الحلقة رقم (603)
(تًدَبُر القُرْآن العَظِيم)
تفسير وتدبر الآيات من (80) الى ( 87 ) من سورة "يُوُسُف"- ص 245
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(فَلَمَّا ٱسۡتَيَۡٔسُواْ مِنۡهُ خَلَصُواْ نَجِيّٗاۖ قَالَ كَبِيرُهُمۡ أَلَمۡ تَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ أَبَاكُمۡ قَدۡ أَخَذَ عَلَيۡكُم مَّوۡثِقٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَمِن قَبۡلُ مَا فَرَّطتُمۡ فِي يُوسُفَۖ فَلَنۡ أَبۡرَحَ ٱلۡأَرۡضَ حَتَّىٰ يَأۡذَنَ لِيٓ أَبِيٓ أَوۡ يَحۡكُمَ ٱللَّهُ لِيۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلۡحَٰكِمِينَ ﴿٨٠﴾ ٱرۡجِعُوٓاْ إِلَىٰٓ أَبِيكُمۡ فَقُولُواْ يَٰٓأَبَانَآ إِنَّ ٱبۡنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدۡنَآ إِلَّا بِمَا عَلِمۡنَا وَمَا كُنَّا لِلۡغَيۡبِ حَٰفِظِينَ ﴿٨١﴾ وَسَۡٔلِ ٱلۡقَرۡيَةَ ٱلَّتِي كُنَّا فِيهَا وَٱلۡعِيرَ ٱلَّتِيٓ أَقۡبَلۡنَا فِيهَاۖ وَإِنَّا لَصَٰدِقُونَ ﴿٨٢﴾ قَالَ بَلۡ سَوَّلَتۡ لَكُمۡ أَنفُسُكُمۡ أَمۡرٗاۖ فَصَبۡرٞ جَمِيلٌۖ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَأۡتِيَنِي بِهِمۡ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ ﴿٨٣﴾ وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَٰأَسَفَىٰ عَلَى يُوسُفَ وَٱبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ ٱلْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ﴿84﴾ قَالُواْ تَاللهِ تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ ٱلْهَالِكِينَ ﴿85﴾ قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى ٱللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴿86﴾ يٰبَنِيَّ ٱذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْكَافِرُونَ ﴿87﴾
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ما زالت الآيات الكريمة تتناول قصة يُوُسُف -عَلَيْهِ السَّلامُ- وانتهينا الى ان يُوُسُف -عَلَيْهِ السَّلامُ- احتال يُوُسُف حتى يستبقي اخاه "بنيامين" معه في مصر
فوضع "السقاية" وهو الإناء الذي يشرب فيه الملك، في رحل أخيه دون أن يشعر به أحد، وكان يوسف يستخدم هذا الإناء في أن يكيل به الطعام للناس، كأن الطعام مقدمًا من الملك وليس عند يوسف، حتى لا يثير حفيظة الملك.
فلما تحرك اخوة يوسف عائدين الى ديارهم، لحق بهم الجنود وقالوا لهم أن أنكم قد سرقتم صواع الملك، فلما أنكر أخوة يوسف هذه التهمة، قالوا لهم: فما الحكم ان كان فيكم السارق؟ قالوا لهم: الحكم عندنا هو أن يؤخذ السارق عبدًا عند من سرقه، فلما فتشوا القافلة وجدوا الصواع في رحل "بنيامين". وهكذا استطاع يوسف أن يحتجز عنده أخيه "بنيامين" عنده في مصر ولا يعود مع اخوته الى الشام.
وحاول اخوة يوسف أن يطلبوا من يوسف أن يأخذ واحدًا منهم بدلًا من أخيهم، ولكن يوسف رفض وقال: (معاذ الله أن نأخذ الا من وجدنا متاعنا عنده انا اذن لظالمون)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم يقول تعالي
(فَلَمَّا ٱسۡتَيَۡٔسُواْ مِنۡهُ خَلَصُواْ نَجِيّٗاۖ قَالَ كَبِيرُهُمۡ أَلَمۡ تَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ أَبَاكُمۡ قَدۡ أَخَذَ عَلَيۡكُم مَّوۡثِقٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَمِن قَبۡلُ مَا فَرَّطتُمۡ فِي يُوسُفَۖ فَلَنۡ أَبۡرَحَ ٱلۡأَرۡضَ حَتَّىٰ يَأۡذَنَ لِيٓ أَبِيٓ أَوۡ يَحۡكُمَ ٱللَّهُ لِيۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلۡحَٰكِمِينَ ﴿٨٠﴾
(فَلَمَّا ٱسۡتَيَۡٔسُواْ مِنۡهُ خَلَصُواْ نَجِيّٗا)
ٱسۡتَيَۡٔسُواْ: اليأس معروف.
ولكن السين والتاء إذا دخلت فتكون للمبالغة يعنى: يئسوا يأساً شديدًا
وهذا يعنى أن اخوة يوسف حاولوا كثيرًا، وظلوا فترة طويلة يحاولون مع يوسف، أن يعفوا عن أخيهم، أو أن يأخذ واحدًا منهم ليتحمل العقوبة بدلًا منه، ولكن يوسف رفض ذلك وأصر على الرفض.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(خَلَصُواْ)
خلص الشيء لغة يعنى ذهب عنه الشوائب.
فمعنى (خَلَصُواْ) يعنى انعزلوا وانفردوا في مكان ليس معهم غيرهم.
(نَجِيّٗا) يعنى يتكلمون سرًا فيما بينهم.
والمعنى أن اخوة يوسف بعد أن حاولوا مع يوسف كثيرًا، وأصر يوسف على الرفض، خرجوا من عنده، وذهبوا الى مكان منعزل، وأخذوا يتناقشون ويتشاورون فيما سيفعلونه، وكيف يخبرون أباهم بهذا الأمر.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(قَالَ كَبِيرُهُمۡ)
يعنى أكبرهم سنًا وكان اسمه "روبيل"
(أَلَمۡ تَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ أَبَاكُمۡ قَدۡ أَخَذَ عَلَيۡكُم مَّوۡثِقٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَمِن قَبۡلُ مَا فَرَّطتُمۡ فِي يُوسُفَ)
يعنى الوضع المتأزم الذي نحن فيه أَنَّ أَبَاكُمۡ أَخَذَ عَلَيۡكُم مَّوۡثِقٗا مِّنَ ٱللَّهِ، يعنى عهدًا موثقًا بشهادة الله عليه، وحلفتم لأبيكم أنكم ستعودون ببنيامين الا أن يحاط بكم، يعنى الا أن تهلكوا جميعًا.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَمِن قَبۡلُ مَا فَرَّطتُمۡ فِي يُوسُفَ)
يعنى ومما يصعب المواجهة مع الأب، أن هذه ليست المرة الأولى، لأنكم أضعتم يوسف من قبل، من الطبيعي لن يصدقنا
وهذا الكلام من الأخ الأكبر يدل على أنه الأخ هو الذي رفض قتل يوسف عندما أراد اخوته قتله.
عندما قال (لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب ان كنتم فاعلين)
ولذلك لم يقل (مَا فَرَّطنا فِي يُوسُفَ) وانما قال (مَا فَرَّطتُمۡ فِي يُوسُفَ)
يعنى مَا فَرَّطتُمۡ أنتم وليس أنا
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم أتخذ هذا الأخ قرارًا عجيبًا فقال
(فَلَنۡ أَبۡرَحَ ٱلۡأَرۡضَ حَتَّىٰ يَأۡذَنَ لِيٓ أَبِيٓ أَوۡ يَحۡكُمَ ٱللَّهُ لِيۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلۡحَٰكِمِينَ)
(فَلَنۡ أَبۡرَحَ ٱلۡأَرۡضَ) يعنى فلن أترك أرض مصر
سأظل في مكاني.
(حَتَّىٰ يَأۡذَنَ لِيٓ أَبِيٓ) يعنى حَتَّىٰ يَأۡذَنَ لِيٓ أَبِيٓ في الرجوع.
لأن العهد الذي أعطاه لأبيه أن يعودوا بأخيهم بنيامين الا ان يحاط بهم، يعنى الا أن يهلكوا جميعًا.
(أَوۡ يَحۡكُمَ ٱللَّهُ لِي)
أو أن يحكم الله ببرائتي.
عن طريق الوحي لأبيه يعقوب.
(وَهُوَ خَيۡرُ ٱلۡحَٰكِمِينَ)
وهو تعالى خير من يحكم بالحق والعدل.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
قرار صعب اتخذه هذا الأخ الأكبر.
لأنه ترك بيته وأهله وأبناءه
وبقي في هذا البلد الغريب ليس عنده بيت ولا عمل ولا أي شيء.
قرار صعب، ولكن تخيل نفسك مكانه.
الأصعب من هذا القرار، هو مواجهة الأب يعقوب.
لأنهم خرجوا بيوسف وأضاعوه.
ثم خرجوا ببنامين، وأخذ أبيهم عليهم العهود والمواثيق ان يعودوا به، ثم لا يعودون به مرة أخري.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(ٱرۡجِعُوٓاْ إِلَىٰٓ أَبِيكُمۡ فَقُولُواْ يَٰٓأَبَانَآ إِنَّ ٱبۡنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدۡنَآ إِلَّا بِمَا عَلِمۡنَا وَمَا كُنَّا لِلۡغَيۡبِ حَٰفِظِينَ ﴿٨١﴾
يلقن كبيرهم اخوته ما يقولوته لأبيهم يعقوب، فيقول
(ٱرۡجِعُوٓاْ إِلَىٰٓ أَبِيكُمۡ فَقُولُواْ يَٰٓأَبَانَآ) يعنى قولوا له برفق ولين
(يَٰٓأَبَانَآ إِنَّ ٱبۡنَكَ سَرَقَ) يعنى احكوا له القصة أنه سرق صواع الملك، واستخرجها العزيز من متاعه.
وقرأت في غير المتواتر (إنَّ ابْنَكَ سُرِّقَ) يعنى اتهم بالسرقة.
(وَمَا شَهِدۡنَآ إِلَّا بِمَا عَلِمۡنَا) يعنى وَمَا نشهد عليه الآن أمامك، ونقوله لك أنه قد سرق، (بِمَا عَلِمۡنَا) إِلَّا بِمَا رأيناه بأعيننا، وهو ان العزيز استخرج صواع الملك من متاعه.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وقيل إن قولهم (وَمَا شَهِدۡنَآ إِلَّا بِمَا عَلِمۡنَا)
يعنى عندما سألنا ما حكم السارق، وقلنا إن يؤخذ عبدًا عند من سرقه، وكانت هذه الإجابة سببًا في أن يؤخذ بنامين عبدًا.
ما شهدنا هذه الشهادة الا بما عندنا من العلم، فنحن لا نعرف حكمًا غير ذلك.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَمَا كُنَّا لِلۡغَيۡبِ حَٰفِظِينَ) يعنى وَمَا كُنَّا لِلۡغَيۡبِ حَٰافِظِينَ عندما طلبنا منك أن ترسل معنا آخانا، ولو كنا نعلم الغيب ما طلبنا أن يأتي معنا.
(وَمَا كُنَّا لِلۡغَيۡبِ حَٰافِظِينَ) عندما أعطيناك عهودنا بأن نأتيك به الا ان يحاط بنا.
(وَمَا كُنَّا لِلۡغَيۡبِ حَٰفِظِينَ) فنعلم أنه قد سرق صواع الملك، عندما سألنا ما جزاء السارق، فقلنا إن يؤخذ عبدًا عند من سرقه.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَسَۡٔلِ ٱلۡقَرۡيَةَ ٱلَّتِي كُنَّا فِيهَا وَٱلۡعِيرَ ٱلَّتِيٓ أَقۡبَلۡنَا فِيهَاۖ وَإِنَّا لَصَٰدِقُونَ ﴿٨٢﴾
يعنى ان كنت في شك في كلامنا، فيمكن أن تتأكد من هذا الكلام، بأن تسۡأَٔلِ أهل ٱلۡقَرۡيَةَ ٱلَّتِي كُنَّا فِيهَا.
والمقصود بالقرية هنا على وجه التحديد، هي مدينة "ممفيس" والتي كانت هي عاصمة دولة الهكسوس في مصر، لأن الطبيعي أن يكون مكان "يوسف" وهو "عزيز مصر" في عاصمة الدولة.
وقولهم (وَسَۡٔلِ ٱلۡقَرۡيَةَ) يدل أن سرقة صواع الملك، وتفتيش الرحال، واستخراج صواع الملك من رحال أخيهم، حتى أصبح الأمر معروفًا ومشهورًا عند كل أهل المدينة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَٱلۡعِيرَ ٱلَّتِيٓ أَقۡبَلۡنَا فِيهَا)
يعنى واسأل أيضًا أصحاب القافلة التي كنا فيها ونحن في طريق عودتنا، لأن أصحاب القافلة شاهدوا الذي حدث بكاملة، لأن المنادي عندما لحق بالقافلة قال (أيتها العير انكم لسارقون) فكان الاتهام لكل أصحاب القافلة، وكل هؤلاء فتشت أمتعتهم، فان أصحاب القافلة شاهدوا كل ما حدث بكل تفاصيله.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَإِنَّا لَصَٰدِقُونَ)
ختم بهذه الكلمة لتأكيد صدقهم، لأن ماضيهم مع أبيهم يبعث على الشك والريبة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
هنا نهاية هذا المشهد، وتنتقل الآيات بعد ذلك لمشهد آخر، وهو بعد أن ترك الإخوة مصر، وعادوا الى أبيهم، وأخبروه بما حدث.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(قَالَ بَلۡ سَوَّلَتۡ لَكُمۡ أَنفُسُكُمۡ أَمۡرٗاۖ فَصَبۡرٞ جَمِيلٌۖ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَأۡتِيَنِي بِهِمۡ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ ﴿٨٣﴾
(قَالَ بَلۡ سَوَّلَتۡ لَكُمۡ أَنفُسُكُمۡ أَمۡرٗا)
(بَلۡ) حرف اضراب، يعنى نفي ما قبلها واثبات ما بعدها.
اذن "يعقوب" لم يصدق حكايتهم، مع أن هذا هو الذي حدث فعلًا، وظن أنهم فعلوا مع "بنيامين" مثلما فعلوا مع "يوسف"
حتى قال "وهب بن منبه" أنه ظن أن الذي تخلف منهم وهم "روبيل" تخلف حيلة ومكرًا حتى يصدقهم.
(ۡبَلۡ سَوَّلَتۡ لَكُمۡ أَنفُسُكُمۡ أَمۡرٗا) يعنى: بَلۡ سهلت وزينت لَكُمۡ أَنفُسُكُمۡ أَمۡرٗا قبيحًا.
ومستنده في هذا الظن علمه أن ابنه لا يسرق، فعلم أن في دعوى السرقة مكيدة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(فَصَبۡرٞ جَمِيلٌ)
يعنى يأمر نفسه أن يصبر صبرًا جميلًا.
والصَبۡرٞ الجَمِيلٌ هو الصَبۡرٞ اذي ليس فيه شكوى الى بشر، ولا ضجر بقضاء الله.
عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- " من بث لم يصبر "
عن ابن عباس قال:
إن يعقوب -عليه السلام- أعطِيَ على يوسف أجر مائة شهيد.
وكذلك كل من احتسب من هذه الأمة في مصيبته فله مثل أجر يعقوب.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(عَسَى ٱللَّهُ أَن يَأۡتِيَنِي بِهِمۡ جَمِيعًا) ثم ترجي يعقوب من الله أن يأت له بهم جميعًا، وهنا تكلم بصيغة الجمع، وأقل الجمع ثلاثة.
اذن فهو يقصد بنيامين وروبيل، ويقصد أيضُا يوسف.
هنا يظهر -لأول مرة- أن يعقوب، لا يزال يرجو أن يكون يوسف حيًا.
وهذا الرجاء من عدة جهات:
اولًا حسن ظنه بالله، ورجاءه رحمة الله.
وثانيا الرؤيا التى رآها يوسف، فكان يعقوب ينتظر تحقق هذه الرؤيا.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ)
(ٱلۡعَلِيمُ) ٱلۡعَلِيمُ بحالي وشدة حزني عليهم.
وقيل: ٱلۡعَلِيمُ بمكانهم.
(ٱلۡحَكِيمُ) في تدبيره وقضاءه
والذي لم يبتلني بذلك إلا لحكمة عنده ومصلحة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَٰأَسَفَىٰ عَلَى يُوسُفَ وَٱبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ ٱلْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ)
(وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ) يعنى اعتزلهم وانفرد بحزنه، ولم يعد يجالسهم أو يطاعمهم أو يشاربهم.
(وَقَالَ يَٰأَسَفَىٰ عَلَى يُوسُفَ) الأسف شدة الحزن والحسرة.
فقوله (يَٰأَسَفَىٰ عَلَى يُوسُفَ) يعنى يَٰا حزنًا عَلَى يُوسُفَ.
لم يذكر بنيامين، لأن بنيامين حي وهو يعلم مكانه.
ولم يذكر "روبيل" لأنه ينتظر اذنه بالرجوع
ولكن غياب "بنيامين" هيج حزنه الى "يوسف"
(وَٱبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ ٱلْحُزْنِ)
يعنى وفقد بصره من شدة ٱلْحُزْنِ.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ولكن هل يمكن أن يفقد أحد بصره من الحزن؟
التعبير بقوله تعالى (وَٱبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ) يعنى أصيبت عَيْنَاهُ بالمياه البيضاء أو الكتاركت، وهو تليف عدسة العين.
وكان ذلك هو أهم أسباب العمي قديمًا.
هل هناك علاقة بين الإصابة بالمياه البيضاء والحزن؟
وجد العلماء أن الحزن الشديد يسبب زيادة في هرمون "الأدرينالين" وهو يعتبر مضاد لهرمون "الأنسولين"
فاذا استمر الحزن الشديد لفترة طويلة، فهذا يسبب زيادة مستمرة في هرمون "الأدرينالين"، وبالتالى نقص مستمر في هرمون "الأنسولين"، وبالتالى يؤدي الى زيادة سكر الدم، والذي هو أحد مسببات العتامة أو المياه البيضاء.
وهذه أحد الإشارات العلمية في القرآن الكريم.
فلم يكن أحد يعلم أو يتخيل وقت نزول القرآن أن الحزن يمكن أن يؤدي الى الإصابة بالمياه البيضاء وفقد البصر.
(وَٱبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ ٱلْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ)
(كَظِيمٌ) من كظم السقاء، يعنى ان تكون قربة المياه ممتلئة على آخرها، وتشد على فمها بالرباط حتي لا يخرج منها الماء.
فالكَظِيمٌ هو الذي يكتم الشيء بداخله ولا يبوح به.
ومنه (والكاظمين الغيظ)
فمعنى (فَهُوَ كَظِيمٌ) يعنى ممتلأ بالهم والغم والحزن ولا يتحدث به ولا يشكوه لأحد.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يوسف سأل جبريل وقال له: هل لك علم بيعقوب؟ قال: نعم. قال: وكيف حزنه؟ قال: حزن سبعين ثكلى (الثكلى هي التي لها ولد واحد ثم يموت) قال: فهل له فيه أجر؟ قال: نعم أجر مئة شهيد".
يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- وما ساء ظنه بالله ساعة قط
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
قيل إن يعقوب ظل يبكي على يوسف ثمانين عامًا، من وقت فراقه الى حين لقائه، وما على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب.
اذن ليس معنى أن يبتلى الله العيد أنه غير راض عنه.
فهذا يعقوب -عليه السلام- ابتلى هذا الابتلاء الشديد، وظل يبكي ثمانين سنة، وما على وجه الأرض أكرم على الله منه.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
كيف يبكي يعقوب كل هذا البكاء؟
الحديث الصحيح الذي في مسلم "إنَّ اللَّهَ لا يُعَذِّبُ بدَمْعِ العَيْنِ، ولَا بحُزْنِ القَلْبِ، ولَكِنْ يُعَذِّبُ بهذا - وأَشَارَ إلى لِسَانِهِ -
قال ابن عاشور أن بكاء يعقوب كان بكاءًا بين يدي الله تعالى.
حتى شبه وابيضت عيناه من الحزن بتورم قدمي النبي في قيام الليل
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
قال بعض العلماء: أليس من الأولى عند نزول المصيبة أن يقول: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رٰجِعونَ)
يقول تعالى (الذين اذا أصابتهم مصيبة قالوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رٰجِعونَ أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوٰتٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ)
قالوا: لم يعط الاسترجاع الا الأمة المحمدية.
عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
"لم تعط أمة من الأمم ـــ إنا لله وإنا إليه راجعون ـــ عند المصيبة إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم. ألا ترى إلى يعقوب حين أصابه ما أصابه لم يسترجع. وإنما قال يا أسفى".
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(قَالُواْ تَاللهِ تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ ٱلْهَالِكِينَ ﴿85﴾
(قَالُوا) يعنى قال اخوة يوسف.
وهنا يظهر -مرة أخري- أن هناك تغيير في أخوة يوسف.
لأنهم مشفقون على ابيهم من الحزن ومن البكاء.
ولم تكن مثل هذه الشفقة موجودة عندما ألقوا يوسف في البئر.
(تَاللهِ تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ) يعنى واللهِ لا تزال تَذْكُرُ يُوسُفَ
(حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضاً) حُرْضًا
الحرض هو فساد الجسم أو العقل بسبب المرض أو الكبر
والـحرض هو الشيء البـالـي.
(حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضاً)
حتى يبلى جسمك
كما نقول حتدمر نفسك
(أَوْ تَكُونَ مِنَ ٱلْهَالِكِينَ) أو تموت من شدة الحزن عليه.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى ٱللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴿86﴾
هذا هو الصبر الجميل، ألا تشكو الى أحد من البشر، ولكن تكون شكواك لله وحده.
الانسان بداخله كمية محدودة من المشاعر
إذا بث مشاعره مع أحد من خلقه (فضفض كما نقول)
لم يترك ذلك مكان للبث مع الله
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى ٱللَّهِ)
البث لغة هو التفريق والنشر،
كانت العرب تقول: بثت الريح التراب إذا فرقته.
يقول تعالى: (وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دَابَّةٍ) (وبث منهما رجالًا كثيرًا ونساء)
ولذلك نقول البث الإذاعي أو البث التليفزيوني.
فالبث هو الحزن الشديد الذي لا يستطيع الإنسان أن يكتمه، وانما يبثه ويتحدث به للناس.
هذا هو البث، والحزن هو الهم الشديد الذي يخفيه الإنسان بداخله.
فقوله (إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى ٱللَّهِ)
يعنى كل ما بداخلى لا أشكوه الى الله وحده
فاتركونى وشأنى مع ربى وخالفي، فهو -تعالى- العليم بحالي، وهو -تعالى- القادر على تفريج كربى.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)
يعنى أَعْلَمُ مِنَ رحمة ٱللَّهِ ولطفه واحسانه مَا لاَ تَعْلَمُونَ.
وأيضُا لأنه علم من رؤيا يوسف صادقة، فكان ينتظر تحققها.
وروي -في ذلك- أنه رأى ملك الموت في الرؤيا فسأله: هل قبضت روح يوسف؟ فقال: لا والله هو حيّ فاطلبه.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وروري أن رجلًا مر بيعقوب وقال له: ما الذي أذهب بصرك، وقوس ظهرك، قال: أذهب بصري بكائي على يوسف، وقوس ظهري حزني عليه.
فأوحي الله اليه: أما تستحي تشكوني الي غيري.
فقال يعقوب: يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي.
فكان من بعد ذلك يقول: (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله)
وروري أنه كان يقول في دعائه: "اللهم اردد عليَّ ريحانتي يوسف وبنيامين" فأتاه جبريل وقال له يا يعقوب يقول لك الله: لو كانا ميتين لنشرتهما لك.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(يٰبَنِيَّ ٱذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْكَافِرُونَ ﴿87﴾
يقول يعقوب لأبنائه: (يٰبَنِيَّ ٱذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ)
أصل التحسس استخدام الحواس.
فالتَّحسُّس هو طلب الخبر، بلين بحيث لا يشعر به أحد.
كما نقول: شمشملى عن الموضوع ده.
فقول يعقوب: (يٰبَنِيَّ ٱذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ)
يعنى انظروا أي أخبار عن يُوسُفَ وَأَخِيهِ.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
الجملة فيها أمرين ملفتين:
أولًا: الرواية التي عند اخوة يوسف أن الذئب قد أكله، ولنا أخ هلك في البرية
والآن يعقوب يقول لهم: اذهبوا فابحثوا عن يوسف، ولم يعترض أحد منهم، يقول كيف نبحث عنه وهو قد هلك، وهذه يعتبر اعترف ضمنى منهم بأن يوسف لم يأكله الذئب، ان اقترب اخوة يوسف جدًا من التوبة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
الأمر الثاني أن يعقوب ربط بين يوسف وبنيامين.
(فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ)
فالظاهر هنا أن "يعقوب" شعر أن بنيامين مع يوسف.
وشعر أن عزيز مصر هو يوسف.
لأن هذا العزيز أكرم اخوته، وأعاد لهم بضاعتهم أول مرة.
ولأن ابناءه تحدثوا كثيرًا عن كريم أخلاق العزيز
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ) يعنى من رحمته وفرجه
وأصله نسيم الهواء.
وقرأت (مِن رُوح ٱللَّهِ)
(إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْكَافِرُونَ)
لا يقطع الرجاء في الله، ولا ييأس من رحمة الله إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْكَافِرُونَ.
لأنهم لا يعلمون عظيم قدرته، وواسع رحمته.
أما المؤمنون فإنهم لا ييأسوا من فرج الله أبداً، مهما أحاطت بهم الكروب، واشتدت عليهم المصائب.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
واستجاب الأبناء لأمر أبيهم يعقوب، فانطلقوا إلى مصر للمرة الثالثة.
ما الذي حدث عندما وصلوا الى مصر؟
هذا سيكون حديثنا الحلقة القادمة.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
لِمُطَالَعَة بَقِيَةِ حَلَقَات "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم"
لِمُشَاهَدَة حَلَقَاتِ "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم" فيديو
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
|