رَقَائِقُ اَلْفَتْحِ
اَلْحَلَقَةُ الحادية والعشرون- سكرات الْمَوْتُ
* * *
بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ، اَلْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَسَمَ بِالْمَوْتِ رِقَابَ الْجَبَابِرَةِ، وَكَسَرَ بِهِ ظُهُورَ الْأَكَاسِرَةِ، وَقَصَرَ بِهِ آمَالَ الْقَيَاصِرَةِ، الَّذِينَ لَمْ تَزَلْ قُلُوبُهُمْ عَنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ نَافِرَةً، حَتَّى جَاءَهُمْ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَأَرْدَاهُمْ فِي الْحَافِرَةِ، فَنُقِلُوا مِنَ الْقُصُورِ إِلَى الْقُبُورِ، وَمْنْ ضِيَاءِ الْمُهُودِ إِلَى ظُلْمَةِ اللُّحُودِ، وَمِنْ الْمَضْجَعِ الْوَثِيرِ إِلَى الْمَصْرَعِ الْوَبِيلِ،وَمِنَ التَّنَعُمِ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلَى التَّمَرُّغِ فِي التُّرَابِ،
فَانْظُرْ هَلْ وَجَدُوا مِنَ الْمَوْتِ حِصْنًا وَعِزًّا،
وَانْظُرْ ((هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُ رِكْزًا))
وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اَللَّهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، أَمَّا بَعْدُ،
فَجَدِيرٌ بِمَنِ الْمَوْتُ مَصْرَعُهُ، وَالتُّرَابُ مَضْجَعُهُ، وَالدُّودُ أَنِيسُهُ، وَمُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ جَلِيسُهُ، وَالْقَبْرُ مَقَرُّهُ، وَبَطْنُ الْأَرْضِ مُسْتَقَرُّهُ، وَالْقِيَامَةُ مَوْعِدُهُ، وَالْجَنَّةُ أَوْ النَّارُ مَوْرِدُهُ، أَلَا يَكُونُ لَهُ فِكْرٌ إِلَّا فِي الْمَوْتِ، وَلَا ذِكْرٌ إِلَّا لَهُ، وَلَا اسْتِعْدَادٌ إِلَّا لِأَجْلِهِ.
وقد يدأنا فِي اللِّقَاءِ السَّابِقِ حديثنا عَنْ الْمَوْتِ، وَقَبْلَ مَا نَسْتَكْمِلُ كَلَامَنَا، هُنَاكَ قِصَّةٌ قَرَأْتُهَا مُنْذُ سَنَوَاتٍ وَتَأَثَّرْتُ بِهَا كَثِيرًا:
إِنَّ رَجُلَيْنِ تَنَازَعَا عَلَى قِطْعَةِ أَرْضٍ، فَأَنْطَقَ اللهُ-عَزَّ وَجَلَّ- لَبِنَةً -يَعْنِي طُوبَةً- مِنْ حَائِطٍ فِي تِلْكَ الْأَرْضِ، فَقَالَتْ: يَا هَذَانِ فِيمَ تَتَنَازَعَانِ؟ وَفِيمَا تَتَخَاصَمَانِ؟ إِنِّي كُنْتُ مَلِكًا مِنْ اَلْمُلُوكِ، مَلَكَتُ كَذَا سَنَةٍ، ثُمَّ مِتُّ وَصِرْتُ تُرَابًا، فَبَقِيتُ كَذَلِكَ أَلْفَ سَنَةٍ، فَأَخَذَنِي خَزَّافٌ، فَعَمِلَ مِنِّي إِنَاءًا فَاسْتُعْمِلْتُ حَتَّى تَكَسَّرْتُ، ثُمَّ عُدْتُ تُرَابًا فَبَقِيتُ أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ أَخَذَنِي رَجُلٌ فَضَرَبَ مِنِّي لَبِنَةً، فَجَعَلَنِي فِي هَذَا اَلْحَائِطِ، فَفِيمَ تَنَازُعُكُمَا وَفِيمَ تَخَاصُمُكُمَا؟
انتم بتتخانقوا على ايه ؟ واحنا في الدنيا بنتخامق على ايه ؟ وبنجري على ايه ؟
أيضًا رُوِيَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَتَى بِإِنَاءِ مَاءٍ لِيَشْرَبَ مِنْهُ فَنَظَرَ إِلَيْهِ وَقَالَ: اللهُ أَعْلَمُ كَمْ فِيكَ مِنْ عَيْلٍ كَحِيلٍ، وَخَدٍّ أَسِيلٍ.
هَارُونُ الرَّشِيدُ -اللى هوه عَصْرُهُ الْعَصْرُ الذَّهَبِيُّ لِلْحَضَارَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ- عِنْدَمَا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ نَقَّى الْكَفَنَ بتاعه بإيده وَبص له وَقَالَ (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَه * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَه)
ابْنُه الَمَأْمُونِ وَهُوَ يَمُوتُ نَامَ عَلَى الْأَرْضِ وَقَالَ: يَا مَنْ لَا يَزُولُ مُلْكَهُ، ارْحَمْ مَنْ قَدْ زَالَ مُلْكَهُ.
* * *
طيب، تَعَالَوا نَبْدَأُ الرِّحْلَةَ مِنْ أَوَّلِهَا، الرِّحْلَةُ إِلَى الْآخِرَةِ، ودي الرحلة اللى كلنا لازم
أَوَّلُ خُطْوَةٍ فِي هَذِهِ الرِّحْلَةِ، هي: سَكَرَاتُ الْمَوْتِ
مَا مَعْنَى سَكْرَةُ الْمَوْتِ؟ سَكْرَةُ الْمَوْتِ أَيْ شِدَّتُهُ، وَسَكَرَاتُ الْمَوْتِ أَيْ شَدَائِدُ الْمَوْتِ، وَلِذَلِكَ عِنْدَمَا يَقُولُ الرَّسُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «إِنَّ لِلْمَوْتِ لَسَكَرَاتٍ» يَعْنِي الْمَوْتُ لَهُ شَدَائِدُ وله كربات
طبعًا سَكَرَاتِ الْمَوْتِ أَوْ شَدَائِدَ الْمَوْتِ غَيْرُ مَعْرُوفَةٍ بِالنِّسْبَةِ لَنَا، اللى بيموت بيشوف إيه، بيسمع إيه، بيحس بإيه، دي حاجة ما نعرفهاش، عشان ما فيش حد مات ورجع قَلنا إيه اللى مر بيه!
إِنَّمَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ تَحَدَّثَ عَنْ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ فِي أَكْثَرِ مِنْ مَوْضِعٍ:
مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى فِي «سُورَةِ ق»
﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾
وَالسُّؤَالُ هُنَا؛ لِمَاذَا تُشَبَّهُ الْحَالَةُ الَّتِي يَكُونُ الْإِنْسَانُ فِيهَا عِنْدَ الْمَوْتِ بِالسُّكْرِ؟ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ عِنْدَمَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ، أَوْ يَتَعَاطَى مُخَدِّرًا –عَافَانَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ- يَحْدُثُ تَغَيُّرُ فِي كِيمْيَاءِ الْمُخِ تُؤَدِّي إِلَى ذَهَابٍ أَوْ تَشْوِيشٍ فِي عَقْلِ الْإِنْسَانِ، وَقَدْ يَفْقِدُ الْوَعْيَ.
نَفْسُ الْحَالَةِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الْإِنْسَانُ قَبْلَ الْمَوْتِ.
الْإِنْسَانُ قَبْلَ الْمَوْتِ يَهْبِطُ ضَغْطُهُ، وَيَقِلُّ الْأُكْسُجِينُ وَالدَّمُ الْوَاصِلُ لِلْمُخِّ، فَتُؤَدِّي إِلَى ذَهَابٍ أَوْ تَشْوِيشٍ فِي عَقْلِ الْإِنْسَانِ، وَقَدْ يَفْقِدُ الْوَعْيَ.
لِذَلِكَ كَانَ هَذَا التَّعْبِيرُ الْقُرْآنِيُّ شَدِيدُ الدِّقَّةِ، حِينَ وَصَفَ شَدَائِدَ الْمَوْتِ بِسَكَرَاتِ الْمَوْتِ
يقول تعالى ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَفِرُّ وَتَهْرُبُ وَتَجْرِي ، كُلٌّ مِنَّا يَتَصَوَّرُ أَنَّ كُلَّ النَّاسِ سَيَمُوتُونَ إِلَّا هُوَ، وَلِذَلِكَ يَقُولُ الرَّسُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «لَا أَرَى يَقِينًا أَشْبَهُ بِالشَّكِ مِنْ يَقِينِ النَّاسِ بِالْمَوْتِ» كُلُّ النَّاسِ مُتَأَكِّدَةٌ تَمَامًا مِنْ أَنَّهَا سَتَموُتُ، وَمَعَ ذَلِكَ تَتَصَرَّفُ كَأَنَّهَا تَشُكُّ فِي هَذِهِ الْحَقِيقَةِ.
* * *
مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُ اللهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ ﴿وَلَوْ تَرَىۤ إِذِ ٱلظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ ٱلْمَوْتِ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ بَاسِطُوۤاْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوۤاْ أَنْفُسَكُمُ﴾
«لَوْ» هُنَا شَرْطِيَّةٌ، وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ فِيهَا اسْمِ شَرْطٍ، وَفِيهَا جَوَابُ شَرْطٍ، كَمَا تَقُولُ: لَوْ جَاءَنِي فُلَانٌ لَأَكْرَمْتُهُ، يَبْقَى جَوَابُ الشَّرْطِ هُنَا قَوْلُكَ «لَأَكْرَمْتُهُ» إِنَّمَا هُنَا الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ لَيْسَ لَهَا جَوَابُ شَرِطٍ، «لَوْ» هُنَا لَيْسَ لَهَا جَوَابٌ، لِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْجَوَابِ يَعْنِي حَصْرُ الْجَوَابِ، واللي احنا بنتكلم عنه، وهو غَمَرَاتُ ٱلْمَوْتِ أَوْ سَكَرَاتُ الْمَوْتِ، لَا يُمْكِنُ لِلَفْظٍ أَنْ يَحْصُرَهُ، فَلِذَلِكَ أَنْتَ تَتْرُكُهُ لِلسَّامِعِ، زي ما يكون واحد -مثلًا- بلطجي، وبعدين وقع في يد الشرطة، فيقول واحد: آهٍ لَوْ رَأَيْتُمْ الْوَلَدَ الْفُتُوَّةَ وَهُوَ فِي يَدِ الشُّرْطَةِ!
فين جَوَابُ الشَّرْطِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ؟ لَيْسَ هُنَاكَ جَوَابُ شَرْطٍ، تُرِكَ الْأَمْرُ لِلسَّامِعِ حَتَّى يَتَّسِعَ الجواب لِمَا يَضِيقُ الْأُسْلُوبُ عَنْ أَدَائِهِ.
فَحِينَ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ﴿وَلَوْ تَرَىۤ إِذِ ٱلظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ ٱلْمَوْتِ﴾ وَلَمْ يَقُلْ مَاذَا تَرَى، كأنه يقول أنه أَمْرٌ لَا يُؤَدِّيهِ اللَّفْظُ.
وَهُنَا وَصَفَ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى «غَمَرَاتِ ٱلْمَوْت» وَالْغَمَرَاتُ: هِيَ الشِّدَّةُ الَّتِي لَا يَسْتَطِيعُ الْإِنْسَانُ مِنْهَا فِكَاكًا وَلَا تَخَلُّصًا.
وَٱلْمَلاۤئِكَةُ بَاسِطُوۤاْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوۤاْ أَنْفُسَكُمُ: أَيْ خَلَّصُوهَا مِنَ الْعَذَابِ إِنْ أَمْكَنَكُمْ.
كَأَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ يَقُولُ لَهُمْ: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ مُتَأَبِّينَ عَلَى اللهِ فِي الْإِيمَانِ بِهِ، وَفِي تَصْدِيقِ رَسُولِهِ، وَفِي أَحْكَامِهِ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى الْآنَ بِقَبْضِ أَرْوَاحِكُمْ، فَهَلْ أَنْتُمْ قَادِرُونَ عَلَى التَّمَرُّدِ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ؟ لَوْ كُنْتُمْ قَادِرُونَ عَلَى ذَلِكَ فَلْيُظْهِرَ كُلٌّ مِنْكُمْ مَهَارَتَهُ فِي التَّأَبِّي عَلَى قَبْضِ رُوحِهِ.
* * *
آيةٌ ثَالِثَةُ تَتَحَدَّثُ عَنْ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ وَهِيَ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقِيَامَةِ ﴿كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ﴾ يَعْنِي إِذَا بَلَغَتِ الرُّوحُ عِظَامَ التَّرَاقِي، وَهِيَ هَذِهِ الْعِظَامُ الْمُحِيطَةُ بِحَلْقِ الْإِنْسَانِ، لِأَنَّ رُوحَ الْإِنْسَانِ تَخْرُجُ مِنْ أَسْفَلِ إِلَى أَعْلَى، يَعْنِي تَبْدَأُ مِنَ الْقَدَمَيْنِ إِلَى السَّاقَيْنِ إِلَى الْبَطْنِ إِلَى الصَّدْرِ حَتَّى تَصِلَ إِلَى عِظَامِ التَّرَاقِي، وَهِيَ الْمَرْحَلَةُ قَبْلَ الْغَرْغَرَةِ، وَقَبْلَ خُرُوجِ الرُّوحِ وَمُفَارَقَتِهَا الْجَسَدِ
﴿وَقِيلَ مَنْ ۜ رَاقٍ﴾ يَعْنِي أَهْلُ الْمَيْتِ يَطْلُبُونَ لَهْ الْأَطِبَّاءَ وَالْمُدَاوِينَ، وَيَقُولُونَ «مَنْ ۜ رَاقٍ» يَعْنِي مَنْ يَشْفِيهِ، وَمَنْ يُقَدِّمُ لَهُ الْعِلَاجَ، وَلَكِنْ لَوْ جاءوا بِكُلِّ أَطِبَّاءِ الْعَالَمِ، بَلْ لَوْ تَحَوَّلَ كُلُّ بَنِي آدَمَ فِي الْأَرْضِ إِلَى أَطِبَّاءَ لَمَا اسْتَطَاعُوا أَنْ يُؤَخِرُوا الْمَوْتَ لَحْظَةً وَاحِدَةً، ولا يزودوا في أنفاسه نفس واحد
وَقِيلَ «مَنْ ۜ رَاقٍ» يَعْنِي مَنْ سَيَرْقَى بِرُوحِهِ إِلَى السَّمَاءِ؟ أَمَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ أَمْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ؟
وَقِيلَ إِنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ مَلَكِ الْمَوْتِ، ذَلِكَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَكْرَهُ أَنْ تَقْرَبَ نَفْسُ الْكَافِرِ وَالْعَاصِي، فَيَقُولُ مَلَكُ الْمَوْتِ: مَنْ ۜ رَاقٍ؟ يَعْنِي مَنْ يَرْقَى بِهَذِهِ النَّفْسِ؟ فَلَا يُجِيبُهُ مِنَ الْمَلَائِكةِ أَحَدٌ، حَتَّى يَقُولَ يَا فُلَانُ –من الملائكة- اصْعَدْ بِهَا، يبقي بالأمر
«وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ» أَيْ أَيْقَنَ أَنَّهُ الْفِرَاقُ، فِرَاقُ الدُّنْيَا وَالْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ، لِأَنَّهُ خلاص عاين الملائكة، سَوَاءً كَانَتْ مَلَائِكَةَ رَحْمَةٍ أَوْ مَلَائِكَةَ عَذَابٍ «وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ» كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ النَّزْعِ، وشدة كربات الموت
* * *
يَقُولُ الْإِمَامُ أَبُو حَامِدِ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ عَنِ الْمَوْتِ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ بَيِنَ يَدَيْ الْعَبْدِ الْمِسْكِينِ كَرْبٌ وَلَا هَوْلٌ وَلَا عَذَابٌ سِوَى سَكَرَاتِ الْمَوْتِ، لَكَانَ جَدِيرًا بَأَنْ يَتَنَغَّصَ عَلَيْهِ عَيْشُهُ، وَيَتَكَدَّرُ عَلَيْهِ سُرُورُهُ، وَيُفَارِقُهُ سَهْوُهُ وَغَفْلَتُهُ.
ويقول: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ كَانَ فِي أَعْظَمِ اللَّذَاتِ وَأَطْيَبِ مَجَالِسِ اللَّهْوِ، فَانْتَظَرَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ جُنْدِيٌ، فَيَضْرِبُهُ خَمْسَ خَشَبَاتٍ، لَتَكَدَّرَتْ عَلَيْهِ لَذَّتُهُ وَفَسَدَ عَلَيْهِ عَيْشُهُ، وَهُوَ فِي كُلِّ نَفَسٍ بِصَدَدِ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ مَلَكُ الْمَوْتِ بِسَكَرَاتِ النَّزْعِ، وَهُوَ عَنْهُ غَافِلٌ
يعنى لو انته قاعد ومتوقع في أي وقت يدخل عليك واحد ويضربك، أكيد حتبقي قاعد قلقان، وأكيد وانته قاعد مش ممكن حتستمتع بأي حاجة في حياتك، حتى لو كانت كل أسباب السعادة بين ايديك
طب ما احنا كده: احنا ممكن في أي لحظة يدخل علينا ملك الموت بسكرات النزع
* * *
احنا قلنا إن سكرات الموت أو شدائد الموت غير معروفة بالنسبة لنا، طب تعالوا نحاول نتخيل سكرات الموت، بالقياس:
إحنا عارفين إِنْ أَيْ عُضْوٍ لَا رُوحُ فِيهِ لَا يَشْعُرُ بِالْأَلَمِ، يَعْنِي لَوْ إِنْسَانٌ مَيِّتٌ مش حيشعر بالألم، وإِذَا كَانَ الْعُضْوُ أَوْ الْإِنْسَانُ فِيهِ رُوح حيشعر بالألم، يبقي المدرك لِلْأَلَمِ هُوَ الرُّوحُ وَلَيْسَ الْجَسَدُ.
طب تخيل معى بقى إِنْ الْأَلَمَ يُبَاشِرُ الرُّوحَ نَفْسَهَا، مش الجسد اللى فيه الروح، فَلَا بُدُّ أَنَّهُ أَلَمٌ عَظِيمٌ، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْأَلَمُ يَسْتَغْرِقُ جَمِيعُ أَجْزَاءِ الرُّوحِ، يبقى الْأَلَمُ أَعْظَمُ.
إِذَنْ فَالنَّزْعُ مُؤْلِمٌ نَزَلَ بِنَفْسِ الرُّوحِ فَاسْتَغْرَقَ جَمِيعُ أَجِزَائِهِ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الرُّوحِ الْمُنْتَشِرِ فِي أَعْمَاقِ الْبَدَنِ أَلَا وَقَدْ حَلَّ بِهِ الْأَلَمُ.
وَلِذَلِكَ فَالْإِنْسَانُ عِنْدَ الْمَوْتِ لَا يَسْتَطِيعُ حَتَّى أَنْ يَصِيحَ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَأَلَمَ فَإِنَّهُ يَصِيحُ لِبَقَاءِ قُوَّةٍ فِي بَدَنِهِ وَلِسَانِهِ، وَلَكِنَّ الْمَيِّتُ يَنْقَطِعُ صَوْتُهُ لِأَنَّ الْأَلَمَ يَبْلُغُ كُلَّ مَوْضِعٍ فِيهِ، فَيَهِدُّ كُلَّ قُوَّةٍ وَيُضْعِفُ كُلَّ جَارِحَةٍ فَلَا يَتْرُكُ لَهُ رفاهية الْاسْتِغَاثَةِ
* * *
النَّبِيُّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْدَمَا تَكَلَّمَ عَنْ أَلَمِ الْمَوْتِ قَالَ "هُوَ قَدْرُ ثَلَاثُمَائَةِ ضَرْبَةٍ بِالسَّيْفِ"
وَسُئِلَ النَّبِيُّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الْمَوْتِ وَشِدَّتِهِ فَقَالَ "إِنَّ أَهْوَنَ الْمَوْتِ بِمَنْزِلَةِ حَسْكَةٍ فِي صُوفٍ، فَهَلْ تَخْرُجُ الْحَسْكَةُ مِنَ الصُّوفِ إِلَّا وَمَعَهَا صَوفًا"
الْحَسْكَةُ ثَمَرَةٌ يُحِيطُ بِهَا الشَّوْكُ، عاملة زي القنفذ، وَلِذَاكَ يَقُولُ جاية منها "الحِسكيكُ" وهو القُنْفُذُ الضَّخْمُ.
وَكَانَ عِيسَى –عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْحَوَارِيينَ، ادْعُوا اللهَ أَنْ يُهَوِّنَ عَلَيَّ هَذِهِ السَّكْرَةِ، فَقَدْ خِفْتُ الْمَوتَ مَخَافَةً أَوْقَفَنِي خَوْفِي مِنَ الْمَوْتِ عَلَى الْمَوْتِ.
يَعْنِي حأموت من كتر خوفي من الموت.
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَسْأَلُ كَعْبَ الْأَحْبَارِ: يَا كَعْبُ، حَدِّثْنَا عَنِ الْمَوْتِ؟ فَقَالَ: نَعْمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنينَ، إِنَّ الْمَوْتَ كَغُصْنٍ كَثِيرُ الشَّوْكِ، أُدْخِلَ فِي جَوْفِ رَجُلٍ وَأَخَذَتْ كُلُّ شَوْكَةٍ بِعِرْقٍ، ثُمَّ جَذَبَهُ رَجُلٌ شَدِيدُ الْجَذ
|