أقصى انتاجية لها، وأن يتم تخزين المحصول ليغطي سنوات الجدب والجفاف، وأرشد الى ضرورة التقشف في سنوات الخصب، وأرشد الى طريقة تخزين المحصول بأن تظل الحبوب في سنابلها وفي قشرتها، حتى لا تفسد، وأرشد الى ضرورة الإبقاء على عدد من البذور حتى تستخدم في الزراعة بعد انتهاء سنوات الجدب.
وأخيرًا ذكر يُوُسُف نبوءة عجيبة، وهي انه بعد انتهاء السبع الشداد سيكون عام خصب وخير عظيم، وهذه النبوءة كانت بوحي من الله تعالى.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم قال تعالى:
(وَقَالَ ٱلۡمَلِكُ ٱئۡتُونِي بِهِۦۖ فَلَمَّا جَآءَهُ ٱلرَّسُولُ قَالَ ٱرۡجِعۡ إِلَىٰ رَبِّكَ فَسَۡٔلۡهُ مَا بَالُ ٱلنِّسۡوَةِ ٱلَّٰتِي قَطَّعۡنَ أَيۡدِيَهُنَّۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيۡدِهِنَّ عَلِيمٞ ﴿٥٠﴾
يعنى لما عاد الساقي بتأويل الرؤيا، وبالخطة التي وضعها يُوُسُف.
دهش ٱلۡمَلِكُ من هذا العلم الغزير الذي عند يُوُسُف، والذي لم يكن عند أحد من حاشيته، ولا عند أحد من العلماء في مملكته، ودهش من سمو نفس يُوُسُف لأنه لم يساوم على حريته مقابل تفسير الرؤيا، بل أنه -أكثر من هذا- قدم الخطة التي فيها انقاذ مصر من الكارثة دون ان يطلب منه ذلك.
ولذلك أمر ٱلۡمَلِكُ فورًا بأن يأتوا له بيوسف من السجن، حتى يسمع منه هذا الكلام بإذنه، ويناقشه حتى يستفيد من علمه، وحتى يري هذه الشخصية السامية العظيمة.
يقول تعالى (وَقَالَ ٱلۡمَلِكُ ٱئۡتُونِي بِهِۦ) ائتوني بالذي عبّر رؤياي.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم يقول تعالى (فَلَمَّا جَآءَهُ ٱلرَّسُولُ قَالَ ٱرۡجِعۡ إِلَىٰ رَبِّكَ فَسَۡٔلۡهُ مَا بَالُ ٱلنِّسۡوَةِ ٱلَّٰتِي قَطَّعۡنَ أَيۡدِيَهُنَّ)
هنا كانت المفاجأة، عندما جاء رسول ٱلۡمَلِك الى يُوُسُف في السجن، وقال له: أجب ٱلۡمَلِك.
رفض يُوُسُف أن يخرج من السجن قبل أن يتم التحقيق في قضيته.
(قَالَ ٱرۡجِعۡ إِلَىٰ رَبِّكَ) يعنى ٱرۡجِعۡ إِلَىٰ سيدك، وهو ٱلۡمَلِك.
(فَسَۡٔلۡهُ مَا بَالُ ٱلنِّسۡوَةِ ٱلَّٰتِي قَطَّعۡنَ أَيۡدِيَهُنَّ)
الملك لا يعرف هذه القصة، ولكن إذا سالت شخص عن شيء، وأنت تعرف أنه لا يعرفها، كأنك تطلب منه أن يبحث في هذا الأمر.
اذن يُوُسُف يطلب من الملك أن يبحث في قصة "ٱلنِّسۡوَةِ ٱلَّٰتِي قَطَّعۡنَ أَيۡدِيَهُنَّ"
لماذا حدد هؤلاء النساء؟
يعنى كان الأظهر أن يطلب التحقيق مع امرأة العزيز، لأنها هي أصل القضية.
قال كثير من المفسرين أنه لم يذكر امرأة العزيز أدبًا منه وسترًا لها، واحترامًا زوجها.
وهذا غير صحيح لأن هؤلاء القوم سواء امرأة العزيز او العزيز نفسه، قد ظلموا يوسف ظلما بينًا ووضعوه في السجن سنوات طويلة، برغم علمهم ببراءته، والمؤمن ليس ضعيفًا ولا خانعًا ولا يستحي من الحق.
ولكن الحقيقة أن يوسف لم يذكر امرأة العزيز لأنها هي خصمه في القضية.
فعندما قال يوسف (فَسَۡٔلۡهُ مَا بَالُ ٱلنِّسۡوَةِ ٱلَّٰتِي قَطَّعۡنَ أَيۡدِيَهُنَّ)
هو يطلب شهود في مقابلة خصمه في القضية وهي امرأة العزيز.
وحدد هؤلاء الشاهدات، لأن هؤلاء هن صاحبات امرأة العزيز اللاتي سمعن بإذنهن اعتراف امرأة العزيز على نفسها، عندما قالت (وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ۖ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ)
فإذن امرأة العزيز اعترفت أمام كل هؤلاء (ٱلنِّسۡوَةِ) بأنها راودت يُوُسُف عَن نَّفْسِهِ، وبأنه اسْتَعْصَمَ وأبي عليها، وبأنها هددت ان لم يستجب لها بأن يسجن، فاذا سجن يوسف بعد ذلك، فهذا يعنى انه لم يستجب هذا، وهذا دليل براءته وعفته.
(ٱرۡجِعۡ إِلَىٰ رَبِّكَ فَسَۡٔلۡهُ مَا بَالُ ٱلنِّسۡوَةِ ٱلَّٰتِي قَطَّعۡنَ أَيۡدِيَهُنَّ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
لماذا قال يوسف هذه الكلمة العجيبة (ٱلنِّسۡوَةِ ٱلَّٰتِي قَطَّعۡنَ أَيۡدِيَهُنَّ)؟
هل كان يُوُسُف يقصد أن يفتخر بجماله، لدرجة أن النساء دهشن ولم يدرين بحالهن وقَطَّعۡنَ أَيۡدِيَهُنَّ؟
قال أولًا لتحديد الشهود، يعنى النساء اللاتي كن موجودات يوم دعوة امرأة العزيز،
وثانيًا هو يعطي مفتاح التحقيق الذي يبدأ به الملك، والدليل على صدق روايته.
لأن الجروح التي في أيدي هذه النساء لا تزال آثارها موجودة برغم مرور كل هذه السنوات.
لأن الله تعالى قال (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) يعنى الجروح لم تكن سطحية، يزول أثرها، ولكن جروح غائرة، والجروح الغائرة تظل آثارها، وكانت امرأة العزيز تقصد ذلك، ولذلك أعطت كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا حادًا.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
أمر آخر أن الوصل لهذه النساء ليس أمرًا صعبًا، لأن كلهن من صاحبات امرأة العزيز.
يعنى من نساء الطبقة الحاكمة في مصر، يعنى نساء حاشية الملك.
فيأتي الملك بهؤلاء النساء، وفي أيديهن جميعًا آثار الجروح.
لن تستطيع واحدة منهن بعد ذلك أنها لم تكن موجودة.
ولن تستطيع واحدة منهن الا أن تذكر الا الرواية الحقيقية.
كل هذا حققه يوسف بهذه العبارة المركزة: (فَسَۡٔلۡهُ مَا بَالُ ٱلنِّسۡوَةِ ٱلَّٰتِي قَطَّعۡنَ أَيۡدِيَهُنَّ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم يقول يوسف (إِنَّ رَبِّي بِكَيۡدِهِنَّ عَلِيم)
يعنى إِنَّ رَبِّي يعلم كيف أن كل واحدة من هؤلاء النسوة احتالت ومكرت وحاولت أن أقع معها في الفاحشة فلم استجب لها، ولذلك كان مصيري السجن طوال هذه السنوات.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
لماذا هذا الموقف العجيب ليوسف -عَلَيْهِ السَّلامُ-؟
الملك يطلب أن يقابل يوسف ويوسف يرفض.
الذي يطلب أن يقابل يوسف: ليس رئيس السجن، وليس رئيس الشرطة، وليس عزيز مصر، ولكن ملك مصر.
ويوسف مسجون لسنوات طويلة، وهو كان يحاول أن تصل مظلمته للملك، ويقول (اذكرني عند ربك)
الآن الملك نفسه هو الذي يطلب مقابلتك.. لما لا تخرج وتعرض مظلمتك.
أمر آخر رفض يوسف مقابلة الملك يمكن أن تستفز الملك
ممكن جدا أن تكون هذه هي الفرصة الأخيرة ليوسف حتى يخرج من السجن.
موقف عجيب جدًا ليوسف -عليه السلام-
لدرجة أن الرسول ﷺ عجب من أمر يوسف، عن أبي هريرة قال: قال النبي ﷺ: "لو لبثت في السجن ما لبث يوسف، ثم جاءني الداعي لأجبته"
وعن عكرمة قال: قال رسول الله ﷺ: لقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه، والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان، ولو كنت مكانه ما أخبرتهم بشيء حتى أشترط أن يخرجُوني، ولقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه، والله يغفر له حين أتاه الرسول، ولو كنت مكانه لبادرتهم البابَ"
"ولقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
لماذا هذا الموقف العجيب المذهل ليوسف -عَلَيْهِ السَّلامُ-؟
هذه الموقف ليوسف لأن يوسف -عَلَيْهِ السَّلامُ- نبي.
وقد ذكرنا أن يوسف اوحي اليه وبدأ دعوته وهو في السجن.
فان دور يوسف هو الدعوة الى الله، والدعوة الى التوحيد.
فلو خرج يُوُسُف من السجن دون أن تثبت براءته فلن يقبل أحد رسالته.
لو أرسل الملك الى يوسف يطلب مقابلته وخرج يوسف وقابله
وأمر الملك أن تنتهي سنوات سجن يُوُسُف، وهذا هو المتوقع بعد المقابلة.
سيكون يوسف قد خرج من السجن، كما نقول الآن بعفو ملكي أو عفو رئاسي.
يعنى الجريمة ثابتة عليك، ولكن الملك عفا عنك.
في هذه الحالة لن يقبل أحد رسالته.
لن يصدق أحد أنه نبي.
لو صعد خطيب جمعة عادي على المنبر، ومن في المسجد يعرفون أنه كان متهمًا في قصية مخلة بالشرف، لن يسمعه أحد، لن يسمحوا حتى له أن يصعد على المنبر.
هذا خطيب جمعة عادي، فما بالك لو كان نبي.
فلو كان يوسف قد استجاب لدعوة الملك.
كان قضى على قبول الناس له كنبي.
ولذلك كان قرار يُوُسُف أن يضحي بنفسه ويضحي بحريته في سبيل دعوته التي كلفه الله بها.
وجد يوسف أنه لو ظل في السجن يدعو الى عبادة الله وحده، خير له من ان يكون خارج السجن وقد فقد اي فرصة للدعوة الى الله.
ولذلك قَالَ يوسف لرسول الملك بكل ثقة وهدوء وسكينة:
(ٱرۡجِعۡ إِلَىٰ رَبِّكَ فَسَۡٔلۡهُ مَا بَالُ ٱلنِّسۡوَةِ ٱلَّٰتِي قَطَّعۡنَ أَيۡدِيَهُنَّ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(قَالَ مَا خَطۡبُكُنَّ إِذۡ رَٰوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفۡسِهِۦۚ قُلۡنَ حَٰشَ لِلَّهِ مَا عَلِمۡنَا عَلَيۡهِ مِن سُوٓءٖۚ قَالَتِ ٱمۡرَأَتُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡـَٰٔنَ حَصۡحَصَ ٱلۡحَقُّ أَنَا۠ رَٰوَدتُّهُۥ عَن نَّفۡسِهِۦ وَإِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ ﴿٥١﴾
هنا في الكلام محذوف، وتقديره أن رسول الملك عاد الى الملك، وأخبره بما قاله يُوُسُف، وبحث الملك واستقصى في كلام يُوُسُف، ثم استدعي النساء، وفيهن امرأة العزيز.
وحذف كل هذا لأن هذا مفهوم من السياق، وحتى يدل على أن الملك بدأ في التحقيق فورًا.
ولا شك أن رفض يُوُسُف أن يخرج من السجن قبل أن تثبت براءته لا شك أنه أدهش الملك، وبدأ الملك فورًا في التحقيق في الموضوع، كأن الملك متشوق الى حضور يوسف بين يديه.
يقول تعالى: (قَالَ مَا خَطۡبُكُنَّ إِذۡ رَٰوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفۡسِهِ)
الخطب الأمر الهام الجلل،
وهي مأخوذة من الخُطبة، لأن الخُطبة تكون في الأمر المهم.
كما قَالَ إبراهيم للملائكة التي جاءت لإهلاك قري لوط (فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا ٱلْمُرْسَلُونَ)
وعندما عاد موسي من لقاء ربه ووجد قومه يعبدون العجل قَالَ (فَمَا خَطْبُكَ يٰسَامِرِيُّ)
فقول الملك (مَا خَطۡبُكُنَّ إِذۡ رَٰوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفۡسِهِ)
يدل على اهتمام الملك الشديد بالقضية وانه اعتبرها "خطبًا" أمر هام، أمر جلل
وبداية التحقيق أن قَالَ مَا خَطۡبُكُنَّ إِذۡ رَٰوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفۡسِهِ.
اذن هو استقصي الموضوع قبل بداية التحقيق، ووصل الى قناعة ويقين ببراءة يوسف.
ولذلك بدأ بأن قَالَ مَا خَطۡبُكُنَّ إِذۡ رَٰوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفۡسِهِ.
احكولى قصتكم لما راودتم يُوسُفَ عَن نَّفۡسِهِ.
(مَا خَطۡبُكُنَّ إِذۡ رَٰوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفۡسِهِ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (قُلۡنَ حَٰشَ لِلَّهِ مَا عَلِمۡنَا عَلَيۡهِ مِن سُوٓءٖۚ)
أمام هذه المواجهة من الملك
وآثار السكين في يد كل واحدة
لم تملك واحدة من النساء الإنكار.
(كما نقرأ أن المتهم بمواجهة بالأدلة انهار واعترف)
فقُلۡنَ بلسان واحد (حَٰشَ لِلَّهِ مَا عَلِمۡنَا عَلَيۡهِ مِن سُوٓءٖۚ)
(حَٰشَ لِلَّهِ) يعنى معاذ الله أن نشهد شهادة زور، او أن نقول غير الحقيقة.
(مَا عَلِمۡنَا عَلَيۡهِ مِن سُوٓءٖ)
ذكرنا في قوله تعالى (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء انه من عبادنا المخلصين)
أن السوء مقدمات الزنا، والفاحشة هي الزنا.
فحين يقلن (مَا عَلِمۡنَا عَلَيۡهِ مِن سُوٓءٖ)
يعنى لا غبار عليه في أي شيء ولو قليل.
ولك أن تتخيل النساء في هذا الموقف: واقفات أمام الملك وجوههن في الأرض، وهن يعترفن بأصوات مرتعشة.
لأن كل واحدة كانت مشتركة بشكل أو بآخر في جريمة سجن يوسف كل هذه السنوات، بلا أي ذنب ارتكبه.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم يقول تعالى (قَالَتِ ٱمۡرَأَتُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡـَٰٔنَ حَصۡحَصَ ٱلۡحَقُّ أَنَا۠ رَٰوَدتُّهُۥ عَن نَّفۡسِهِۦ وَإِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ)
هنا يظهر أن ٱمۡرَأَتُ ٱلۡعَزِيزِ كانت حاضرة، يعنى الملك استدعاها للتحقيق مع من استدعاهن من النساء، وهذا هو الطبيعي لأنها الأصل الأصيل في القضية.
وان كان قد قيل أن العزيز كان قد مات في ذلك الوقت.
(قَالَتِ ٱمۡرَأَتُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡـَٰٔنَ حَصۡحَصَ ٱلۡحَقُّ) يعنى ظهر ٱلۡحَقُّ وانكشف.
والفعل حصحص أصله "حصَّ"، وهو من الحص بمعنى الاستئصال والإِزالة، تقول: فلان حص شعره إذا أزاله فظهر ما كان خافيا من تحته.
(ٱلۡـَٰٔنَ حَصۡحَصَ ٱلۡحَقُّ) الآنَ ظهر ٱلۡحَقُّ بعد أن كان خافيًا
هنا يظهر أن امرأة العزيز سعيدة بظهور الحقيقية بالرغم من أنها المتهمة الأولى في هذه القضية.
ثم تقول:
(أَنَا۠ رَٰوَدتُّهُۥ عَن نَّفۡسِهِۦ وَإِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ)
هنا علمنا أن الجريمة التي دخل يوسف بسببها السجن، هي: مرَٰاوَدة امرأة العزيز عَن نَّفۡسِهِا، أنها حاول أن يعتدي على زوجة سيده.
ولذلك كان اعترافها هو نقض التهمة عن يوسف
(أَنَا۠ رَٰوَدتُّهُۥ عَن نَّفۡسِهِۦ وَإِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ)
أَنَا۠ الذي رَٰاوَدتُّهُۥ عَن نَّفۡسِهِ وليس هو
(وَإِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ) جاءت بالتوكيد، أكدت صدقه.
يعنى كان صادقًا حين قال (هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وهنا تظهر توبة صادقة لامرأة العزيز.
لأن قولها: (ٱلۡـَٰٔنَ حَصۡحَصَ ٱلۡحَقُّ)
يظهر فيه أنها سعيدة بظهور الحقيقية .
ثم تقول (أَنَا۠ رَٰوَدتُّهُۥ عَن نَّفۡسِهِۦ وَإِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ)
يعنى لم تكتف بنفي التهمة عن يوسف كما فعلت بقية النساء
قالت النساء (مَا عَلِمۡنَا عَلَيۡهِ مِن سُوٓءٖۚ) يعنى نفين التهمة عن يوسف.
ولكن امرأة العزيز لم تكتف بأن تنفي التهمة عن يوسف
ولكن اعترفت على نفسها، لأن الإقرار على النفس أقوي أنواع الشهادة.
عندما أقول أنا الذي فعلت هذه الجريمة، أقوي من ان أقول: فلان لم يفعل الجريمة.
(ٱلۡـَٰٔنَ حَصۡحَصَ ٱلۡحَقُّ أَنَا۠ رَٰوَدتُّهُۥ عَن نَّفۡسِهِۦ وَإِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم يقول تعالى (ذَٰلِكَ لِيَعۡلَمَ أَنِّي لَمۡ أَخُنۡهُ بِٱلۡغَيۡبِ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي كَيۡدَ ٱلۡخَآئِنِينَ ﴿٥٢﴾
هذا من تكملة كلام امرأة العزيز
(ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب)
هذا الاعتراف الذي قلته، حتى يعلم يُوُسُف، بأني لم أخونه في غيبته، وهو في السجن، وانما شهدت له بالصدق.
(وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين)
يعنى الله -تعالى- لا يوفق ولا يسدد تدبير ومكر الخائنين.
بدليل أنني كدت ليوسف، ودبرت وتآمرت، ولكن كانت النتيجة في النهاية أن ظهرت الحقيقة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
.وذهب البعض ومنهم ابن جرير الطبري وغيره الى أن قوله تعالى (ذَٰلِكَ لِيَعۡلَمَ أَنِّي لَمۡ أَخُنۡهُ بِٱلۡغَيۡبِ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي كَيۡدَ ٱلۡخَآئِنِينَ) هو من كلام يوسف، يعنى ٰ ذَٰلِكَ لِيَعۡلَمَ سيدي وهو العزيز أَنِّي لَمۡ أَخُنۡهُ في أهل بيته.
وهذا بعيد لأن عزيز مصر كان يعلم منذ اللحظة الأولى صدق يوسف
بعد أن شهد شاهد من أهلها، ووجد قميصه قد من دبر وقال (يوسف أعرض عنها واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين)
(ثم رأوا من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين)
يعنى من بعد ما رأوا الآيات الواضحة على صدق يوسف وعفته، قرروا سجنه.
فهذا ليس من كلام يوسف وانما هو من تكملة كلام امرأة العزيز.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم يقول تعالى (وَمَآ أُبَرِّئُ نَفۡسِيٓۚ إِنَّ ٱلنَّفۡسَ لَأَمَّارَةُۢ بِٱلسُّوٓءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّيٓۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٞ رَّحِيمٞ ﴿٥٣﴾
ذهب البعض الى أن هذا من كلام امرأة العزيز.
وقال البعض أن هذا من كلام يوسف.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
فالذي قال إن هذا الكلام من تكملة كلام امرأة العزيز امام الملك.
لأنها قالت في الآية السابقة: (ذَٰلِكَ لِيَعۡلَمَ أَنِّي لَمۡ أَخُنۡهُ بِٱلۡغَيۡبِ)
ثم قالت في هذه الآية (وَمَآ أُبَرِّئُ نَفۡسِيٓ)
يعنى: وَمَآ أُبَرِّئُ نَفۡسِيٓ عن الخيانة، فاني قد خنته من قبل، حين قلت في حقه (مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سواءا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)
ثم قالت (إِنَّ ٱلنَّفۡسَ لَأَمَّارَةُۢ بِٱلسُّوٓءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّيٓۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٞ رَّحِيمٞ)
اعترافات كاملة، وكلام يدل على أن عقيدة التوحيد، وهو دين يوسف، قد استقرت في قلبها، وآمنت بنبوة يوسف، وآمنت بالله وحده.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ويجوز أن تكون هذه الآية من كلام يوسف -عليه السلام-
لأن الآية تقول (وَمَآ أُبَرِّئُ نَفۡسِيٓ) وهي قد اتهمت نفسها.
فقالوا إن يُوُسُف قال (وَمَآ أُبَرِّئُ نَفۡسِيٓ) تواضعًا منه -عليه السلام-
أو أن يوسف خشي أن يفتتن به الناس، أو أن يعتقد الناس أنه ملك، كما قالت النسوة (ما هذا بشرًا ان هذا الا ملك كريم)
فقال يوسف (وَمَآ أُبَرِّئُ نَفۡسِيٓ)
يعنى وأنا بموجب طبيعتي البشرية قد حدثتني نفسي بالسوء.
ولذلك قال تعالى (ولقد همت به وهم بها)
وقلنا أن همه به حديث نفس طاف بقلب يوسف ثم صرفه يوسف عن قلبه.
اذن قول يوسف (وَمَآ أُبَرِّئُ نَفۡسِيٓ)
يعنى أياكم أن تفتنوا بي أو تعتقدوا أني ملك أو أنني لست بشر.
لا أنا بشر مثلى مثلكم، وحدثتنى نفسي بالسوء بموجب هذه الطبيعة البشرية.
ثم يقول (إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّيٓۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٞ رَّحِيمٞ)
إِلَّا مَا رَحِمَهم الله تعالى، بأن عصمهم من الوقوع في الفاحشة
(إِنَّ رَبِّي غَفُورٞ رَّحِيمٞ)
تذييل مناسب للكلام
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
هنا نهاية القسم الأول من حياة يوسف -عليه السلام- وهي مرحلة الابتلاء بالمحن، سواء من اخوته، أو من امرأة العزيز، أو من السجن، الآن تبدأ مرحلة جديدة من حياة يوسف، واختبار آخر، وهو اختبار التمكين.
الآيات التالية تتحدث عن لقاء يوسف بالملك.
وهي مرتبطة بالآيات التي معنا.
ولكن حتى لا أطيل على حضراتكم.
نجعلها في حلقة تالية
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
لِمُطَالَعَة بَقِيَةِ حَلَقَات "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم"
لِمُشَاهَدَة حَلَقَاتِ "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم" فيديو
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
|