Untitled Document

عدد المشاهدات : 253

الحلقة (619) من "تَدَبُرَ القُرْآنَ العَظِيم" تفسير وتدبر الآيات من (27) الى (32) من سورة "الرَعد" (وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ.....

الحلقة رقم (619)
(تًدَبُر القُرْآن العَظِيم)

        

تفسير وتدبر الآيات من (27) الى (32) من سورة "الرَعد"- ص 252
        

(وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡلَآ أُنزِلَ عَلَيۡهِ ءَايَة مِّن رَّبِّهِۦۚ قُلۡ إِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِيٓ إِلَيۡهِ مَنۡ أَنَابَ ﴿٢٧﴾ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطۡمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكۡرِ ٱللَّهِۗ أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَئِنُّ ٱلۡقُلُوبُ ﴿٢٨﴾ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰالِحَٰتِ طُوبَىٰ لَهُمۡ وَحُسۡنُ مَ‍َٔاب ﴿٢٩﴾ كَذَٰلِكَ أَرۡسَلۡنَٰكَ فِيٓ أُمَّة قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهَآ أُمَم لِّتَتۡلُوَاْ عَلَيۡهِمُ ٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ وَهُمۡ يَكۡفُرُونَ بِٱلرَّحۡمَٰنِۚ قُلۡ هُوَ رَبِّي لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَيۡهِ مَتَابِ ﴿30﴾ وَلَوۡ أَنَّ قُرۡءَانا سُيِّرَتۡ بِهِ ٱلۡجِبَالُ أَوۡ قُطِّعَتۡ بِهِ ٱلۡأَرۡضُ أَوۡ كُلِّمَ بِهِ ٱلۡمَوۡتَىٰۗ بَل لِّلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ جَمِيعًاۗ أَفَلَمۡ يَاْيۡ‍َٔسِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن لَّوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَهَدَى ٱلنَّاسَ جَمِيعاۗ وَلَا يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوۡ تَحُلُّ قَرِيبا مِّن دَارِهِمۡ حَتَّىٰ يَأۡتِيَ وَعۡدُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ ﴿٣١﴾ وَلَقَدِ ٱسۡتُهۡزِئَ بِرُسُل مِّن قَبۡلِكَ فَأَمۡلَيۡتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذۡتُهُمۡۖ فَكَيۡفَ كَانَ عِقَابِ ﴿٣٢﴾

        

هذه الآيات الكريمة تناقش شبهة كان المشركون لا يتوقفون عن ترديدها، وهي أن يأتي الرسول ﷺ بمعجزة مادية حسية مثل ناقة صالح، أو عصا موسي، أو غير ذلك من المعجزات المادية الحسية التي أتي بها أنبياء الله لتدل على صدق نبوتهم.
فكل الأنبياء جاءوا بمعجزات مادية حسية، لماذا لم تأت أنت يا محمد بمعجزة مادية مثل كل الأنبياء، وتكتفي فقط بالمنهج الذي تدعي أنه أنزل عليك من الله، وهو القرآن الكريم، وتقول إن هذه القرآن هي المعجزة التي تدل على صدق نبوتك، وصدق تبليغك عن الله تعالى.
وغاب عن هؤلاء المعاندون، أن كل الأنبياء كانت رسالتهم لفترة معينة من الزمن حتى يأتي نبي بعده، ولذلك ناسب أن تكون معجزة كل نبي معجزة حسية، لأن المعجزات الحسية تكون حجة على من شاهدها، وعلى من سمع بها ممن كان زمانه قريبًا من زمن هذه المعجزة، فمعجزة كل الأنبياء كانت كعود الثقاب الذي يشتعل مرة واحدة، يشاهده من كان حاضرًا في زمن هذا النبي، أو يسمع به ممكن كان زمانه قريبًا منه.
أما النبي ﷺ فهو ليس كسائر الأنبياء، لأنه ﷺ هو خاتم الأنبياء، ورسالته هي خاتم الرسالات، ولن يأتي نبي بعده الى قيام الساعة، ولذلك كان يجب أن تكون معجزته باقية الى قيام الساعة، وتكون هذه المعجزة حجة على كل البشر الى قيام الساعة.
ولذلك كانت معجزة الرسول ﷺ هي القرآن الكريم، والذي تعهد الله بحفظه الى قيام الساعة.

        

أمر آخر كل الأنبياء قبل الرسول ﷺ كان يأتي بكتاب سماوي، وهو المنهج، ويأتي بمعجزة تدل على صدق نبوته، لأن كل نبي -كما قلنا- كان يرسل فترة معينة من الزمن، حتى يأتي نبي بعده، بمنهج جديد، فينسخ المنهج الجديد المنهج القديم.
أما الرسول ﷺ فلأنه خاتم الأنبياء، ولن يأتي نبي بعده، ولذلك كان يجب أن يكون المنهج محفوظًا الى قيام الساعة، فلذلك ناسب أن تكون معجزته هي عين منهجه، وأن يتعهد الله بحفظ هذا المنهج الى قيام الساعة.

        

(وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡلَآ أُنزِلَ عَلَيۡهِ ءَايَة مِّن رَّبِّهِۦۚ قُلۡ إِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِيٓ إِلَيۡهِ مَنۡ أَنَابَ ﴿٢٧﴾
(وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡلَآ أُنزِلَ عَلَيۡهِ ءَايَة مِّن رَّبِّهِ)
يعنى وَيَقُولُ الكفار من أهل مكة وغيرهم، لَوۡلَآ أُنزِلَ عَلَيۡ محمدٍ معجزة تدل على صدق نبوته.
وهذا يعنى أنهم لا يرون أن معجزة القرآن كافية للدلالة على صدق نبوة الرسول ﷺ -كما ذكرنا- ويريدون معجزة حسية يرونها بأعينهم مثل معجزة العصا لموسى، أو احياء الموتى لعيسى، أو معجزة من المعجزات الكثيرة التي اقترحوها، مثل طلبهم أن يحول الرسول لهم جبل الصفا الى ذهب، أو أن يحرك الجبال التي حول مكة حتى يتسع المكان، أو يفجر الأنهار والعيون في مكة.

        

(قُلۡ إِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِيٓ إِلَيۡهِ مَنۡ أَنَابَ) 
هذا هو الرد على المشركين الذين طلبوا معجزات حسية غير القرآن الكريم.
(قُلۡ) يعنى قُلۡ يا محمد للمشركين الذين طلبوا معجزات غير القرآن الكريم.
(إِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِيٓ إِلَيۡهِ مَنۡ أَنَابَ)
يعنى تحقق المعجزات التي تطلبوها لن يكون سببًا للهداية.
يقول تعالى
(إِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ)
إِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ الضلال، من يريد هو الضلال يضله الله.
من يعرض عن الهداية وينفر منها ويختار طريق الضلال، يضله الله تعالى.

(إِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ)
يعنى: إِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ هو الضلال.
وهذا مثل قول الله تعالى في سورة البقرة:
(وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ)
يقول تعالى (وَيَهۡدِيٓ إِلَيۡهِ مَنۡ أَنَابَ)
وَيَهۡدِيٓ إِلَيۡهِ مَنۡ أَقبل على الحق.

        

اذن مرة أخري، قوله تعالى (قُلۡ إِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِيٓ إِلَيۡهِ مَنۡ أَنَابَ) 
يعنى تحقق هذه المعجزات لن يكون سببُا في الهداية
ولكن الهداية والضلال لها أسباب أخري
عبد يريد الضلال فيضله الله تعالى.
وعبد يقبل على طريق الحق، فيأخذ الله بيده الى طريق الحق.


        

ثم يوضح تعالى -في الآية التالية- من هؤلاء الذين يهديهم الله تعالى
فيقول تعالى 

(ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطۡمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكۡرِ ٱللَّهِۗ أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَئِنُّ ٱلۡقُلُوبُ ﴿٢٨﴾
في الآية السابقة يقول تعالى (وَيَهۡدِيٓ إِلَيۡهِ مَنۡ أَنَابَ) 
من هؤلاء؟
(ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطۡمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكۡرِ ٱللَّهِ)
والمقصود بِذِكۡرِ ٱللَّهِ هنا هو القرآن الكريم
فهؤلاء اطمأنت قُلُوبُهُم الى الإيمان واطمأنت قُلُوبُهُم الى صدق الرسول ﷺ  
عند سماع القرآن الكريم
وعلموا أنه كلام الله تعالى، وعلموا أنه معجزة رسوله إليهم.
ولذلك لم يطلبوا معجزة غير معجزة القرآن
ولم يقولوا مثل ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ
(لَوۡلَآ أُنزِلَ عَلَيۡهِ ءَايَة مِّن رَّبِّهِ)

        

ثم يقول تعالى (أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَئِنُّ ٱلۡقُلُوبُ) 
(أَلَا) أداة تنبيه.
يعنى القرآن الكريم يكفي وحده الى أن يطمئن القلب الى الإيمان، والى صدق رسول الله ﷺ

        

البعض يفهم الآية على أن بذكر الله على الإطلاق تسكن القلوب وَتَطۡمَئِنُّ وتستقر.
وهذا المعنى بعيد عن سياق الآيات، الذي يناقش طلب المشركين لمعجزات غير القرآن الكريم، ولكن لا مانع على الإطلاق من هذا المعنى للآية.
أن بذكر الله على الإطلاق، والذي يشمل القرآن الكريم -والقرآن هو خير الذكر- تَطۡمَئِنُّ ٱلۡقُلُوبُ وتسكن وتستقر.
وهذا الشعور بالسكينة لا يمكن أن يتحقق الا بذكر الله تعالى.
فالانسان لا يشعر بالاطمئنان والسكينة عند تناول شهوات الدنيا.
حتى لو كان ذلك في الحلال. 
فالشهوات يمكن أن تحقق للإنسان سعادة مؤقتة، ولكنها لا تحقق اطمئنان القلب أو سكينة النفس

        

يقول البعض أن الله تعالى يقول في سورة الأنفال: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) فكيف تكون الطمأنينة والوجل في وقت واحد؟ 
نقول ان ذكر الله تعالى يحقق الوجل في القلب، ويحقق الطمأنينة في نفس الوقت.
وهذان الشعوران المتناقضان لا يمكن أن يجتمعا في القلب الا بذكر الله تعالى فقط.
عندما تقرأ القرآن بحضور قلب وتدبر.
تشعر بالتطامن والخشوع، وتشعر في نفس الوقت بالسكينة والطمأنينة 


        

(ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ طُوبَىٰ لَهُمۡ وَحُسۡنُ مَ‍َٔاب ﴿٢٩﴾
ما زالت الآيات تتحدث عن المؤمنين الذين اكتفوا بمعجزة القرآن واطمأنت قُلُوبُهُم الى الإيمان والى صدق الرسول ﷺ عند سماع القرآن الكريم
فيقول تعالى
(ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ)
(طُوبَىٰ لَهُمۡ)
يعنى الحياة الطيبة لَهُمۡ.
وقيل إن
(طُوبَىٰ) هو اسم من أسماء الجنة.

        

وقال كثير من المفسرين أن (طُوبَىٰ) اسم شجرة في الجنة
ووصفوا هذه الشجرة بأوصاف كثيرة يطول ذكرها.
فقالوا مثلًا أنها شجرة غرسها الله –تعالى- بيده، وأنها تظل الجنة كلها، وأن أغصانها تري من وراء أسوار الجنة، وما من بيت من بيوت الجنة الا فيه غصن من أغصان هذه الشجرة، وإذا أراد أهل أن يأكلوا من ثمارها، تدلى إليهم الغصن فيأكلون منه ما شاءوا، وأن فيها كل الألوان الا الأسود، وفيها كل الثمار، وينبع من أصلها كل انهار الجنة.
(ولكن الحقيقة أن الأحاديث الواردة في وصف هذه الشجرة لا تخلو أسانيدها من ضعف) 

        

وبالمناسبة في بعض كتب التفسير هناك حديث ان الرسول ﷺ سئل عن قوله تعالى: (طُوبَىٰ لَهُمۡ وَحُسۡنُ مَ‍َٔاب) فقال ﷺ: "شجرة أصلها في دار على وفروعها في الجنة."
قلنا من قبل ان الأحاديث التي يكون فيها مبالغة في مناقب على -رضى الله عنه- هي من وضع الشيعة.

        

اذن قوله تعالى: (ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ طُوبَىٰ لَهُمۡ)
(طُوبَىٰ لَهُمۡ) يمكن أن تحمل هذه المعاني الثلاثة.
 (طُوبَىٰ لَهُمۡ) يعنى الحياة الطيبة لأهل الجنة، وهو هو اسم من أسماء الجنة، واسم شجرة من أشجار الجنة

        

(وَحُسۡنُ مَ‍َٔاب) 
(مَ‍َٔاب) يعنى المرجع والمنقلب والمستقر.
(وَحُسۡنُ مَ‍َٔاب) 
يعنى ما أحسن وما أجمل وما أروع هذه النهاية، وهي دخول الجنة.

        

وفي الصحيحين أن الله تعالى يقول للرجل الذي هو آخر أهل الجنة دخولا الجنة -أقل منزلة في الجنة-: تمن فيتمنى حتى إذا انتهت به الأماني يقول الله تعالى: تمن من كذا وتمن من كذا يذكره، ثم يقول ذلك لك وعشرة أمثاله.
        

اذن قوله تعالى (ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ طُوبَىٰ لَهُمۡ وَحُسۡنُ مَ‍َٔاب) تتحدث عن الذين اكتفوا بمعجزة القرآن هؤلاء (طُوبَىٰ لَهُمۡ وَحُسۡنُ مَ‍َٔاب)  


        

ثم يقول تعالى (كَذَٰلِكَ أَرۡسَلۡنَٰكَ فِيٓ أُمَّة قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهَآ أُمَم لِّتَتۡلُوَاْ عَلَيۡهِمُ ٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ وَهُمۡ يَكۡفُرُونَ بِٱلرَّحۡمَٰنِۚ قُلۡ هُوَ رَبِّي لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَيۡهِ مَتَابِ ﴿٣٠﴾
(كَذَٰلِكَ أَرۡسَلۡنَٰكَ فِيٓ أُمَّة قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهَآ أُمَم لِّتَتۡلُوَاْ عَلَيۡهِمُ ٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ) 
(كَذَٰلِكَ)
للتشبيه يعنى: كما أرسلنا رسلًا سابقين الى أقوامهم، ارسلناك الى قومك.
(لِّتَتۡلُوَاْ عَلَيۡهِمُ ٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ)
التلاوة لغة هي القراءة.
يعنى لم نرسلك حتى تأتي لهم بخوارق العادات -كما كانوا يطلبون- وانما أرسلت إليهم لتقرأ عليهم القرآن الكريم والذي فيه هدايتهم وفيه ما ينفعهم في الدين والدنيا.

        

ولم يقل "أَرۡسَلۡنَٰكَ الى أُمَّة" وانما قال (أَرۡسَلۡنَٰكَ فِيٓ أُمَّة) 
لأن الرسول ﷺ أرسل الى قوم نشأ فيهم وهو واحد منهم،

        

(وَهُمۡ يَكۡفُرُونَ بِٱلرَّحۡمَٰنِ قُلۡ هُوَ رَبِّي لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَيۡهِ مَتَابِ )
روي في أسباب النزول روايتين:
الرواية الأولى أن الرسول ﷺ كان في الحجر يدعو ويقول: يا رحمن، ومر به أبو جهل وسمعه وهو يدعو، فانطلق "أبو جهل" الى قريش وقال لهم: إن محمدًا كان ينهانا عن عبادة الآلهة، وهو يدعو إلهين، يدعو الله ويدعو إلهًا آخر يقال له: الرحمن، فأنزل الله هذه الآية: (وَهُمۡ يَكۡفُرُونَ بِٱلرَّحۡمَٰنِ.....)

        

الرواية الثانية: في صلح الحديبية في السنة السابعة من الهجرة، لما أرادوا كتابة الصلح، قال الرسول ﷺ لعلى -رضى الله عنه- أكتب: باسم الله الرحمن الرحيم، فقالت قريش: ما نعرف الرحمن، ولكن اكتب باسمك اللهم.
فقال تعالى:
(وَهُمۡ يَكۡفُرُونَ بِٱلرَّحۡمَٰنِ) 
واستخدم تعالى لفظ الكفر، لأن انكار صفة من صفات الله، هو انكار لذات الله، وبالتالي هو كفر بالله.
مثل شخص يقول لك: أتعرف زيد؟ تقول له نعم، هو الشاب الطويل الأبيض.
يقول لك لا هو قصير وأسمر.
اذن انت لا تعرف زيد أنما أنت تتحدث عن شخص آخر.
وهكذا عندما ينكر الكفار أن من أسماء الله تعالى (الرحمن) يعنى الذي وسعت رحمته كل شيء.
معنى هذا أنهم لا يؤمنون بالله الرحمن الذي نؤمن نحن به.
بل هم يؤمنون باله آخر في عقولهم، ليس من صفته الرحمن،
ولذلك استخدم تعالى لفظ الكفر، لأن كفرهم بصفة الرحمن، أو بأبي صفة من صفات الله، هو كفر بالله، فقال تعالى: (وَهُمۡ يَكۡفُرُونَ بِٱلرَّحۡمَٰنِ)  

        

ما علاقة (وَهُمۡ يَكۡفُرُونَ بِٱلرَّحۡمَٰنِ) بسياق الآيات التي تتناول عدم قبول المشركون للقرآن الكريم كمعجزة تدل على صدق نبوة الرسول ﷺ.
لأن من أسباب نزول القرآن أن نتعرف على صفات الله تعالى.
وبدون القرآن الكريم لن نتعرف على صفات الله تعالى.

        

(قُلۡ هُوَ رَبِّي لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَيۡهِ مَتَابِ)
(قُلۡ هُوَ رَبِّي لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ)
يعنى هو واحد بذاته وان اختلفت صفاته.
حتى لا يتوهم واحد منهم أن اختلاف الصفات يعنى اختلاف الذات.
كما توهم "أبو جهل" عندما سمع الرسول ﷺ يقول "يا رحمن" فقال ان محمد يعبد الهين.

(عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) عَلَيْهِ أعتمد في نصرتي عليكم وفى جميع أموري.
(وَإِلَيْهِ مَتَابِ) وَإِلَيْهِ -تعالى- الرجوع بعد الموت.


        

(وَلَوۡ أَنَّ قُرۡءَانا سُيِّرَتۡ بِهِ ٱلۡجِبَالُ أَوۡ قُطِّعَتۡ بِهِ ٱلۡأَرۡضُ أَوۡ كُلِّمَ بِهِ ٱلۡمَوۡتَىٰۗ بَل لِّلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ جَمِيعًاۗ أَفَلَمۡ يَاْيۡ‍َٔسِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن لَّوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَهَدَى ٱلنَّاسَ جَمِيعاۗ وَلَا يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوۡ تَحُلُّ قَرِيبا مِّن دَارِهِمۡ حَتَّىٰ يَأۡتِيَ وَعۡدُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ ﴿٣١﴾
الآية تؤكد -مرة أخري- أنه حتى لو تحققت هذه المعجزات المادية التي طلبوها فانهم لن يؤمنوا.
روي في سبب نزول الآية أن بعض مشركي مكة، كانوا جالسين في فناء الكعبة، فيهم "أبو جهل بن هشام"  و"عبد الله بن أبي أمية"، فأتاهم الرسول ﷺ وعرض عليهم الإسلام كما كان يفعل دائمًا، فقال له عبد الله بن أمية: اذا  أردت أن نتبعك فسير لنا بقرآنك هذه الجبال عن مكة حتى تتسع أرضنا، فإنها أرض ضيقة ، واجعل لنا فيها عيونا وأنهارا، فنتخذ المزارع والبساتين، أو سخر لنا الريح حتى نركبها الى الشام أو الى اليمن فنقضي تجارتنا، فقد كانت الريح مسخرة لسليمان فلست بأهون على ربك من سليمان كما تزعم، أو ابعث لنا رجلين أو ثلاثة ممن مات من آبائنا منهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخًا صدوقا، فنسأله عما تخبرنا به كائن بعد الموت، فنعرف أحق ما تقول أم باطل، فإن عيسى كان يحيي الموتى، ولست بأهون على الله منه كما تزعم.

        

ونلاحظ أن الخوارق التي طلبوها أمورًا تحقق لهم مصالحهم.
فمكة كانت فيها مشكلة ضيق المكان، بسبب الجبال المحيطة بالكعبة، ولذلك كانت مساكن أهل مكة في الشعاب يعنى في الطرق الضيقة التي بين الجبال، فطلب المشركون ازالة هذه الجبال حتى يكون المكان واسعًا.
ومكة لم يكن فيها مصادر للمياه الا بعض الآبار، ولم يكن عندهم زراعة، وكانوا يعتمدون في غذائهم على الطعام الذي يأتي من خارج مكة، ولذلك طلبوا أن تكون هناك أنهار وعيون مياه للزراعة.
وكانوا يبذلون الجهد الشديد في السفر في الصحراء للتجارة سواء الى الشام أو الى اليمن، فطلبوا أن تحملهم الريح وتحمل تجارتهم فيذهبوا ويعودوا في يوم واحد
وقد طلبوا من قبل أن يحول الرسول لهم جبل الصفا ذهبا.
اذن فهم لا يطلبون معجزة للدلالة على صدق نبوة الرسول ﷺ، ولكن يطلبون معجزة تحقق لهم مصالحهم.
بدليل أنه حدثت معجزة انشقاق القمر ولم يؤمنوا، وقالوا "سحر مستمر" يعنى سحر قوي جدًا.

        

فقال تعالى (وَلَوۡ أَنَّ قُرۡءَانا سُيِّرَتۡ بِهِ ٱلۡجِبَالُ)
يعنى: حتى لَوۡ أَنَّا أنزلنا قُرۡءَانا حركت به الجبال -كما طلبوا- 
(أَوۡ قُطِّعَتۡ بِهِ ٱلۡأَرۡضُ) يعنى شققت، فأصبح فيها أنهارًا وعيونًا.
أو
(قُطِّعَتۡ) من قطع المسافة، يعنى يقطعون به المسافات في تجارتهم، الى الشام أو الى اليمن في يوم واحد.
(أَوۡ كُلِّمَ بِهِ ٱلۡمَوۡتَىٰ) أَوۡ تحدثوا بِهِ مع ٱلۡمَوۡتَىٰ، وأخبروهم ما يقوله محمد كائن بعد الموت هو حق.

        

وبعد ذلك جواب (لَوۡ) محذوف، وتقديره، حتى لو تحققت هذه الخوارق فانهم لن يؤمنوا.
وحذف جواب (لَوۡ) للدلالة على أن الأمر ليس مقتصرًا على تحقق هذه المعجزات فقط.
ولكن لو تحققت لهم هذه المعجزات وغيرها، فلن يؤمن هؤلاء المعاندون.
كما لو تكتب شيئا وتقول الخ أو نقط
وهذا مثل قوله تعالى
(ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون) 
اذن جواب (لَوۡ) المحذوف تقديره، حتى لو تحققت هذه الخوارق، وغيرها أيضًا من الخوارق فانهم لن يؤمنوا.
وقال البعض أنها متعلقة بقوله تعالى في الآية السابقة (وَهُمۡ يَكۡفُرُونَ بِٱلرَّحۡمَٰنِ)
يعنى: وَهُمۡ يَكۡفُرُونَ بِٱلرَّحۡمَٰنِ حتى لَوۡ جئت لهم بقرآن سُيِّرَتۡ بِهِ ٱلۡجِبَالُ أَوۡ قُطِّعَتۡ بِهِ ٱلۡأَرۡضُ أَوۡ كُلِّمَ بِهِ ٱلۡمَوۡتَىٰ.

        

(بَل لِّلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ جَمِيعًا)
(بَل)
للإضراب، يعنى نفي ما قبله واثبات ما بعده.
يعنى لن نحقق لهم هذه الخوارق التي طلبها هؤلاء المعاندون.
فهؤلاء يطلبون أشياء تغير من جغرافية المكان كله: إزالة جبال وتفجير أنهار.
وهذه الأشياء ليست لأحد من البشر، بل هي لله تعالى وحده، إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، وليس لأحد أن يتحكم عليه في أفعاله وأحكامه.

        

(أَفَلَمۡ يَاْيۡ‍َٔسِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن لَّوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَهَدَى ٱلنَّاسَ جَمِيعا)
كان المسلمون في مكة يتمنون أن تتحقق هذه المعجزات 
وكانوا يطلبون من الرسول ﷺ أن يحقق لهم هذه المعجزات، وذلك لاعتقادهم أن بمجرد تحقق هذه المعجزات سيدخل كل أهل مكة في الإسلام.
فيقول تعالى (أَفَلَمۡ يَاْيۡ‍َٔسِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن لَّوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَهَدَى ٱلنَّاسَ جَمِيعا)
اليأس هو قطع الأمل او فقد الأمل.
يعنى ألم يفقد هؤلاء المؤمنون الأمل في ايمان كل ٱلنَّاسَ، ويعلموا أن الله تعالى لو أراد أن يكون كل الناس على الإيمان لفعل.

        

ثم يأتي التهديد لهؤلاء المعاندون الذين يصرون على الكفر والتكذيب:
(وَلَا يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوۡ تَحُلُّ قَرِيبا مِّن دَارِهِمۡ حَتَّىٰ يَأۡتِيَ وَعۡدُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ)
(وَلَا يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ) 

القَارِعَةٌ هو المصيبة أو الداهية أو النازلة الشديدة.
وروي أن المقصود منها هو ما يصبهم من القتل و الأسر من السرايا والطلائع التي كان يبعث بها الرسول ﷺ 
وكان الرسول ﷺ منذ نزول الإذن بالقتال بعد ستة أشهر من الهجرة، لا يتوقف عن ارسال السرايا، أو الخروج بنفسه لاعتراض تجارة قريش.

(أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ) التاء خطاب للنبي ﷺ
يعنى تحل بجيشك قريبا منهم كما حدث في الحديبية، وكما حدث بعد ذلك في فتح مكة.

(حَتَّىٰ يَأۡتِيَ وَعۡدُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ)
(حَتَّىٰ يَأۡتِيَ وَعۡدُ ٱللَّهِ) وهو فتح مكة أو يوم القيامة
(إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ)

(وَلَوۡ أَنَّ قُرۡءَانا سُيِّرَتۡ بِهِ ٱلۡجِبَالُ)
        

(وَلَقَدِ ٱسۡتُهۡزِئَ بِرُسُل مِّن قَبۡلِكَ فَأَمۡلَيۡتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذۡتُهُمۡۖ فَكَيۡفَ كَانَ عِقَابِ ﴿٣٢﴾
(وَلَقَدِ ٱسۡتُهۡزِئَ بِرُسُل مِّن قَبۡلِكَ)
والاستهزاء هو المبالغة في السخرية والتهكم.
والتنكير في قوله
(بِرُسُل) للتكثير.
وهذه إشارة الى أن مطالب المشركين المتعنتة من تسيير الجبال وتقطيع الأرض، وتكليم الموتى، لم تكن على سبيل الجد، ولم يكن يتوقف عليها ايمانهم أو عدم ايمانهم كما ادعوا، ولكنها كانت على سبيل السخرية والتهكم والاستهزاء.

(فَأَمۡلَيۡتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ) 
والإملاء: هو الإمهال والترك مدة من الزمن.
(ثُمَّ أَخَذۡتُهُمۡۖ فَكَيۡفَ كَانَ عِقَابِ) 
(ثُمَّ أَخَذۡتُهُمۡ)
الأخذ تدل على الشدة وتدل على السرعة.
وفى الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: 

"وإن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته"
(فَكَيۡفَ كَانَ عِقَابِ) والاستفهام للتهويل من شدة وفظاعة العقاب الذي حل بهم.

 

       

لِمُطَالَعَة بَقِيَةِ حَلَقَات "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم"

لِمُشَاهَدَة حَلَقَاتِ "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم" فيديو

❇