الفصل الثالث
أحداث قبل بعثة النبي –صلى الله عليه وسلم-
((قصة أصحاب الأخدود))
المشهد الأول
تدور أحداث هذه القصة في أوائل القرن الخامس الميلادي، أي قبل بعثة النبي –صلى الله عليه وسلم- بحوالى مائة عام
وتبدأ القصة برجل من أتباع عيسى –عليه السلام- اسمه "فيميون" الراهب، كان يعيش في الجزيرة العربية، وكان رجلًا صالحًا، مجتهدًا في العبادة، زاهدًا في الدنيا، ، وكان يعمل في مهنة البناء، ولا يأكل الا من عمل يده
وكان "فيميون" الراهب مستجاب الدعوة وله كرامات، وكان كلما عُرِّفَ واشتهر بقرية تركها وذهب الى قرية أخري
وأثناء سياحته بالجزيرة العربية، وبينما هو في رحلته من قرية الى قرية أخري، اختطفه مجموعة من الرجال، كما كان الحال في الجزيرة العربية، وباعوه في منطقة يطلق عليها "نجران" وهي الآن في جنوب الجزيرة العربية، في حدود المملكة السعودية مع دولة اليمن
اشتري "فيمون" رجل من وجهاء نجران، فكان "فيمون" اذا جاء الليل قام يصلى، فكان البيت كله يضيء، ورأي سيده هذا فأعجب به وتبعه عل دينه، وبدأ الدين ينتشر بين أهل نجران، حتى وصل الأمر الى مسامع الملك، وكانت نجران عليها ملك اسمه "أبو نواس" وكان ملكًا ظالمًا، يدعي الألوهية، ودائمًا الملوك الذين يدعون الإلهية هم أكثر الملوك ظلمًا وبطشًا وقسوة، مثل النمرود الذي كان في زمن ابراهيم –عليه السلام- ومثل فرعون موسى وغيرهما
وبطش الملك بأتباع الراهب من المؤمنين وقتلهم جميعًا، وهرب "فيمون الراهب" واعتزل في خيمة على أطراف المدينة
منطقة "نجران" في جنوب المملكة السعودية والتي وقعت فيها أحداث قصة "أصحاب الأخدود"
المشهد الثاني
تمر سبع سنوات ليبدأ الفصل الثاني من القصة:
كان لهذا الملك ساحر، يستعين به في أن يصنع أشياء تجعل الناس تصدق أنه اله، فكان مثلًا يسحر أعين الناس فيجعلهم يرون السحاب في السماء يكتب اسم الملك
تقدم العمر بالساحر وخشى أن يندثر علمه، فطلب من الملك أن يدفع اليه غلامًا يعلمه السحر، فدفع اليه غلامًا عمره أربعة عشر عامًا، اسمه "عبد الله بن ثامر" وبدأ هذا الغلام يتردد على الساحر ليعلمه علم السحر
كان الغلام في طريقه كل يوم الى الساحر يمر على الراهب في خيمته، وكان يجلس اليه ويستمع الى حديثه ويعجب بكلامه
وكان الغلام يمر على الراهب في أول النهار قبل أن يذهب الى الساحر، ويمر على الراهب مرة ثانية في آخر النهار بعد أن ينتهي يومه مع الساحر، فكان من شدة تعلقه بالراهب وبكلامه، يجلس معه كثيرًا حتى يتأخر على الساحر، ثم يجلس معه كثيرًا أيضًا وهو في طريق عودته حتى يتأخر على أهله، فكان الساحر يضربه عندما يتأخر عليه، وكان أهله يضربونه عندما يتأخر عليهم
وشكي الغلام للراهب، فقال له الراهب: إذا خشيت الساحر فقل حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر
واستمر الغلام على هذا الأمر فترة من الزمن: وكان لابد له أن يختار أحد طريقين: اما طريق الراهب أو طريق الساحر، وكان يميل بقلبه وعقله للراهب، ولكن كان الراهب وحيدًا مطاردًا، بينما الساحر يمثل الجاه والمال والنفوذ والمستقبل الواعد
وبينما هو في طريقه في أحد الأيام، فاذا بحيوان عظيم يسد الطريق، فقال الغلام في نفسه: "اليوم أعلم أيهما أفضل، الساحر أم الراهب" ثم أخذ حجرا وقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس، ثم رمى الحيوان فقلته، ومضى الناس في طريقهم، فتوجه الغلام للراهب وأخبره بما حدث، فقال له الراهب:
- يا بنى، أنت اليوم أفضل مني، وإنك ستبتلى، فإذا ابتليت فلا تدلّ عليّ
صورة تخيلية للراهب "فيميون" مع الغلام "عبد الله بن ثامر"
ترك الغلام الساحر نهائيًا ولزم الراهب، وبدأت تحدث له كرامات عظيمة، فكان -بأمر الله تعالى- يبريء الأكمه –وهو الذي ولد كفيفًا- ويبريء -بأمر الله تعالى- الأبرص –وهو المرض الجلدي المعروف- ويبريء -بأمر الله تعالى- من جميع الأمراض، حتى انتشر أمره بين الناس، وسمع به أحد جلساء الملك، وكان ابن عمه وصديقه، وكان هذا الرجل قد فقد بصره، فجمع هدايا كثيرة وتوجه الى الغلام، وقال له:
- أعطيك كل هذه الهدايا ان شفيتني
فقال له الغلام:
- أنا لا أشفي أحدا، إنما يشفي الله تعالى، فإن آمنت بالله دعوت الله فشفاك
فآمن جليس الملك، ودعا له الغلام، فشفاه الله تعالى
فذهب جليس الملك، وقعد بجوار الملك كما كان يقعد قبل أن يفقد بصره، فقال له الملك: من ردّ عليك بصرك؟ فأجاب الجليس بثقة المؤمن: ربّي. فغضب الملك وقال: ولك ربّ غيري؟ فأجاب المؤمن دون تردد: ربّي وربّك الله فثار الملك، وأمر بتعذيبه. فلم يزالوا يعذّبونه حتى دلّ على الغلام، فأمر الملك بإحضار الغلام، وكان الملك يعرفه أنه تلميذ الساحر، ثم قال له مخاطبا: يا بني، لقد بلغت من السحر مبلغا عظيما، حتى أصبحت تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل، فقال الغلام: إني لا أشفي أحدا، إنما يشفي الله تعالى، فأمر الملك بتعذيبه، فعذّبوه حتى دلّ على الراهب، فأُحضر الراهب وقيل له: ارجع عن دينك، فأبى الراهب ذلك وجيء بمنشار، ووضع على مفرق رأسه، ثم نُشِرَ حتى مات ووقع نصفين، ثم أحضر جليس الملك، وقيل له: ارجع عن دينك، فأبى فَفُعِلَ به كما فُعِلَ بالراهب، ثم جيء بالغلام وأمر الملك بأخذ الغلام لقمة جبل، وتخييره هناك، فإما أن يترك دينه أو أن يطرحوه من قمة الجبل.
ملاحظة: لم يأمر الملك بقتل الغلام كما فعل مع الراهب وجليسه، لأن الراهب وجليسه لم يكونا معروفان للناس، أما الغلام فقد كان معروفًا، وكان الملك يريد أن يعود عن دينه أمام شعبه، خوفًا من افتتان الشعب به)
فأخذ الجنود الغلام، وصعدوا به الجبل، فدعا الفتى ربه: اللهم اكفنيهم بما شئت، فاهتزّ الجبل وسقط الجنود، ورجع الغلام يمشي إلى الملك، فقال الملك: أين من كان معك؟
فأجاب: كفانيهم الله تعالى.
فأمر الملك جنوده بحمل الغلام في سفينة، والذهاب به لوسط البحر، ثم تخييره هناك بالرجوع عن دينه أو إلقاءه.
فذهبوا به، فدعى الغلام الله: اللهم اكفنيهم بما شئت
فانقلبت بهم السفينة وغرق من كان عليها إلا الغلام
ثم رجع إلى الملك
فسأله الملك: أين من كان معك؟ فأجاب الغلام: كفانيهم الله تعالى
(كل هذا والشعب يراقب، ولكن لا أحد يريد أن يؤمن بالله تعالى وحده، ويترك عبادة الملك، من شدة خوفهم من بطش الملك)
وقرر الفتى أن يضحى بحياته في سبيل أن يؤمن شعبه، فقال للملك: إنك لن تستطيع قتلي حتى تفعل ما آمرك به
فقال الملك: ما هو؟
قال الغلام: تجْمَعُ النَّاس في صَعيدٍ واحدٍ، وتصلُبُني عَلَى جذْعٍ، ثُمَّ خُذ سهْماً مِنْ كنَانتِي، ثُمَّ ضعِ السَّهْمِ في كَبدِ القَوْسِ ثُمَّ قُل: بسْمِ اللَّهِ ربِّ الغُلاَمِ ثُمَّ ارمِنِي، فإنَّكَ إذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتنِي.
فأمر الملك فجُمَع النَّاس في مكان واحِدٍ، وصلب الغلام عَلَى جذْعٍ، ثُمَّ أَخَذَ سهْماً منْ كنَانَتِهِ، ثُمَّ وضَعَ السَّهمَ في كبِدِ القَوْسِ، ثُمَّ قَالَ : بِسْم اللَّهِ رَبِّ الغُلامِ، ثُمَّ رمَاهُ فَوقَعَ السَّهمُ في صُدْغِهِ، (الصدغ هو الذي ما بين العين والأذن) فَوضَعَ يدَهُ في صُدْغِهِ فمَاتَ . فصرخ النَّاسُ : آمَنَّا بِرَبِّ الغُلاَمِ
وهكذا آمن عدد كبير جدًا من الناس، عددهم عشرون ألف
فأمر الملك بحفر الأخاديد، والأخدود في اللغة هو الحفرة المستطيلة، يعنى "خندق" حفرت الأخاديد أو الخنادق وأشعل فيها النيران، وأمر جنوده بتخيير المؤمنين: اما الرجوع عن الايمان بالله تعالى وحده أو الإلقاء في النار، فاختار كل المؤمنون الإلقاء في النار، ورفضوا العودة الى الكفر وعبادة هذا الملك الظالم
وكان ممن ألقي في النار امرأة تحمل طفل رضيع، فخافت أن تُرمى في النار، فأنطق الله تعالى الطفل وقال لها: . يا أمّاه اصبري فإنك على الحق، فكان أحد أربعة تحدثوا وهم في المهد
صورة حقيقية لمدينة "الأخدود" الأثرية في جنوب المملكة السعودية
يقول تعالى في سورة البروج
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ: قسم بالسماء، وبالكون كله وما فيه من نجوم عظيمة وكواكب وأجرام
وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ: قسم باليوم الموعود وهو "يوم القيامة"
وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ
ثم يأتي جواب القسم ((قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ)) و " قُتِلَ" أشد من اللعن وأشد من الهلاك
النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ
إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ، أي قعود على حواف الأخاديد يستمتعون بمشاهد تعذيب وحرق المؤمنين
وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُود، أي شهود على أنفسهم، لأنهم هم الذين سيشهدون على أنفسهم يوم القيامة
وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِالْحَمِيد
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
الله تعالى شَهِيدٌ على كل شيء، يري كل شيء
وانظر كم مرة تكررت في السورة لفظ الشهادة
آثار من مدينة الأخدود
المشهد الثالث
لم ينج من هذه المذبحة البشعة من المؤمنين الا واحد فقط،استطاع أن يهرب وينجو بنفسه، واتجه الى روما مباشرة، وقابل القيصر وقص عليه كل ما حدث، وكان قيصر وروما على النصرانية، فغضب قيصر غضبً شديدًا ولكن كان يعلم أنه لا يستطيع أن يحرك جيشًا الى جنوب الجزيرة العربية، وذو نواس أيضًا كان يعلم هذا، ولذلك تجرأ على ما فعله بالمؤمنين من النصاري
ولكن كانت الحبشة في ذلك الوقت على النصرانية وتابعة للإمبراطورية الرومانية، فأرسل قيصر مع هذا الرجل رسالة الى النجاشي ملك الحبشة، والنجاشي هو لقب أي ملك يحكم الحبشة، مثل فرعون لقب من يحكم مصر، وقيصر لقب من يحكم الدولة الرومانية، وكسري لقب من يحكم الإمبراطورية الفارسية، أرسل قيصر رسالة مع هذا الرجل الى النجاشي ملك الحبشة يأمره بأن يتحرك الى أرض نجران وينتقم لما حدث للنصاري هناك، وتحرك الجيش بالفعل تحت قيادة رجل اسمه "أرياض" وكان من قادة الجيش رجل طموح اسمه "أبرهة" الذي سيحاول بعد ذلك هدم الكعبة
حدث القتال بين جيش الحبشة تحت قيادة "أرياض" وجيش نجران تحت قيادة "أبو نواس" وانهزم الأخير ثم طارده جيش الحبشة فدخل بفرسه في البحر ومات
وأصبحت منطقة نجران واليمن تابعة للحبشة، والتى هي تابعة بدورها للإمبراطورية الرومانية، وأصبح "أرياط" هو حاكم اليمن أو والى النجاشي في اليمن، وكان ذلك في عام 525 م أي قبل البعثة بحوالى 100 سنة ، وظل "أرياط" حاكمًا على اليمن حتى قتله بعد ذلك "أبرهة الأشرم" وهو كما قلنا كان أحد قادة الجيش، ويصبح "أبرهة الأشرم" حاكم اليمن حتى حاول بعد ذلك أن يهدم الكعبة في قصة أخري
المهم أن الديانة المسيحية انتشرت في اليمن، وأصبحت هي ديانة هذه المنطقة، وهي منطقة نجران واليمن
************
انتهت القصة، وانتصر الغلام والراهب، وانهزم الملك الظالم وجنوده، وكل الذين رفضوا الإيمان
هذه القصة برغم ما فيها من عبر عظيمة جدًا ودروس، ولكن نحن نذكرها ونحن نتحدث عن السيرة لأنها أولًا من أهم الأحداث قبل بعثة النبي –صلى الله عليه وسلم- وثانيًا حتى نعرف كيف دخلت النصرانية الجزيرة العربية، ونحن نتحدث عن شكل الجزيرة وقت بعثة النبي –صلى الله عليه وسلم- ولأنه سيأتي بعد ذلك وفد من نصاري نجران لمقابلة الرسول –صلى الله عليه وسلم- في المدينة بعد الهجرة
|