Untitled Document

عدد المشاهدات : 2261

خطبة: قصة عيسى -عليه السلام- 2

((عِيسَى- علَيْهِ السَلَام))

(الجزء الثاني)

الخطيب: الشيخ/ وائل فوزي

تاريخ الخطبة: 1431- 2010

المكان: مسجد "الوادي" بمدينة نصر، ومسجد "السيدة مريم- عليها السلام" بمنطقة الهجانة

مدة الخطبة: 30 دقيقة

أما بعد

بدأنا في اللقاء السابق حديثنا عن عيسى –عليه السلام- فتحدثنا عن نذر امرأة عمران –وهي ام مريم وجدة عيسى عليه السلام- بأن تهب ما في بطنها صدقة لخدمة بيت المقدس فقالت ((رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)) وكان "عمران" زوجها هو أكبر علماء بنى اسرايل في وقته، فلما نذرت هذا النذر عاتبها في ذلك، لأنه لم يكن يحرر الا الصبيان فقط والفتيات لا يحررن، لأن المحرر تكون وظيفته الأساسية هي خدمة المتعبدين في بيت المقدس: يحمل لهم الماء ويعد لهم الطعام، فكيف اذا كانت انثى تخدم الرجال في المسجد، ومات "عمران" وامرأته حامل في "مريم" ، فلما وضعتها اذا هي أنثى، فقالت وكأنها تعتذر الى الله تعالى ((رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّـهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ ۖ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ))وقلنا أن "مريم" في لغتهم يعنى"العابدة"

وقلنا أنه حدثت بعد ذلك منافسة بين العلماء على كفالة مريم، لأنها ابنة امامهم "عمران" ولأنهم وجدوا امارات على أنها فتاة مباركة، وكان ممن تنافس على كفالتها زكريا –عليه السلام- وهو من أنبياء بنى اسرائيل، ووصل الخلاف بينهم الى الخصومة، وقرروا أن يقترعوا بأن يلقوا أقلامهم في النهر، فالقلم الذي يثبت ولا يجرى مع التيار يكفل مريم، فذهبوا الى نهر الأردن وألقوا أقلامهم التى يكتبون بها التوراة، فجرت جميع الأقلام مع تيار النهر بينما ثبت قلم "زكريا" بل جرى في عكس اتجاه التيار

كفل "زكريا" مريم وبنى لها محرابًا أي غرفة في المسجد تتفرغ فيه لعبادة الله تعالى، وكان كلما دخل عليها محرابها وجد عندها رزقًا، فيجد فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف، فسألها وقال لها(يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا) قَالَتْ ((هُوَ مِنْ عِندِ اللَّـهِ ۖ إِنَّ اللَّـهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)) فأيقظت اجابة "مريم" في قلبه هذه القضية الايمانية، وهي قضية أن اللَّـهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وأنه تعالى يعطى وان عزت الأسباب، فدعا ربه ((رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ)) واستجاب الله تعالى لدعاء زكريا، وبشرته الملائكة ((يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا)) ومن شدة تلهف "زكريا" على هذا الولد الذي سيرث النبوة من بعده، ويسوس بنى اسرائيل بنبوته وبما يوحي اليه ربه، طلب من الله تعالى علامة (قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً)) أي علامة على ايجاد هذا الجنين في رحم امه  (قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا) وكلمة "سويا" يعنى جهاز النطق سليم ومع ذلك لا يستطيع أن يتحدث الى الناس، وقلنا أن هذه العلامة تدل على طلاقة قدرة الله تعالى، فأنا يا زكريا أعطيتك الولد وأنت لا تملك أسباب الانجاب لا من جهتك ولا من جهة زوجتك، وأمنع عنك الكلام وانت تملك أسباب الكلام

*         *        *

بعد حدوث الحمل لزوجة يحيى بستة أشهر، حدثت معجزة خلق عيسى –عليه السلام- في رحم السيدة مريم، اذن يحي بن زكريا –عليهما السلام- كان أكبر من عيسى بن مريم –عليه السلام- بستة أشهر

*         *        *

ولكن دعونا نستكمل اليوم حديثنا عن يحيي –عليه السلام- يذكر الله تعالى من صفة يحيي –عليه السلام أنه كان (سَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ) يقول تعالى في سورة آل عمران (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّـهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ) معنى (مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ) أي مصدقًا بعيسى عليه السلام، لأن عيسى –عليه السلام- هو كلمة الله، لأن الله تعالى خلقه بقوله كن، لم يخلق بطريقة طبيعية عن طريق اتصال الرجل والمرأة، ولكن الله تعالى قال له كن فخلق في رحم أمه السيدة مريم

اذن  يحيي هو أول من آمن بعيسى، ويقول ابن عباس في تفسير قوله تعالى (مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ)  أن أم يحيي استقبلت مريم وقالت لها: أحامل أنت ؟ قالت لها مريم: لماذا تقولين ذلك ؟ قالت لها: أني أري ما في بطنى يسجد لما في بطنك !

المهم أن يحيي كان أول المصدقين بعيسى –عليه السلام- وأشد المؤمنين به، وهذا أمر منطقي لأن يحيي نبي من أنبياء بنى اسرائيل، وعيسى آخر أنبياء بنى اسرائيل، وكان يحيي في زمنه، فلذلك من الطبيعي أن يكون أول وأكثر المؤمنين به

ومعنى (سَيِّدًا) يعنى فقيهًا عالمًا حليمًا كريم الخلق ومعنى (حَصُورًا) يعنى لا يتزوج النساء مع قدرته على ذلك، او معناها أنه حَصُور عن الذنوب، وقد روى أن " يحيي" هو النبي الوحيد والمخلوق الوحيد من بنى آدم الذي لم يذنب ذنبًا طوال حياته، ولم يهم حتى بذنب، وهذه خصوصية ليحيي –عليه السلام- ليست لغيره من جميع الأنبياء والمرسلين، روى عن أبي هريرة أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال "كل بني آدم يلقى الله عز وجل بذنب قد أذنبه يعذبه عليه إن شاء أو يرحمه إلا يحيى بن زكريا فإنه كان سيداوحصورا ونبيا من الصالحين"

*       *       *

ويقول تعالى في سورة مريم (يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) "خُذِ الْكِتَابَ" يعنى التوراة، "بِقُوَّةٍيعنى تعمل بما في التوراة من أوامر ونواهي بمنتهي القوة والعزم، ثم يقول تعالى " وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا" يعنى آتيناه الحكمة والعلم والفهم للتوراة وهو لايزال صبى صغير، لذلك " يحيي" وهو صبى صغير يقول له أترابه من الصبيان: يا يحي اذهب بنا نلعب ! فيجيبهم: ما للعب خلقت

 

ثم يتحدث القرآن الكريم عن يحيي ويقول ((وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً ۖ وَكَانَ تَقِيًّا)) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا يعنى أصبح ذا حنان، والحنان هي المحبة في شفقة وميل، لذلك الحنان ميزة ورزق من الله تعالى، و"الحنَّان" من اسماء الله الحسنى، ومن صفاته تعالى، ثم "وَزَكَاةً" يعنى طهارة ونقاء من الذنوب والآثام

ثم يقول تعالى ((وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا *وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا))

*       *       *

وكان يحيى –عليه السلام- شديد الزهد والخشية من الله تعالى، وقد روى من خشيته لله تعالى أن زكريا أبيه كان اذا اراد أن يعظ بنى اسرائيل التفت يمينًا وشمالًا فاذا رأي ابنه يحيى لا يذكر جنة ولا نارًا، فجلس يومًا يعظ بنى اسرائيل، وجاء يحيى وجلس في غمار الناس، والتفت زكريا يمينًا ويسارًا فلم يرَ يحيى، فأخذ يتحدث عن النار، فخرج يحيي من المجلس هائمُا على وجه، وأخذت أمه تبحث عنه حتى وجدته واقفًا رافعًا بصره الى السماء وهو يقول: وعزتك يا مولاي لا أذوق بارد الشراب حتى أنظر الى منزلتى عندك، فأقبلت اليه أمه وناشدته الله أن ينطلق معها الى المنزل

*       *       *

أما مقتل يحيي فقد روى أنه كان في زمن ملك من ملوك بنى اسرائيل، وكانت له ابنة أخ يريد أن يتزوجها، وكانت هذه الفتاة تريد أن تتزوج عمها، واستشار الملك "يحيي" في ذلك لأنه كان أكبر علماء عصره وأعلمهم بالتوراة، فرفض يحيي هذا الزواج، وأصر على رأيه، فحقدت عليه الفتاة، وجاءت يومًا الى الملك وأخذت تتعرض له، وتسقيه الخمر، فلما أخذ منه الشراب روادها عن نفسها فأبت عليه حتى يعطيها ما تريد، فقال لها: فماذا تريدين ؟ قالت: رأس يحي بن زكريا ! قال لها: ويحك سلينى غير هذا، قالت: ما أسألك غير هذا، لذلك يقول الرسول –صلى الله عليه وسلم- "إن من هوانالدنيا على الله أن يحيى بن زكريا قتلته امرأة"

بعد قتل يحيي قتل أيضًا زكريا –عليه السلام- وقبره موجود ومشهور في "حلب" بسوريا ، وكذلك قبر "يحيى" عليه السلام موجود في "دمشق"

*       *       *

قلنا أن يحيى عليه السلام- قد ولد قبل عيسى عليه السلام- بستة أشهر، وكان حدوث الحمل لمريم قد سبقه اعداد لمريم لهذا الحدث الذي لم يحدث من قبل ولم يتكرر بعد ذلك

أول اعداد لمريم هو أن تأتيها فاكهة من الجنة في غير موعدها، فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء، وشاهدت بذلك مشاهدة عملية طلاقة قدرة الحق سبحانه وتعالى، وأنه تعالى يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ

المرحلة الثانية من الاعداد هي حمل زوجة زكريا وهي لا تملك أسباب هذا الحمل لا من جهتها ولا من جهة زوجها

المرحلة الثالثة هي ايناس الله تعالى لها بقول الملائكة لها ((إنَّ الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين))

*       *       *

بعد ذلك تبدأ المعجزة بأن يظهر جبريل –عليه السلام- للسيدة مريم في صورة بشرية، يقول تعالى  ((فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا)) وكلمة سويًا يعنى سوي التكوين وسيم جميل، وذلك لإيناس مريم، وأيضًا ليظهر لك شدة عفة مريم وطهارتها والتزامها، لأنها حين رأت هذا الرجل الوسيم القسيم شديد الجمال، لم تتطلف له في الحديث، لم تقل كلمة واحدة يفهم منها ميلًا اليه، بل قالت ((إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا