الحلقة رقم (599)
(تًدَبُر القُرْآن العَظِيم)
تفسير وتدبر الآيات من (54) الى (57) من سورة "يُوُسُف"- ص 242
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَقَالَ ٱلۡمَلِكُ ٱئۡتُونِي بِهِۦٓ أَسۡتَخۡلِصۡهُ لِنَفۡسِيۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُۥ قَالَ إِنَّكَ ٱلۡيَوۡمَ لَدَيۡنَا مَكِينٌ أَمِينٞ ﴿٥٤﴾ وَقَالَ ٱلۡمَلِكُ ٱئۡتُونِي بِهِۦٓ أَسۡتَخۡلِصۡهُ لِنَفۡسِيۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُۥ قَالَ إِنَّكَ ٱلۡيَوۡمَ لَدَيۡنَا مَكِينٌ أَمِينٞ ﴿٥٤﴾ قَالَ ٱجۡعَلۡنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلۡأَرۡضِۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٞ ﴿٥٥﴾ وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَتَبَوَّأُ مِنۡهَا حَيۡثُ يَشَآءُۚ نُصِيبُ بِرَحۡمَتِنَا مَن نَّشَآءُۖ وَلَا نُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ﴿٥٦﴾ وَلَأَجۡرُ ٱلۡأٓخِرَةِ خَيۡرٞ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ﴿٥٧﴾
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
بعد أن فسر يُوُسُف الرؤيا للملك، وطلب ٱلۡمَلِكُ ان يأتوا له بيوسف من السجن، رفض يُوُسُف أن يخرج من السجن قبل أن تثبت براءته، وقلنا إن هذا الموقف العجيب ليوسف، لأنه نبي مأمور بتبليغ رسالة الله تعالى؛ فلو خرج من السجن بعفو من ٱلۡمَلِكُ، فهذا يعنى أن الجريمة ثابتة في حقه، ولكن ٱلۡمَلِكُ عفا عنه، وفي هذه الحالة لن يصدق أحد نبوته، ولن يقبل أحد رسالته.
ولذلك اختار يُوُسُف ان يضحي بهذه الفرصة السانحة، والتي قد تكون هي فرصته الأخيرة للخروج من السجن، في سبيل أداء الرسالة التي أمره الله تعالى بها.
واستجاب ٱلۡمَلِكُ لطلب يُوُسُف، وأعاد التحقيق في قضيته، وثبتت براءة يوسف.
وبعد أن أثبت ٱلۡمَلِكُ البراءة التي طلبها يوسف، طلب مرة أخري أن يأتوا له بيوسف من السجن، يقول تعالى:
(وَقَالَ ٱلۡمَلِكُ ٱئۡتُونِي بِهِۦٓ أَسۡتَخۡلِصۡهُ لِنَفۡسِي)
في المرة الأولي قال ٱلۡمَلِكُ: (ٱئۡتُونِي بِهِۦ)
أما في المرة الثانية فقال: (ٱئۡتُونِي بِهِۦٓ أَسۡتَخۡلِصۡهُ لِنَفۡسِي)
وهذا يعنى أن يُوُسُف ارتفع في نظر ٱلۡمَلِكُ، بعد أن رفض أن يخرج من السجن قبل أن تثبت براءته، وبعد أن علم قصته في قصر العزيز.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَقَالَ ٱلۡمَلِكُ ٱئۡتُونِي بِهِۦٓ أَسۡتَخۡلِصۡهُ لِنَفۡسِي)
يعنى أريد أن يكون يُوُسُف خاصًا بي لا يشاركني فيه أحد.
يعنى أريد أن يكون المستشار الخاص بي.
فجاءوا بيوسف من السجد
ويروي أن يوسف لما دخل على ٱلۡمَلِكُ، هابه الملك جدًا، لوقاره وجماله ونور النبوة في وجهه.
فقيل ان الملك لم يملك الا أن قام من على عرشه، وأجلس يوسف الى جانبه.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (فَلَمَّا كَلَّمَهُۥ قَالَ إِنَّكَ ٱلۡيَوۡمَ لَدَيۡنَا مَكِينٌ أَمِينٞ)
يعنى فَلَمَّا تحدث يُوُسُف مع ٱلۡمَلِكُ، دهش ٱلۡمَلِكُ من سعة علم يُوُسُف، وحكمته، ولباقته وحسن منطقه.
كما يقولون "المرء مخبوء تحت لسانه"
(إِنَّكَ ٱلۡيَوۡمَ لَدَيۡنَا مَكِينٌ أَمِينٞ)
يعنى أنت أصبحت عندنا
(مَكِينٌ) يعنى ذو مكانة ومنزلة.
(أَمِينٞ) يعنى مؤتمن وثقة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وهذا يعنى أن يوسف استفاد من السنوات التي قضاها في قصر العزيز في تحصيل العلم، وهي الفترة التي كان فيها يوسف غلامًا، ثم شابًا في بداية شبابه، وهي الفترة الذهبية للتعلم.
وهذه الفترة كانت يمكن أن تكون فترة كئيبة في حياة يوسف، لأن هذه الفترة هي التي تعرض فيها لغدر أخوته، وانتقل -فجأة- من الحرية الى العبودية، ومن بيت أبيه وأمه الى بيت غريب في بلد غريب.
ولكن يوسف لم يستسلم لأي مشاعر سلبية أو محبطة، وانما تأقلم سريعًا مع ظروفه الجديدة، واستفاد من هذه الفترة أقصى استفادة، فحصل فيها كل ما يستطيع تحصيله من العلوم، ولذلك لما تكلم مع الملك، دهش الملك من تبحره في كافة أنواع العلوم، وقال له الملك في اعجاب (إِنَّكَ ٱلۡيَوۡمَ لَدَيۡنَا مَكِينٌ أَمِينٞ)
ورد عليه يوسف بمنتهي الثقة في علمه وقَالَ (ٱجۡعَلۡنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلۡأَرۡضِۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٞ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وروري أن يوسف عندما دخل على الملك كان عمر يوسف ثلاثين عامًا، فقال له الملك: إني أحب أن أسمع رؤياي منك شِفاهاً، فذكرها له يوسف، فقال له الملك: فما تري أيها الصِّدِّيق؟
قال يوسف تزرع في سنى الخصب زرعا كثيرا، وتبنى الخزائن وتجمع فيها الطعام بقصبه وسنبله فإنه أبقى له، ويكون القصب علفا للدواب، فإذا جاءت السنون العجاف بعت ذلك فيحصل لك مال عظيم، وتجمع عندك من الكنوز مالم يجتمع لأحد، فقال الملك ومن لي بهذا ومن يجمعه ويبيعه لى ويكفينى العمل فيه؟ قال: ٱجۡعَلۡنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلۡأَرۡضِۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٞ
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(قَالَ ٱجۡعَلۡنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلۡأَرۡضِۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٞ ﴿٥٥﴾
يعنى طلب يُوُسُف من الملك أن يجعله عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلۡأَرۡضِ.
والمعنى أن يكون مسؤولُا عن موارد الدولة ومصرفها، بما فيها وأهمها في هذه الفترة المحاصيل الزراعية.
وقد جاءت الآيات بعد ذلك وذكرت أن يُوُسُف قد تولى منصب عزيز مصر.
قال تعالى على لسان إخوة يوسف (قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)
وهذا يعنى أن يُوُسُف تولي منصبين: المنصب الأول: أنه عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلۡأَرۡضِ، وهو منصب وزير في الدولة، ثم بعد أن اثبت كفاءته في هذا المنصب، تولى المنصب الثاني الأعلى وهو عزيز مصر، وهو منصب الوزير الأول، أو رئيس الوزراء في الدولة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم يقول يوسف (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٞ)
(حَفِيظٌ) يعنى ذو أمانة، فأستطيع أن أحفظ موارد الدولة والتى أهمها في هذه الفترة المحاصيل الزراعية، سواء حفظها من الضياع أو التلف أو التبذير أو أن توضع في غير موضعها،
(عَلِيمٞ) يعنى ذو علم بمطلوبات هذا المنصب.
والأمانة والعلم هو المطلوب في أي منصب.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
لماذا طلب يُوُسُف هذا المنصب وهو أن يكون عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلۡأَرۡضِ؟
أولًا أراد يوسف يشرف على خطته التي وضعها لمدة خمسة عشر عامًا مقبلة، والتي ستنقذ المنطقة من كارثة ومجاعة إذا لم يتم تنفيذها بحزم ودقة.
فطلب يُوُسُف هذا المنصب من باب انقاذ أنفس من الموت والهلاك، وتفريج كربات الناس، وهذا أمر ثوابه عظيم عند الله تعالى.
الأمر الثاني لأن هذا المنصب الرفيع سيساعده في دعوته الى التوحيد.
لأن صاحب الدعوة إذا كان ذو شأن، فان هذا يكون أدعي لقبول الناس لدعوته، ولذلك قالوا: "الناس على دين ملوكهم"
وقد استغل يُوُسُف منصبه في الدعوة الى التوحيد، قال تعالى في سورة غافر: (وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِٱلْبَيِّنَٰتِ فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكٍّۢ مِّمَّا جَآءَكُم بِهِ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وهذه الآية الكريمة، قول الله تعالى على لسان يوسف (قَالَ ٱجۡعَلۡنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلۡأَرۡضِۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٞ) أخذ منها العلماء أنه يجب على المسلم أن يعرض نفسه لولاية عمل، إذا علم أنه لا يصلح له غيره.
وهذا لا يتعارض مع ما جاء في صحيح مسلم عن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتَها عن مسألة وُكلتَ إليها، وإن أعطيتَها عن غير مسألة أُعنت عليها"،
هذا الحديث لا علاقة له بحالة يوسف، لأن عبد الرحمن بن سمرة -راوي الحديث- لم يكن هو الوحيد الذي يصلح للإمارة.
أما في حالة يُوُسُف فلم يكن هناك أحد يمكنه تنفيذ خطته بالدقة والحزم المطلوبين كما سيفعل هو، وعدم تنفيذ الخطة بالدقة والحزم المطلوبين، يعنى وقوع كارثة لكل شعوب المنطقة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
أخذوا من هذه الآية أيضًا جواز تولى المناصب في الدولة التي لا تحكم بشرع الله، لأن يوسف تولى منصبًا رفيعًا وهو منصب يعادل الوزير الآن، ثم منصب عزيز مصر وهو يعادل منصب رئيس الوزراء الآن، بالرغم من أن الدولة كانت دولة وثنية كافرة تعبد غير الله تعالى، بل كانت دولة محتلة لمصر وهي دولة الهكسوس.
فأخذوا من ذلك أنه يجوز تولى أي منصب في الدولة، طالما أن هذا المنصب ليس فيه اعانة على الظلم.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
فلما قال يوسف ذلك، (ٱجۡعَلۡنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلۡأَرۡضِۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٞ) قال الملك: قَدْ فَعَلْتُ.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَتَبَوَّأُ مِنۡهَا حَيۡثُ يَشَآءُۚ نُصِيبُ بِرَحۡمَتِنَا مَن نَّشَآءُۖ وَلَا نُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ﴿٥٦﴾
(وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلۡأَرۡضِ)
يعنى أصبح يَوسُفَ ممكننًا وأصبح له الأمر والنهي في كل أرض مصر.
(يَتَبَوَّأُ مِنۡهَا حَيۡثُ يَشَآءُۚ)
يعنى ينزل في أي مكان في أرض مصر،
وهذه صورة من صور التمكين في الأرض.
(نُصِيبُ بِرَحۡمَتِنَا مَن نَّشَآءُ وَلَا نُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ)
المقصود في الدنيا، لأن الآية التالية قال تعالى:
(وَلَأَجۡرُ ٱلۡأٓخِرَةِ خَيۡرٞ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ)
فنال يوسف ثواب صبره واحسانه في الدنيا، وبقي ثوابه في الآخرة كما هو.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَلَأَجۡرُ ٱلۡأٓخِرَةِ خَيۡرٞ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ﴿٥٧﴾
بعد أن ذكر تعالى الملك العظيم الذي وصل اليه يوسف، يذكرنا تعالى بأن أجر ٱلۡأٓخِرَةِ وما أعده -تعالى- لعباده المؤمنين المتقين، يتضاءل أمامه كل ما في الدنيا من مال وجاه وزينة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وكان سفيان بن عيينة يتلو هذه الآيات ثم يقول
(المؤمن يثاب على حسناته في الدنيا والآخرة، والفاجر يعجل له الخير في الدنيا، وما له في الآخرة من خلاق).
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول البحتري
وَما هَذهِ الأَيّامُ إِلّا مَنازِلٌ
فَمِن مَنزِلٍ رَحبٍ وَمِن مَنزِلٍ ضَنكِ
وَقَد هَذَّبَتكَ النائِباتُ وَإنَّما
صَفا الذَهَبُ الإِبريزُ قَبلَكَ بِالسَبكِ
أَمَا في نَبِيِّ اللَهِ يوسُفَ أَسوَةً
لِمِثلِكَ مَحبوساً عَلى الظُلمِ وَالإِفكِ
أَقامَ جَميلَ الصَبرِ في السِجنِ بُرهَةً
فَآلَ بِهِ الصَبرُ الجَميلُ إِلى المُلكِ
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم لا تذكر السورة بعد ذلك كيف أدار يوسف الأمور في سنوات الرخاء السبعة، ثم في سنوات الجدب السبعة، ثم السنة الخامسة عشر، لأن الآيات ذكرت الخطة التي وضعها يوسف، فمن المفهوم أن يوسف أدار الأمور في هذه السنوات الخمسة عشر حسب الخطة التي وضعها.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ويروى أن يوسف عليه السلام كان لا يشبع من طعام في تلك السنوات، سواء سنوات الخصب، أو سنوات القحط، لأن الخطة كانت تقتضي التقشف في كل هذه السنوات، سواء سنوات الخصب، أو سنوات القحط.
بل على العكس، مر بنا أن يوسف وجه الى التقشف في سنوات الخصب، أكثر من التقشف في سنوات الجدب.
يقوا تعالى (قَالَ تَزۡرَعُونَ سَبۡعَ سِنِينَ دَأَبٗا فَمَا حَصَدتُّمۡ فَذَرُوهُ فِي سُنۢبُلِهِۦٓ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّا تَأۡكُلُونَ) يعنى في سنوات الخصب نخزن الأكثر، ونأكل القليل.
مع ان سنوات الخصب هي نفس عدد سنوات الجدب.
ولكن كان هذا لأمرين: أولًا لأن الناس -نفسيًا- يكون عندها استعداد للتقشف في فترات الرخاء أكثر من فترات الشدة.
ثانيًا: لأن الجفاف لن يصيب مصر فقط، ولكن سيصيب المنطقة كلها، وبالتالي كانت الخطة هي تخزين طعام يكفي أهل المنطقة كلها، وليس أهل مصر فقط، ثم تقوم مصر ببيع هذا الطعام للأمم المجاورة، وتحقق من وراء ذلك ثراء للدولة.
فمما روي أن يوسف عليه السلام كان لا يشبع من طعام في تلك السنوات، سواء سنوات الخصب، أو سنوات القحط.
فقيل ليوسف: أتجوع وبيدك خزائن الأرض؟
فقال: إني أخاف إن شبعت أن أنسى الجائع.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وقبل أن ننتقل الى مشهد جديد من مشاهد هذه السورة الجميلة الماتعة، هناك بعض الأسئلة:
من هو هذا الملك المذكور في سورة يوسف، والذي عمل معه يوسف؟
حتى نجيب عن هذا السؤال نقول ان علماء التاريخ قسموا تاريخ مصر القديمة الى 30 أسرة.
وتعرف الأسرة الخامسة عشر بالأسرة الهكسوسية
وهي الفترة التي حكم فيها أو احتل فيها الهكسوس مصر.
وكانت عاصمة ملكهم هي "أواريس" وهي مكان "تل الضبعة" الآن، وهو قريب من "فاقوس" بمحافظة "الشرقية"
وذكرنا من قبل أن يوسف عاش في مصر في هذه الفترة، وهي فترة حكم الهكسوس لمصر.
وهذا هو السبب في أن سورة يوسف عندما تحدثت عن حاكم مصر جاء وصفه بلقب "الملك" وليس بلقب "فرعون" كما في قصة موسي -عليه السلام-
وتكرر هذا اللقب في سورة "يوسف" في خمسة مواضع.
لأن حكام الهكسوس كانوا يلقبون بالملوك وليس بالفراعنة.
وهذا من الإشارات العلمية والتاريخية الدقيقة في القرآن.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
فمن هو الملك الذي جاء ذكره في سورة "يوسف" والذي عمل معه "يوسف" عليه السلام؟
بالرغم من ان الهكسوس بقوا في مصر فترة طويلة من الزمن، وربما امتدت لعدة قرون، فنحن لا تعرف عن هذه الحقبة الا القليل، والسبب أنه بعد نجاح الفراعنة بقيادة "أحمس" في هزيمتهم وطردهم من البلاد، عمد الفراعنة الى محو آثارهم بالكامل، كأنهم كانوا يريدون محو هذه الفترة من تاريخ مصر، وهذا جعل معرفة أي تفاصيل عن هذه الفترة من الأمور الشاقة والمحيرة لعلماء التاريخ، حتى أصبح علماء التاريخ يقولون عن هذه الأسرة الهكسوسية أنها ثغرة في التاريخ الفرعوني.
ومع ذلك استطاع علماء الآثار تحديد أسماء بعض ملوك الهكسوس، وفترات توليهم الحكم، عن طريق بعض الآثار التي تم اكتشاف معظمها في منطقة "تل الضبعة" والتي كان فيها عاصمة ملكهم "أواريس"
ومن هؤلاء الملوك: سكرحار- خيان- أبوفيس- خامودي
ورجح علماء الآثار أن الملك الذي عمل معه يوسف -عله السلام- هو الملك "خيان" وقد تولى الحكم في الفترة من 1610 ق. م الى 1580 ق. م أي فترة ثلاثين سنة، وقيل إنه تولى الحكم لفترة خمسين سنة.
وسواء ثلاثين أو خمسين فهذه هي أطول فترة حكم لملك من ملوك الهكسوس.
لأن ملوك الهكسوس كانوا ينقضون على بعض
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
والعجيب في هذا الملك بالتحديد أن له آثار خارج مصر.
فوجدوا له آثارًا في فلسطين وفي سوريا وفي العراق وفي جزيرة كريت
وهذه من الأمور التي حيرت علماء التاريخ.
فهل هذا الملك حكم هذه المناطق؟ هل أرسل هذه الآثار هدايا لحكام هذه المناطق؟ هل من جاء بعده أرسلها هدايا لهذه منطقة؟
هذه من الأسرار غير المعروفة.
افتراضية أن الملك "خيان" حكم هذه المناطق، وكون امبراطورية ضخمة شملت العراق والشام ومصر وجزيرة كريت، افتراضية غير منطقية، لأن لأي ملك من ملوك الهكسوس إذا كان يملك من القوة أنه يخرج خارج حدود مصر، فكان لابد أن يبدأ بالفراعنة في الجنوب، لأن هؤلاء هم التهديد الحقيقي والوحيد لمملكته، ولم تحدث مواجهات بين الهكسوس وبين الفراعنة في ذلك الوقت.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ولكن القرآن الكريم يكشف عن هذا السر الذي حير علماء التاريخ، وهو وجود آثار للملك "خيان" خارج حدود مصر، في فلسطين وفي سوريا وفي العراق وفي جزيرة كريت، ويكون هو الملك الوحيد الذي توجد آثاره في هذه المناطق البعيدة عن أرض مصر.
يكشف القرآن هذا السر في الآية (58) من سورة يوسف، يقول تعالى (وجاء اخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون)
وكان مكان اخوة يوسف في فلسطين، وهذا يعنى أن الشعوب خارج مصر كانوا يأتون الى مصر للحصول على الطعام مقابل بضائع، وربما حكومات بعض الدول كانت تأتي ببضائع لمبادلتها بالطعام من مصر، وهذه كانت خطة يوسف التي عرضها على الملك في الرواية التي ذكرتها: "فإذا جاءت السنون العجاف بعت ذلك فيحصل لك مال عظيم، وتجمع عندك من الكنوز مالم يجتمع لأحد"
وهكذا كانت العلاقات بين دولة الهكسوس في مصر، والدول المحيطة بها، علاقات ممتازة، استفاد منها الجميع، سواء مصر أو هذه الدول.
وفي ظل هذه العلاقات الجيدة، انتقلت آثار هذا الملك لهذه الدول.
بل ربنا، وهذا افتراض، أن تكون هذه الفترة شهدت لأول مرة علاقة ودية بين مملكة الهكسوس في شمال مصر، ودولة الفراعنة في جنوب مصر، لأن ربنا أن الهكسوس عاملوا الفراعنة مثلما عاملوا بقية الدول المحيطة.
وهذا يفسر وجود أثر لأحد الأبنية الأثرية والتي يقال إنها أحد مخازن الغلال في عهد يوسف، هذا الأثر في مدينة "ادفو" في أقصى جنوب مصر، وهي المنطقة التي كان يحكمها الفراعنة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
أمر آخر هذا الملك، وهو الملك "خيان"
يعتبر -حسب علماء التاريخ- هو أقوي ملوك الهكسوس.
ولذلك كان هو أطول فترة حكم لملك من ملوك الهكسوس.
والآيات تظهر جوانب من شخصية هذا الملك.
فتظهر الآيات أنها كان حليمًا عادلًا ذا فراسة
فمن حلمه استجاب ليوسف بعد أن رفض يوسف أن يخرج لمقابلته.
ومن عدله أعاد التحقيق في قضية يوسف، واهتم بها، بل وأدار التحقيق بنفسه.
ومن فراسته أنه استعمل يوسف، وقال له أنك اليوم لدينا مكين أمين.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ولا شك أن مشاركة يوسف في الحكم، وتقلده بعد ذلك منصب عزيز مصر، وهو أعلى منصب اداري في الدولة، وهو يعادل منصب رئيس الوزراء الآن، لا شك أن ذلك كان من أسباب قوة ذلك الملك.
وكانت فترة حكم هذا الملك -بفضل مشاركة يوسف في الحكم- هي فترة استقرار سياسي وازدهار اقتصادي، وعلاقات طيبة مع كل دور الجوار، وفترة سلام مع الدولة الفرعونية في الجنوب.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
أخيرًا هل أسلم ذلك الملك؟
كثير من كتب التفاسير تذكر ان ذلك الملك أسلم على يد يوسف.
ولا أوافق على هذا التفسير، بدليل قول الله تعالى
(ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك)
هذا يعنى ان دين الملك كان مختلفًا عن دين يوسف
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
سؤال آخر يتكرر كثيرًا:
هل تزوج يوسف -عليه السلام- بعد ذلك من امرأة العزيز؟
وكان اسم امرأة العزيز "رَاعِيلَ" وقيل اسمها "زليخا" أو "زليخاء" ويقول ابن كثير أن اسمها "رَاعِيلَ" ولقبها "زليخا"
ورد عن "محمد بن اسحق" وفي بعض كتب التفاسير، منه القرطبي وابن كثير، أن الملك زوج يوسف من امرأة العزيز، بعد أن توفي العزيز.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وقد ورد أيضًا ان هذه المرأة هي قريبة الملك، وقيل إنها بنت أخ الملك، يعنى الملك يكون عمها، فاذا صح ذلك فسيكون الملك قد زوجها من يوسف تقديرًا ليوسف، وأيضًا شفقة وتكرمة وجائزة لبنت أخيه.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول ابن القيم في روضة المحبين: مَن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، كما ترك يوسف -عليه السلام- امرأة العزيز لله، واختار السجن على الفاحشة، فعوضه الله أن مكَّنه في الأرض، وأتته المرأة صاغرة سائلة راغبة في الوصل الحلال، فتزوجها.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وقالوا إن يوسف عندما تزوجها قَالَ لها:
أَلَيْسَ هَذَا خَيْرًا مِمَّا كُنْتِ تُرِيدِينَ؟
فقَالَتْ: أَيُّهَا الصِّدِّيقُ لَا تَلُمْنِي، فَإِنِّي كُنْتُ امْرَأَةً كَمَا تَرَى حَسْنَاءَ نَاعِمَةً فِي مُلْكٍ وَدُنْيَا، وَكَانَ صَاحِبِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ، وَكُنْتُ كَمَا جَعَلَكَ اللَّهُ فِي حُسْنِكَ وَهَيْئَتَكَ، فَغَلَبَتْنِي نَفْسِي عَلَى مَا رَأَيْتُ.
وقالوا أَنَّهُ وَجَدَهَا عَذْرَاءَ وأنها وَلَدَتْ لَهُ ولدين وهما: "أفرايثيم بن يوسف" و"ميشا بن يوسف" وولد لأفرايثيم نون وهو والد "يوشع بن نون" وهو فتى موسي في سورة الكهف، والنبي الذي جاء بعد موسي.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وقال البعض أن يوسف لم يتزوج من هذه امرأة، وروي أنها وقفت على جانب الطريق، وقد كبرت وذهب جمالها، فمر بها موكب يوسف، فصاحت: "سبحان من جعل العبيد ملوكا بطاعته، والملوك عبيدا بمعصيته"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ولم يرد في القرآن الكريم، ولا في السنة النبوية ما يثبت أو ينفي زواج يوسف عليه السلام من امرأة العزيز
وكل هذه الروايات مأخوذة عن أهل الكتاب، وقد أمرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- بعدم تصديقهم وعدم تكذيبهم، وعليه فقد يكون يوسف قد تزوج من امرأة العزيز التي راودته، وقد لا يكون قد تزوج منها.
وفي هذه عبرة، وفي هذه أيضًا عبرة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
هناك في مصر مكان يقال إنه كان سجن يوسف عليه السلام
هذا المكان موجود في قرية "أبو صير" مركز البدرشين محافظة الجيزة بمصر
وهو عبارة عن غرفة فيها فتحة السرداب الذي يؤدي الى سجن سيدنا يوسف
والمصريون يزورون هذا المكان للتبرك
بجوار قرية "أبو صير" هناك قرية اسمها قرية "العزيزية"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وأطلق عليها هذا الاسم نسبة الى عزيز مصر، لأنه كان فيها قصر "عزيز مصر"
وهناك في العزيزية مكان يطلق عليه "حوض زليخا"
قيل إن هذا المكان هو المكان الذي كانت تجتمع فيه "زليخا" مع صواحبها.
وهناك في محافظة الشرقية أيضُا مدينة معروفة اسمها "منيا القمح" قيل أنها كانت بها مخازن القمح في عهد يوسف
كل هذه الأخبار ليس هناك ما يثبتها، ولكنها متداولة على ألسن الناس في هذا المكان.
مما يقوله الناس أيضًا أن مركز البدرشين سمي بهذا الاسم
لأن يوسف بعد ان أصبح عزيز مصر مر بزليخا وقد تقدم بها السن وذهب جمالها، فقال لها مال البدر صار شين؟ فأطلق على المكان اسم "بدرشين"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
بعض العلماء مسلمين وغير مسلمين ينكرون وجود سيدنا يوسف وسيدنا موسي في الحضارة المصرية.
يقول زاهي حواس لا وجود ليوسف ولا موسي في الآثار المصرية.
لأنه لا يوجد آثار لا لسيدنا يوسف ولا لسيدنا موسي
ونقول لهؤلاء لو كنتم علماء تاريخ فعلا لأدركتم أنه من الطبيعي ألا يأتي ذكر يوسف أو موسي عليها السلام في الحضارة المصرية.
لأن يوسف كان حاكمًا في زمن الهكسوس، وقد تعمد الفراعنة -كما ذكرنا- الى محو كل آثار الهكسوس، فمن الطبيعي ألا تكون هناك آثار ليوسف
اما موسي فقد كانت مواجهته مع الفراعنة، بعد أن شق الله له البحر، كانت هزيمة منكرة للفراعنة، وتدميرًا كاملًا لجيش الفراعنة.
ولذلك فكان من الطبيعي -كذلك- ألا يكون هناك تدوين لهذه الأحداث عن طريق النقوش الجدارية أو غير ذلك، لأن الفراعنة كانوا يسجلون انتصاراتهم وليس هزائمهم.
فمثلًا معركة "قادش" التى هزم فيها "رمسيس الثاني" من الحيثيين، كانت من أكبر المعارك، ومع ذلك لم يأت أي ذكر لهذه المعركة في الحضارة المصرية، لأنها هزيمة للفراعنة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
تنتقل الآيات بعد ذلك الى وصول الجفاف الى أرض الشام حيث أخوة يوسف، ودخول اخوة يوسف الى مصر للحصول على الطعام، ولقائهم الأول بيوسف بعد كل هذه السنوات.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
لِمُطَالَعَة بَقِيَةِ حَلَقَات "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم"
لِمُشَاهَدَة حَلَقَاتِ "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم" فيديو
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
|